تحت الدف ( 17 ) الرجل الذي نبتت المسامير في صفحة كرسيه
حدثنا أبو الغرائب عن أبي العجائب أن مسئولا كبيرا كِبَرَ كرسيه الإسفنجي ، وقف يوما بباب مكتبه متصفحا إحدى الجرائد اليومية غير منتبه ليد العون التي كانت تمد إليه فنجان القهوة، خطا خطوتين إلى الأمام في حين خطا العون أربع خطوات حتى يتمكن من استباقه إلى المنضدة التي زينت بملفات مختلفة الحجم والألوان . أنزل العون فنجان القهوة ثم مرر يده على صفحة الكرسي ليزيل ما بها من شوائب . رمقه المسئول وأمره بالخروج فورا مخافة اكتشاف مشتل المسامير التي كان إسفنج الكرسي محشوا بها . خرج العون لتوه وهو يتألم من تشنج ذراعه الذي ظل لمدة طويلة وهو يحمل فنجان القهوة ، كما دب ألم سريع في كفه لم يعرف سره ، ولما أراد التحقق اكتشف أن كفه تسيل دما ، تذكر أنه لما وضع يده على كرسي المسئول شعر بشيء يشبه لسعة البرق ، ولكنه لم يهتم مقنعا نفسه أن هذه الكراسي ليست من طينة كراسي العامة ، فهو قد ألف أن يصادف على صفحة كرسيه بقايا مرق أو فتات خبز أو حتى أشياء لزجة يجهل أصلها وفصلها .. تأمل كفه مرة ثانية وقرر أن يعود إلى المكتب على الأقل لمعرفة ماذا تكون كفه قد فعلت بمزلاج الباب .
اندهش كثيرا لما وقعت عيناه على قطرات دم صدئة ملتصقة بأرضية المكتب مشكلة خطا متقاطعا يمتد من كرسي المسئول إلى قاعة الانتظار التي طالما انتظر فيها » الكليان » كما اعتاد أن يسميهم ، واندهش كثيرا لما رأى المسئول يطل من النافذة على الشارع والكرسي محكم الربط على مؤخرته . طل العون من نافذة أخرى لمعرفة ما يجري حتى يقدم تقريره اليومي بكل نزاهة وموضوعية وغنى في المعلومات التي يسأله عنها المسئول يوميا . توزع نظر العون على رجال كانوا تجرون في الشارع وهم يحملون كراسي مختلفة الأشكال والأحجام والألوان . كان بعضهم يقوم بتلوين كرسيه بين دقيقة وأخرى وبعضهم غطى جسده كله بالكراسي ، وبعضهم تحول إلى كرسي . بقي العون لمدة طويلة وهو يحاول أن يجد بداية ملائمة لتقريره لكن لم يوفق في ذلك نظرا لأن الشارع امتلأ كله بالكراسي لدرجة أن بعضهم فضل أن يثبت كرسيه على الأشجار وآخرون اختاروا أعمدة الكهرباء . حول العون نظره نحو المسئول فوجده يتحسس كرسيه المعلق بمؤخرته فبدأ يفهم سر الفيروس الذي انتشر بين القوم فدعا بصوت منخفض » اللهم نجنا من فيروس الطيور والخنزير والكراسي » ثم انتقل إلى نافذة أخرى حيث أطل على جماعة من الناس تحمل مسامير ومطارق كبيرة فازداد تقريره تعقيدا تطلب منه الانتظار لما يفوق الساعتين حيث التقى أصحاب المطارق والمسامير بأصحاب الكراسي واشتعلت أسعار السوق والمضاربات حيث بيع المسمار الواحد بمائتي درهم واكتريت المطرقة الواحدة ولمدة دقيقتين بخمس مائة درهم .
زاد التهافت على شراء المسامير واكتراء المطارق ورسا المزاد على من كان يملك مالا وجهلا كثيرين . وبدأ بعض أصحاب الكراسي المعوزين يبيعون كراسيهم بمساميرها مقابل ألف درهم للسنتمتر المربع لكل كرسي ذي واجهة واحدة أما ذو الواجهتين فقد وصل ثمنه إلى خمسة آلاف درهم للملمتر الواحد حسب ما قاله فضولي محنك في السمسرة . فكر العون في أن يغتنم الفرصة ويسرق كرسي المسئول ويبيعه مقابل قطعة أرضية يبني فوقها منزلا متواضعا يمكنه على الأقل من كتابة تقريره اليومي بشكل مريح . فكر كثيرا قبل أن يغامر وقرر أن يدفع المسئول من الوراء غفلة ويمسك بالكرسي ويكون بذلك قد ضرب عصفورين بحجرة ، سقوط المسئول وكسب الكرسي . بحث عن حبل متين وتحزم به جيدا وربط طرفه بأحد أرجل الكرسي ، كل هذا في غفلة من المسئول الذي كان يتابع مزاد الكراسي الإسفنجية وهو يردح من كثرة الضحك . وفي لحظة الحزم الأخير دفع العون بالمسئول حتى هوى من النافذة والكرسي معلق بمؤخرته يتبعه العون بعد أن التف الحفل حول رقبته جاعلا المسافة جد قريبة بين رأس العون والكرسي . انتبه أحد باعة الكراسي واستنفر الآخرين لنجدة المسئول خوفا من تكسر الكرسي . حمد هواة الكراسي الإسفنجية الله على صحة وسلامة كرسي المسئول بعد أن تحلق حوله الفضوليون والسماسرة وتجار الخردة وعشاق البصبصة ولما أرادوا إزاحة العون الذي انغرس رأسه في إسفنج الكرسي تعذر الأمر واقترح عليهم أحد الفضوليين في الشئون الصحية إحالة الوضع على المستشفى .
تأمل كبير الأطباء الحالة المعروضة وقرر في الأخير الاستعانة بجزار ونجار العيادة لأن الأمر يستدعي أولا فصل رأس العون عن الكرسي وثانيا سل المسامير التي انغرست في مؤخرة المسئول . فصل رأس العون ولكن استعصى سل المسامير رغم المحاولات المستمرة مما جعل كبير الأطباء يأمر بإدخال المسئول إلى غرفة العمليات عاجلا .شغلت الآلات والمصابيح الكهربائية في عجلة وفتحت بطن المسئول وخرجت منها كراسي صغيرة متنوعة الأشكال والألوان وفي لحظة حيرة واندهاش سمعت قهقهة مدوية لكبير الأطباء لما اكتشف عروقا اصطناعية ثبتت بطرف قلب المسئول ولما تتبعها وجدها ملتصقة بالكرسي . وفي رواية فضولي خبير في قال إنهم وجدوا بداخله مغناطيسا كبيرا كان يشد إليه الكرسي بإحكام . ظل الدم يسيل من كف العون والمسئول غارق في ثنايا الجريدة وأمامه عشرات الملفات الغارقة في النسيان وفي لحظة جنونية نادى على العون بكل ما يملك من صوت . دخل العون خائفا مرتعدا بعد أن أدرك أن المسئول قد عاودته تلك النوبة الجنونية التي تأتيه كلما علم أن المسئولين الكبار بصدد تغيير أو تنحية أو إسناد مناصب جديدة أو قديمة .. لاحظ المسئول ارتعاش العون وطمأنه أن ما حصل وما سيحصل كله خير إن شاء الله وطلب منه الجلوس . جلس العون جلسة مرتبكة مكتفيا برقعة جد صغيرة من الكرسي في حين كان المسئول هادئا مستريحا في جلسته سامحا لرجليه أن تتمددا بالقدر الذي كادت فيه أرجل الكرسي أن تنفرج وتسقط ما عليها من لحم منتفخ انتفاخ الكرسي الإسفنجي .. وبعد أن اطمأن على صحة وأولاد العون طلب منه أن يشير عليه برأي يمكنه من البقاء في منصبه .. يتبع مع فضول آخر
محمد حامدي




Aucun commentaire