محاگمة سقراط بين الفلسفة والسياسة

أثارت محاكمة سقراط جدالا واسعا لا زال مستمرا إلى يومنا هذا. وهذا راجع إلى مكانته المتميزة على الساحة الفلسفية والفكرية. غير أن محمد كريم يحاول في هذا المقال أن يستقرأ من خلال هذه المحاكمة مشكلة الوعي الذي يستطيع أن يحصله الإنسان عند ذاته وعن علاقاته بالآخر وموقعه داخل العالم
ليس من شك في أن الفيلسوف اليوناني سقراط يعد واحدا من الفلاسفة الذين أثاروا من الإعجاب والعداوة في آن واحد ما لا يتفق إلا للرجال الممتازين، وأن أثره كان من القوة بحيث إن اسمه يشطر الفلسفة اليونانية شطرين : ما قبله وما بعده. وهناك إجماع بين مؤرخي ودارسي الفلسفة على أن سقراط يعتبر نموذجا ممتازا للفيلسوف الوجودي لأنه عبر بحياته الخاصة عن ذلك الارتباط العميق بين الفلسفة والحياة. فهو يمثل الصورة العليا للفيلسوف، وفي هذا السياق نفهم ما قصده "كير كيجارد"، في رسالته حول مفهوم التهكم، حينما اعتبر سقراط نقطة استدلال ونقطة تحول في مجرى تاريخ الفلسفة، وأنه هو الذي أوقف هذا المجرى عندما افتتح عصرا جديدا ارتد فيه وعي الإنسان إلى نفسه لأول مرة، أما هيجل فيعتبره ثوريا في مجال الأخلاق، إذ يمثل المنعطف الرئيسي للفكر في داخليته. هناك ميزة خاصة انفرد بها سقراط، وهي أنه لم يكتب شيئا، لكن كتب عنه الكثير، ففي الخميسنيات من القرن الماضي تبين أن هناك أكثر من ستمائة عمل نقدي وأكاديمي حول ما اتفق على تسميته «المسألة السقراطية» ومن الصعب الجزم هل لذلك صلة بشخصية سقراط، أم أن ذلك راجع إلى كون اليونانيين كانوا يحذرون من المكتوب؟ (تجدر الإشارة هنا إلى أن سقراط أثناء محاكمته، استلم دفاعا مكتوبا، لكنه رفض استخدامه). كذلك، يُعرف عن سقراط أنه لم يؤسس مدرسة كما فعل أفلاطون وأرسطو، لأن طريقته في البحث لم تكن تتلاءم مع تقاليد إنشاء مدرسة، حيث يكون إلقاء الأفكار فيه نوع من التبعية للمعلم، في حين كان سقراط فيلسوفا متجولا، يسأل الناس في الأماكن العامة. من المناسب الآن أن ننظر في محاكمة سقراط في ظل الوضع الديمقراطي الذي عرفته اليونان، حيث تبدو هذه المحاكمة متناقضة مع إعلان العفو العام السائد، ومع طبيعة المبدأ الديمقراطي الأثيني الذي يقضي باحترام حرية الرأي والفكر… هذه المحاكمة التي خلدها أفلاطون في عدد من محاوراته، وخاصة محاورة «الدفاع» مما جعلها من أشهر المحاكمات في التاريخ. ومن المعروف أن أفلاطون حاول استغلال هذه المحاكمة للنيل من الديمقراطية اليونانية وبيان قصور نظامها القضائي، وقد أثرت الصورة التي رسمها أفلاطون بصفة خاصة على كثير من الكتاب والمفكرين إلى يومنا هذا في اتهام النظام القضائي في الديمقراطية الأثينية بالظلم وعدم احترام حرية الفكر.. نعرف من أفلاطون أقرب المقربين إلى سقراط أن المسؤولين عن اتهام الأخير كانوا ثلاثة : "أنيتوس" Anythos، وهو يمثل رجال الصناعة والسياسيين، و"ميلتوس" Melotos وهو يمثل الشعراء، و"ليكون" Lykon ويمثل الخطباء، وأن تحديد أدوارهم بهذا الشكل، يشعرنا بخطورة الموقف، مما يعني أن الخصومة أو العداوة ضد سقراط ذات طابع عام وليست شخصية بأي حال، وهنا نتساءل ما هو الإثم الذي يمكن أن يرتكبه فيلسوفنا ليثير ضده الحكومة الديمقراطية الجديدة التي أخذت بمبدأ التسامح على نحو ما ذكرنا سابقا؟ من المعروف أن صك الاتهام، الذي على أساسه حوكم سقراط، يتضمن عدة تهم أهمها أن سقراط لا يؤمن بآلهة المدينة، وأنه يدعو لآلهة جديدة، أما الاتهام الآخر فيشير إلى إفساد شباب المدينة. وفي رد سقراط على الاتهامين معا، فإنه أنكر اتهامه بعدم الإيمان بالآلهة إنكارا مطلقا أكثر من مرة. أما الاتهام الثاني فنجده يتناوله على أنه متعلق بنظريته التي مفادها أن الفضيلة والحكمة هما سبيل الرقي البشري وأنه يعلم ذلك للشباب. ثمة أسئلة تطرح بصدد هذه المحاكمة إن كانت فعلا حول الدين وخطورة الموقف الفلسفي الذي تبناه سقراط أم أن أعضاء المحكمة الشعبية وعددهم 501 عضو والذين اختيروا بالقرعة من عامة الشعب لم يكونوا من الثقافة والفهم بالقدر الذي يمكنهم من استيعاب كلام سقراط حول الفضيلة والخير والقانون… (وهذه المسألة في غاية الأهمية بالنسبة لطبيعة النظام الديمقراطي في أثنيا، وهنا لا بد من الرجوع إلى أفلاطون، وأرسطو للوقوف على مؤاخذتهما على الديمقراطية كما مورست عند اليونان) أم أن هذه المحاكمة كانت سياسية وتم تغليفها بالدين والفلسفة حتى تكون حافزا وتثير الجماهير التي غالبا ما يثيرها العنصر الديني، وحتى لا يفسر الاتهام بأنه مخالف لمبدأ العفو العام، وعدم إثارة خلافات سياسية قد تعصف بالديمقراطية…؟ لقد قيل لسقراط، عند اقتراب يوم المحاكمة: «ألا تعد دفاعك وتعنى بإعداده؟» فرد سقراط متجاهلا : «وماذا كنت أفعل إذن طوال حياتي؟ ما أظنني كنت أفعل شئا إلا إعداد ذلك الدفاع..!» إن مشروعية الأسئلة السابقة تؤكدها وقائع ثابتة ومؤكدة، وهي أن سقراط كان مواطنا بالمعنى الإغريقي للكلمة، كما عرف عنه أنه كان رجلا صادقا مع نفسه، ولذلك كان أمينا مع نفسه حين قرر أنه لا يستطيع ممارسة السياسة في ظل النظام الديمقراطي السائد، والذي لم يقتنع بطرق ممارسته، وهذا ما عبر عنه صراحة في المحاكمة على النحو التالي: «يجب أن تعلموا، أيها الأثينيون، لو أني كنت حاولت الاشتراك في شؤون الدولة، لكنت هلكت منذ زمن طويل، دون تحقيق أي مصلحة لكم أو لنفسي…، ليس هناك أي إنسان يمكنه أن يبقى آمنا، إذا عارضكم بأمان وصدق، وحاول منع وقوع تجاوزات كثيرة يمكن أن تحدث في الدولة، ضد العدل والقانون. لذلك يجب على من يريد أن يصارع من أجل الحق، إذا رغب أن يكون آمنا ولو لفترة قصيرة من الزمن، أن يحيا حياته الخاصة بعيدا عن معترك السياسة.» قد يتعب المرء في تعداد الأوصاف التي وصف بها سقراط، فالبعض اعتبره قديسا، وهناك من وصفه بـ"المعضلة" و
كلمة سر، وفولتير اعتبره فيلسوفا دراميا. لقد بدا سقراط أثناء محاكمته، أنه مغتبط بالموت، وأنه لا يعتبره شرا، بل يرى فيه الخير كل الخير، سواء افترضناه سباتا أبديا، أم بعثا لحياة جديدة، وهذا ما دفع الكثيرين إلى تفسير تقبل سقراط لقرار الإعدام، وتمسكه بالبقاء في أثنيا- لأن مغادرتها يعني مخالفة قوانينها- على الطريقة الرواقية، أو على غرار البوذيين الذين عرف عنهم تضحيتهم بأنفسهم بعظمة لإثبات عدالة قضيتهم. أما الفيلسوف الفرنسي "ميشال فوكو"، فيرى أن سقراط كان ضحية للحقيقة، باعتبار أن قول الحقيقة يتطلب نوعا من الشجاعة، والقدرة، لما تثيره معرفة الحقيقة من نتائج وخيمة على قائلها، قد تؤدي به إلى الموت. والحقيقة هنا، مرتبطة بالالتزام والمخاطرة بكل شيء في سبيلها. إنها الحقيقة في أعلى درجات صورها La vérité par exellence، هنا فقط يصبح الموت كخاتمة فذة ونهاية مجيدة تكمل صورة الفيلسوف. (تجدر الإشارة إلى أن الموت عند "هوميروس"، وسائر التراجيديا اليونانية، كان تحقيقا للمصير، واكتمالا Accomplissement للحياة..) والموت، بهذا المعنى، هو الذي يخلع على حياة مثل هؤلاء العظماء طابع الجدية والخطورة، ويجعلهم يتقبلونه باطمئنان وشجاعة، هذا ما قاله سقراط بعد صدور حكم الإعدام عليه: «أما إذا حكم علي بالإعدام لعجزي عن الخطابة أو التملق، فأنا متأكد من أنكم ستجدونني أستقبل الموت هادئا مطمئنا..» لقد كان سقراط مقتنعا بأن على الإنسان أن يعود إلى ذاته، ويبحث داخل نفسه عن غايات لأفعاله، وللعالم في وقت واحد، وهنا نتساءل: ألا يضعنا المبدأ السقراطي الشهير :«أيها الإنسان، اعرف نفسك بنفسك»- الذي قرأه في معبد دلف- في قلب أكبر وأخطر مشكلة فلسفية، ألا وهي مشكلة الوعي الذي يستطيع أن يحصله الإنسان عن ذاته وعن علاقاته بالآخر وموقعه داخل العالم…؟!
محمد كريم
اعتمد الكاتب في مقاله هذا على المراجع التالية: Platon : Apologie de socrate-Trad. et Notes par : E CAmbry GEP.
– André cresson: Socrate. PUF. 1962
– François chatelet : De platon à St thomas: Collection Marabout Tom. 1.1979
– إمام عبد الفتاح إمام : مفهوم التهكم عند كير كيجار جامعة الكويت 1983
– محمد سبيلا وعبد السلام بن عبد العالي : الحقيقة إعداد وترجمة – دار توبقال – ضمن دفاتر فلسفية.
الاحدات المغربية
2 Comments
اعتقد ان الكاتب اشار الى نقطة مهمة حيت قال ان محاكمة سقراط جدالا واسعا لا زال مستمرا إلى يومنا هذا لان سقراط قفز قزة كبيرة في عصره لانه خالفة الدين واخرج كل مااعتقده لشباب حيت كان يقنع الشباب بسرعة كبيرة وهدا امربالغ الاهمية
محاكمة سقراط