قنبلة الدقيق التي هزت أركان البرلمان!

خلال جلسة مناقشة مشروع قانون المالية برسم سنة 2026 التي انعقدت بمجلس النواب يوم الثلاثاء 28 أكتوبر 2025، أبى « أحمد التويزي » رئيس فريق حزب « الأصالة والمعاصرة » إلا أن يفجر قنبلة سياسية مدوية أمام لجنة المالية والتنمية الاقتصادية بحضور وزيرة الاقتصاد والمالية نادية فتاح علوي والوزير المنتدب المكلف بالميزانية فوزي لقجع، اهتزت على إثرها أركان المؤسسة التشريعية وعم الرعب قلوب المواطنين. وتتمثل في ادعائه بوجود ممارسات مشبوهة داخل بعض مطاحن الحبوب، التي تستغل غياب المراقبة الصارمة وتقوم بطحن الورق مع الدقيق المدعم، مما أثار جدلا واسعا وموجة من الانتقادات الموجهة للحكومة، خاصة أن الأمر يتعلق بالأمن الغذائي الوطني ويهم صحة وسلامة المواطنات والموطنين وأبنائهم.
ذلك أن البرلماني السالف الذكر تساءل في معرض مداخلته عن جدوى استمرار دعم القمح، الذي يكلف ميزانية الدولة قرابة 16 مليار درهم سنويا، في الوقت الذي أصبح فيه الدقيق المدعم غير صالح للاستهلاك الآدمي في بعض المناطق، متعهدا بإحضار عينة منه أمام مجلس النواب، داعيا الحكومة إلى اتخاذ إجراءات ردعية ضد المتورطين في هذه التجاوزات الخطيرة؟ كما لم يفته التشديد على ضرورة إعادة توجيه الدعم عبر السجل الاجتماعي الموحد، حتى يمكن ضمان وصوله المباشر إلى الأسر المستهدفة، بدل أن يستمر بعض الأثرياء والبرلمانيين والمهندسين وغيرهم في الاستفادة من نظام الدعم الحالي أكثر من الفقراء، مقترحا في نفس الوقت تحويل الدعم إلى مساعدات مالية مباشرة تتجاوز 500 درهم شهريا لكل أسرة فقيرة، لتتمكن من شراء الخبز بثمنه الحقيقي دون الحاجة إلى دعم الدقيق.
وهي التصريحات التي أثارت حفيظة الكثيرين وخلفت ردود فعل واسعة في المجتمع وعلى منصات التواصل الاجتماعي، مما أدى بالمكتب الوطني للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية « أونسا » إلى الدخول على الخط والكشف عن مجموعة من المعطيات الدقيقة حول نتائج مراقبة جودة الدقيق المعروض في الأسواق المغربية، مؤكدا أن عمله « يخضع لبرامج تفتيش وتحليل صارمة ومنتظمة ».
إذ أنه فضلا عما أثارته هذه التصريحات من قلق واستياء عميقين في أوساط المواطنين، الذين لم يتأخروا في التعبير عن خشيتهم من أن يكون ما يتناولونه من خبز مضرا بصحتهم وصحة أطفالهم، اعتبرت عدة فعاليات سياسية وتنظيمات حقوقية، ولاسيما تلك التي تهتم بحماية المستهلك والدفاع عن حقوق الإنسان، أن ما ورد على لسان البرلماني « البامي » أحمد التويزي عن قيام شركات بطحن الورق وتقديمه للفقراء على أساس أنه دقيق مدعم، يستدعي تدخل النيابة العامة وفتح تحقيق رسمي عاجل بحضور الفاعل السياسي المعني بهذه التصريحات الخطيرة، لأن هذه الممارسات الدنيئة تمس في العمق ليس فقط سلامة المواطن والأمن الغذائي الوطني، بل كذلك كرامة الإنسان وجوهر العدالة الاجتماعية.
فيما نفى رئيس الفيدرالية الوطنية للمطاحن « عبد القادر العلوي » ما أدلى به البرلماني أحمد التويزي من أقوال مجانبة للصواب، مؤكدا أن الادعاء بكون المطاحن تطحن الورق مع الدقيق يعد « أمرا غير منطقي ومجاف للواقع »، بالإضافة إلى أن الرقم المشار إليه 16,8 مليار درهم هو أيضا « ادعاء خاطئ » وعار من الصحة، حيث أنه يعادل 60 مليون قنطار من القمح، وهي كمية تكفي لتزويد المغاربة بالخبز لأكثر من 15 شهر. وزاد موضحا بأن المطاحن لا تستفيد من الدعم الغذائي، إذ يوجه للمستوردين قصد تغطية الفارق، فيما يرضخ الدقيق المدعم لرقابة صارمة تشرف عليها ثلاث وزارات، رافضا هكذا مغالطات تسيء لقطاع استراتيجي يساهم في استقرار الأسعار وضمان الأمن الغذائي.
واستجابة للأصوات الاستنكار والتنديد، التي نادت وتنادي بضرورة تحرك النيابة العامة للبث في هذه الفضيحة الأخلاقية الصادمة، بادر الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بالرباط إلى إصدار أمر عاجل بفتح بحث معمق في شأن « إقدام بعض الشركات على طحن الورق مع الدقيق وتوجيهه للمواطنين »
لكن المثير للاستغراب هو تراجع ذات البرلماني عن تصريحاته في محاولة التملص من المسؤولية، معتبرا أن ما استعمله من عبارات لم يكن يقصد منها ما ذهبت إليه الصحافة من تأويلات، بل كانت مجرد تعبير مجازي ومتداول بكثرة في اللهجة المغربية. وأن المقصود من تصريحاته هو ما يحدث من تلاعب في الوثائق والفواتير المقدمة للمصالح المختصة بغرض الاستيلاء على الدعم العمومي. مبديا تأسفه على تحريف أقواله واستغلالها من لدن بعض الجهات الباحثة عن الإثارة و »البوز » على حساب المصلحة العامة، ومشددا على أنه أراد فقط « لفت الانتباه الحكومة الحالية والتي ستأتي بعدها، إلى ضرورة مراقبة جودة الدقيق المدعم وكميات الإنتاج المصرح بها وآليات صرف الدعم العمومي.
وإذ نثمن عاليا ترحيب البرلماني أحمد التويزي بقرار النيابة العامة، القاضي بفتح تحقيق حول تصريحاته بخصوص « طحن الورق مع الدقيق »، واستعداده التام للكشف عن الحقيقة بجميع تفاصيلها للرأي العام الوطني حول ما يشوب الدقيق المدعم من اختلالات تقدر بملايير الدراهم سنويا، فإننا ندعو الجهات المسؤولة إلى القيام بواجبها في إنارة الرأي العام من أجل تبديد قلق ومخاوف المواطنات والمواطنين، الذين لم يعد لديهم مقدار حبة خرذل من الصبر على تحمل المزيد من الأخبار الصادمة عن استشراء مختلف أشكال الغش والفساد في كافة أرجاء البلاد.
اسماعيل الحلوتي





Aucun commentaire