الصحافي والشاعر والكاتب مصطفى قشنني وعلاقته باسواق باب سيدي عبد الوهاب ـ اخبار الأدب

ضمن العدد ما قبل الأخير من مجلة « أخبار الأدب المصرية.. ملف ممتاز
حول علاقة الكتاب والمبدعين بالأسواق . وقد اختارت المجلة المصرية المذكورة من المغرب الشاعر مصطفى قشنني للإدلاء بعلاقته بأسواق باب سيدي عبد الوهاب بوجدة
الأسواق كلها إبداع
لا أتذكر علاقتي المتشابكة بالأسواق، إلا من خلال ما توحي إلي به من وشائج وجدانية، وثقافية وإبداعية.. الأسواق الحلم والخيال والواقع وما تراكم حولها وفيها من جلبة الهواجس والتوقعات، الأسواق ذاكرة محشوة بحكايات ومرويات تعانق الخيال حد التخوم..
الأسواق الموشومة في ذاكرتي كثيرة، فكل مدينة هي سوق كبير أتحسس نفسي فيه في حضرة ميتا فيزيقا الاشياء وانطولوجيا الحياة.. الأسواق دفق المجاز، وخفة الهواجس حيث أجد الطريق إلى ذاتي وإلى ما أريد. وتبقى أسواق -مدينتي- باب سيدي عبد الوهاب من أهم معالم المدينة الألفية مدينة وجدة -التي تقع على مرمى برتقالة أو برتقالتين من الحدود المغربية الجزائرية- فقد سُميت البوابة قديما « باب الرؤوس » لأنها كانت تُعلق وتسْحل على أعمدة جدرانها رؤوس المارقين أو المعتدين، أو المتعاونين مع أزلام الإستعمار الفرنسي الغاشم.
كما حدث في بداية القرن الماضي حيث عُلقت رؤوس أتباع المسمى « بوحمارة » الثائر على النظام والسلطان المخزني وقتئذ..
هذه البوابة هي محج القلب والنفس والهوى، وهي من تشييد الوالي الصالح سيدي عبد الوهاب أحد أعلام المتصوفة الوجديين، وضريحه قائم داخل أسوار المدينة العتيقة، حيث يزوره الكثير من مريديه وإلى الآن… والساحة المحاذية للبوابة هي فضاء فسيح شبيه بساحة اسراغنة بالدار البيضاء (العاصمة الاقتصادية للمغرب) أو بساحة جامع الفنا بمراكش: الساحة الشهيرة التي كانت محل إلهام وخيال لكبار المبدعين والفنانين العالميين، أو السوق الداخلي بطنجة الذي كان محل إلهام للروائي المغربي محمد شكري صاحب « الخبز الحافي »… أسواق ساحة باب سيدي عبد الوهاب فضاء رحب مثل ذلك النهر المتجدد بالجريان والحياة، تحفه دكاكين وأكشاك وأفرشة تعرض مختلف البضائع والمنتوجات المحلية والمستوردة التي تستهوي الزبائن والزوار، الساحة تمتلئ عن آخرها بالحشود البشرية المتدفقة عليها من كل حذب وصوب، خاصة في آخر الأسبوع أو خلال المناسبات الدينية على وجه الخصوص… الجلبة في كل اتجاه وزعيق الباعة وصراخ الناس وضجيج الحياة يعم الآفاق… أعيد عقارب الذاكرة لعقود قريبة مضت، لأتذكر كيف كانت الساحة فضاء للفرجة، تعج بشخصيات فنية شبه أسطورية تأثت الساحة بحلقاتها الفنية والحكواتية الرائعة. أتذكر أهرام الأغنية البدوية أمثال: أحمد الوكيلي وأحمد لييو وعبد الله المكانة وغيرهم كثير… أتذكر « بوجمعة البوكسور » الذي كانت تلتقي في فضاء حلقته جيوش عرمرة من الشباب والشيوخ لمتابعة مباريات مشوقة في الملاكمة يكون أبطالها من رواد الحلقة نفسها، وحين كان يتوج أحدهم بالنصر على غريمه.. كان يعده « السي بوجمعة » ساخرا ومتهكما غدا سيُجرى معك حوارا مباشرا عبر شاشة التلفزيون.. أو يمازح الآخر وأنت سيضعون صورتك على علبة الخميرة أو الكبريت..
كانت الساحة شبيهة بسوق عكاظ.. سلع وتجارة ومرح وطرب، ولعب ولهو.. وزينة وتفاخر.. وتخفيف على النفوس وترويح على القلوب من كرب وضنك الحياة.
حكايات « المسيّح » (الحكواتي) عن سيدنا علي ورأس الغول وبطولات سيف ابن دييازان وقصص عنترة وعبلة وسيدنا يوسف وزوليخا وحكايات ألف ليلة وليلة التي كانت تخلب النفوس وتطير بالعقول والأذهان إلى عبق الزمن الغابر(…) ما أحنَّ الماضي وما أوجعَ الحاضر، لكن الوقت والزمن هو ما نحن فيه..
الساحة الآن، امتدت أسواقها في اتجاهات جانبية واتخذت مُسميات متعددة، كسوق القدس، وسوق مليلية « المحتلة » وأسواق أخرى كثيرة.. تحمل أسماء جروحنا، أليست أسواقنا تشبهنا تماما، إنها بوصلة أفراحنا وأشجاننا !!
مصطفى قشنني
شاعر وكاتب مغربي




Aucun commentaire