نحو بناء تضامن اجتماعي جديد (2
من الواضح أنه لا يمكن إعادة الأسرة إلى سالف عهدها كما لا يمكن إعادة الحي أو القبيلة إلى وضعهما الأصلي (إن كان هناك وضع أصلي واحد)، لقد تعقد المجتمع بما يكفي وتباينت فئاته وتغير الزمان ومعه الحاجيات والظروف…إلا أن الإصلاح الاجتماعي لا ينطلق من الصفر، فالمجتمع يستند إلى مرجعية دينية قوية تمده بأسباب التفاؤل والتلاحم وإخلاص العمل لوجه الله، وله رصيد من العمل الخيري الذي هو من أهم رافعات التضامن الاجتماعي، كما يحمل معه موروثا من المعارف ومن التجارب و من التقاليد والأعراف التي تجعله قادرا على إعادة بناء الثقة بين الأفراد والجماعات. وبقدر ما يوظف المجتمع مخزونه الثقافي، بقدر ما تزداد قدراته على مواجهة الصعاب وعلى ابتكار الحلول. بهذا المعنى يصبح « بناء تضامن اجتماعي جديد » هو استلهام روح التضامن الاجتماعي واستثمار قيمه في المؤسسات الفاعلة حاليا، أو المؤهلة مستقبلا، حتى يكون للقيم الأخلاقية والاجتماعية معنى. نحن نتحدث هنا عن المؤسسات القادرة على تحقيق التضامن الاجتماعي على ارض الواقع، وأذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: الأسرة، و الجمعيات ذات المنفعة العامة، و تنظيمات الحرفيين والمهنيين والتجار.
من أسباب فشل الإصلاح الاجتماعي نذكر تشتت القدرات وغياب التنسيق، وعدم توافق الإرادات الحسنة على الأهداف والوسائل، وذهول المواطنين أمام الحاجيات المادية المباشرة ، حتى أضحى الحديث عن التضامن الاجتماعي ضربا من ضروب الترف. والسبب الذي يبدو لي أكثر رجحانا هو عدم ملائمة منهجية التدخل في العمل الاجتماعي للحاجيات الحالية للمجتمع. أطرح للنقاش الفرضية التالية: مشاريع الإصلاح الاجتماعي لا تحتاج إلى برامج جاهزة يرجى تنفيذها، بل إلى منهجية متجددة تقوم على مبدأ المشاركة. يجب التخلي عن منهجية وضع التصور ثم البحث بعد ذلك عن كيفية إنزاله. هذه الطريقة مكلفة وتجعلنا دائما نلوم الآخر بدعوى أنه «لم يفهم » أو « لا يفهم »، فنريح بذلك ضميرنا. الحلول التي تأتي من فوق تجعل الناس لا يأخذون مما اقتُرح عليهم إلا ما وافق مصلحتهم الآنية، أي سنزيد الطين بلة، بينما المطلوب هو انخراطهم الفعلي في بناء إصلاح اجتماعي قد يطول أمده. المبادرات التي تقام لصالح المستفيدين ، سواء كان مصدرها الفئة المستهدفة نفسها أو جهة أخرى، يجب أن تقوم دائما على مبدأ المشاركة والإشراك في كل مراحل المشروع. يجب أن يعلم المستفيدون والقيمون ما لهم وما عليهم، ويشاركوا فعلا في حصر أنواع المشاكل المطروحة وإمكانات حلها في المدى المنظور، وما هي الأهداف المزمع تحقيقها على المدى المتوسط وهكذا…حينما يتملك المستفيدون المشروع يصبح جزءا منهم يحمونه ويسهرون على تنفيذه، مما يشجعهم على الاستمرار في العمل المشترك البناء. و العمل الجماعي المشترك مدرسة للتكوين الاجتماعي: إن تشغيل القدرات الذاتية والعمل داخل الجماعة يعطيان الثقة بالنفس وبالآخر، ويشعر كل فرد أنه معني بمصير الأفراد الآخرين وأنه يستفيد أكثر عندما يشتغل مع الغير. إن تحقيق المصلحة الذاتية في مجتمع متضامن يمر دائما عبر تحقيق المصلحة العامة، وهنا مربط الفرس: لابد أن يتم الانتقال، ولو تدريجيا، من العادات الأنانية السائدة إلى السلوك المشترك الهادف إلى تحقيق المصلحة العامة والتي يستفيد منها كل الأفراد، ويستفيد منها المجتمع بإرساء قواعد انطلاقة جديدة. لنبدأ أولا بالاستماع إلى الذين نريد مساعدتهم إن كنا نروم الإصلاح…
في موضوع الأسرة، نلاحظ أن بعض المفاهيم من قبل « أسرة نووية » أو « عائلة ممتدة » لم يعد لها مدلول في مجتمعنا الحالي،سواء في المدن او في الأرياف. إن أشكال الأسرة الحالية غير قابلة للتنميط، وهي أشكال متداخلة تنم عن مخلفات معارك سابقة.. إلا أنها (أي الأسرة) لا زالت حجر الزاوية في مجتمعنا ولا يمكن تجاوزها في أي إصلاح أو بناء مرتقب. لا يعقل إذن أن نحاول بناء أشكالها القديمة، بل يجب الحرص على دعمها كمؤسسة اجتماعية، بغض النظر عن حجمها. لماذا؟ لأن الأسرة ليست المؤسسة التربوية التي لا تعوض فقط، بل هي أيضا مؤسسة إدماج اجتماعي للصغار وللكبار على السواء. إضافة إلى ذلك هي قناة تواصل اجتماعي بامتياز: فأفكار الإصلاح والتنمية والتضامن، إن لم تسر في عروق الأسرة، فلن تروي شريان المجتمع. . ويخطئ من يتصور أن أحوال الأسرة لا تنعكس على كافة مناحي الحياة الاجتماعية، بما فيها مستوى الأخلاق ونسب الإجرام وانتشار التسول وأطفال الشوارع وغير ذلك. إن استقرارالأسرة هو من استقرار المجتمع والعكس صحيح، وبناء عليه فدعمُها أصبح يكتسي طابعا استعجاليا وأولوية وطنية، وفي تصوري المتواضع، يجب أن يتم دعمها في اتجاه تنمية قدراتها الذاتية وذلك بتخفيف الأعباء المادية عنها من جهة و تكوينها تكوينا ملائما لحاجيات العصر من جهة أخرى.
لتحقيق ذلك لا بد من إرادة سياسية قوية،لأن السياسة العامة للدولة، وكذا السياسات المحلية، تؤثر سلبا أو إيجابا على تماسك الأسرة تبعا لفشل أو نجاح تدبير معضلات اجتماعية كالسكن والشغل والصحة والتعليم ومحاربة الرشوة، ومحاربة الأمية…الخ. ويمكن أيضا دعم الأسر المعوزة بتشجيعها على إقامة مشاريع اقتصادية مناسبة ومدرة فعلا للدخل.وفي هذا الموضوع بالذات نحن في حاجة إلى تكثيف الأبحاث الميدانية لمعرفة أسباب تواضع نتائج المشاريع التي أنجزت لحد الساعة.
الأسرة هي قاعدة التضامن الاجتماعي وهي المؤسسة الاجتماعية المؤهلة لحمل الإصلاح الاجتماعي، لكنها في المقابل في حاجة إلى قيم وأفكار هذا الإصلاح، وهذا مجال تدخل العلماء والمرشدين والإعلاميين والجمعيات ذات المنفعة العامة، حتى تؤدي الأسرة وظائفها وتستعيد مكانتها رغم المنافسة الشرسة التي تعاني منها، حسبي أن أقول إن الأسرة في حاجة إلى تأهيل يضمن حفاظها على قيم وروح التضامن الاجتماعي الأصيل، وفي الوقت نفسه يؤهلها لتدبير حقوق جديدة: كتنمية الفرد مثلا داخل أسرته، (احترام خصوصيته ومؤهلاته الشخصية واعتماده على نفسه) والتكوين على وسائل الاتصال الحديثة ، والتكوين على قضايا البيئة والعولمة وغيرها من القضايا الإنسانية التي تُخرج الإنسان من قوقعته وتفتح له آفاق العالم. نعم، يمكن التعلم في الكبر، كما يمكن إقرار تكوين ملائم للعصر لفائدة أرباب وربات الأسر، و يمكن تكوين المكونين لهذا الغرض، و تأهيل الجمعيات حتى تنشط في هذا الورش التربوي الكبير. إن أساليب الحياة تتغير بسرعة، والحاجيات تتعقد، مما يطرح أولوية التعلم والتدريب على القضايا والتقنيات الحديثة لكي لا يتسع الشرخ بين الأجيال المتلاحقة: ذاك جزء من أزمة المجتمع، وسبب من أسباب تراجع مكانة الأسرة. كيف سيفتح هذا الورش ومن هم الفاعلون المعنيون ؟ ما هي الاقتراحات الأخرى ؟ ما هي الوسائل القانونية واللوجيستيكية؟ هل نبدأ بأبحاث ميدانية تمهيدية أم بفتح حوار مع جمعيات الأحياء إن وجدت ؟ ثم من يبادر؟ الأسئلة تتناسل لكن لا أحد يملك منذ الآن أجوبة شافية، إلا أن يقول: إن المبادرة إختيار سياسي بالدرجة الأولى. (يتبع)
ناجم مهلة
Aucun commentaire