تاريخ سهل أنجاد وثقافة سكانه (6)
تاريخ سهل أنجاد وثقافة سكانه (6)
الأستاذ: الفيلالي عبد الكريم
شذرات السـيرة الهلالية بالبسيط
بكلّ تأكيد أن القبائل العربية اختلطت في ما بينها، وهكذا مثلا نجد المعقليين قد اختلطوا بالهلاليين، خاصة أنهم كانوا في عدد قليل يوم دخولهم المغرب، لذا يقول ابن خلدون: «ثم نذكر رياحا وزغبة، ثم المعقل لأنهم من عداد هلال»[1].
وقد بيَّنتُ في فصل سابق العوامل السياسية والاقتصادية التي كانت وراء هجرة القبائل العربية، خاصة بنو هلال وسُليم، إلى دول المغرب (تونس والجزائر والمغرب الأقصى)، وقد اتضح كيف نظرَتْ الوجهة التاريخية الرسمية لهذه الهجرة، وأوضحنا الجانب القسري لهذا التهجير، وقد خلّدت « التغريبة الهلالية » باعتبارها سيرة شعبية أسباب الهجرة، يقول عبد الرحمان أيوب: «خلال مرحلة الصراع السياسي (القرن الثالث/الرابع للهجرة) نشأت سيرةُ بني هلال أو على الأقل براعمُها الأولى والتي أطلق عليها ابن خلدون « الشعر البدوي الهلالي ». وبينما يسوق التاريخ أحداث هذه المرحلة بطريقته الخاصة تسوق السيرة الشعبية -هي الأخرى- الأحداث بطريقتها الخاصة: فبينما يقدِّم التاريخ الرسمي حدثا مثل « تخريب المغرب » على أنه تمّ على أيدي بني هلال تذهب السيرة الهلالية إلى تعليل ظاهرة « التخريب » على أنها تصرُّف شرعي اضطرت إليه القبيلة لمجابهة « المجاعة التي حلّت بها ولأن السُّلط السياسية الحاكمة رفضت مدّها بالقُوت الضروري»[2].
لقد أعادت التغريبة المدوّنة أسباب الهجرة إلى المجاعة التي لحقت بالقبيلة بسبب الجفاف، إذ جاء فيها: «ولمّا صاروا (الأمير حسن ورفاقه) في ذلك المكان وجدوا جمهورا من الرجال والشبان والنساء والصبيان وهم يصيحون من قلب موجوع من شدة الجوع فتقدم الأمير حسن إليهم وقد شفق عليهم فطيّب خاطرهم بالكلام وفرق عليهم جوائز الإنعام ثم ساروا إلى المضارب والخيام واستدعى إليه سادات القبيلة وأكابر الجماعة وجعلوا يتفاوضون في أمر الجماعة فاتفق رأيهم بوجه الإجمال على أن يرحلوا من تلك الأطلال بالأهل والعيال وأن يذهب أبو زيد إلى بلاد الغرب وتلك الديار فيجس الأحوال ويأتيهم بحقيقة الأخبار ثم يرحلوا بأولادهم وأثقالهم إلى تلك الأقطار»[3].
ويرى عبد الحميد يونس أن التغريبة مرّت بمرحلتين؛ المرحلة الغنائية ثم المرحلة القصصية، إذ يقول: «ومن اليسير أن نتبيّن من هذا كله أن سيرة بني هلال مرت بطورين، أولهما: الطور الغنائي الخالص وكان قبل القرن السادس الهجري، ذلك أن شواهد ابن خلدون تنطق بأن السيرة كانت في أول أمرها عبارة عن قصائد غنائية توزعها أجيال مختلفة وبيئات شتى بعيدا عن اللسان الفصيح وهي تشبه من هذه الناحية أغاني البطولة الغربية chanson de geste التي كانت قبل أن تستقر على صورها المعروفة مقطوعات غنائية متفرقة. ثانيهما: الطور القصصي وقد بدت أماراته أيام ابن خلدون في القرن الثامن الهجري، تؤيد ذلك الشواهد التي أوردها في مقدمته، عن ماضي بن مقرب وخليفة زناتي ولم يحدث التحول طفرة وإنما حدث في أناة وبطء، فسيرة بني هلال كمثيلاتها « أغنية رولان » تعبير شعب عن مشاعره الجماعية»[4].
وهذا ما تشي به التغريبة المدوّنة، فالجانب النثري يفسر الأشعار ويتوسع في الأحداث الواردة فيها. كما تحدث عبد الحميد يونس عن خاصية تتميز بها التغريبة وهو خلوّها من حضور الآلهة أو أشباه الآلهة، ليؤكّد الجانب الواقعي فيها، وذلك في قوله: «وليس في سيرة بني هلال آلهة أو أشباه آلهة، لا لأنها صدرت عن العقلية العربية المجردة فحسب، ولا لأنها نشأت في في بيئة عرفت التوحيد، ولكن لأنها كانت تسرد حوادث أناس ثبت لنا من الدراسة التاريخة أنه كان لهم كلهم أو جلهم وجود واقعي، وقد عرضَتْهم في حالتهم الإنسانية، فلم ترفعهم عن طبائعهم ولم تسلكهم في الكائنات الخرافية ولم تسبغ عليهم من خوارق الصفات ما يتنافى مع الإرادة البشرية»[5].
أرسلت القبيلة أربعة فرسان من ضمنهم أمراء للبحث عن الكلإ بمناطق بعيدة والحلول بتونس، تم إلقاء القبض عليهم وسيقوا للإعدام لولا تدخل (سعدى) ابنة الزناتي خليفة حاكم تونس وذلك بسبب إعجابها بالأمير (مرعي).
يقول عبد الله العروي: «مكث بنو هلال عقودا عدة، جائعين ناقمين، يحلمون بأراض خصبة ومراع مزهرة خضراء، كما صورتهم لنا قصصهم المروية جيلا عن جيل. تجمدت لديهم التنظيمية القبلية حتى صارت عاملا فعالا، بل العامل الوحيد في حياتهم، لا يملكون مالا ولا نفوذا ولا ثقافة، رأس مالهم الوحيد هو ذلك التلاحم الناشئ عن الوفاء التلقائي لقواعد مضبوطة وقارة من مظاهرة الأخ وطاعة الأب والشيخ. وهذا التلاحم التلقائي هو الذي كان يكسبهم القوة الدفاعية والهجومية التي كانوا يستولون بها على مال غيرهم ويوظفون لمصلحتهم نفوذ وثقافة غيرهم»[6].
- موقف ابن خلدون من هجرة الهلاليين وأدبِهم.
يصف ابن خلدون بني هلال يوم دخولهم إفريقية بـ »الجراد المنتشر » إذ يقول: «وسارت قبائل ذياب وعوف وزغبة وجميع هلال إلى إفريقية كالجراد المنتشر، لا يمرُّون بشيء إلا أتوا عليه، حتى وصلوا إلى إفريقية سنة ثلاث وأربعين (743 ﻫ)»[7]. وهو وصف يدل على الكثرة، وقد ورد هذا الوصف في التغريبة الهلالية، إذ جاء فيها: «دخلت عليه (=الخفاجي عامر) الرعيان وقالوا له اعلم يا ملك الزمان أن بني هلال قد دخلت إلى ديارنا وأكلت من أثمار بساتيننا وأشجارنا وهم كالجراد المنتشر لا يعرف لهم أول ولا آخر»[8].
وقد تمّ تضخيم رأي ابن خلدون من قِبَلِ بعض الباحثين وبخاصة الفرنسيون منهم، من أجل تصوير العرب بمثابة مقوّضين للحضارة المحلية.
يقول محمد الشريف: «لقد وظّف المؤرّخون وعلماء الاجتماع بعض المعطيات التاريخية التي تتضمنها مقدمة ابن خلدون وكتابه « العبر » حول البدو العرب، ليقيموا صرحا نظريا بخصوص ثنائية العربي- البربري، وتناحر البدوي الحضري»[9].
لقد كانت وراء انهيار الحكم في تونس عوامل اقتصادية وسياسية، يقول عبد الحميد يونس عن التفكك السياسي: «والواقع أن العالم الإسلامي كان منذ ذلك الحين منقسما على نفسه قد استطاعت قومياته المختلفة أن ترفع رأسها وأن تستقل بأمرها، وأن تحاول ما أمكنها التغلب على غيرها. وأصبح رئيس كل جماعة هو المتصرف فيها. وكادت تقتصر كل مدينة على شؤونها لا تتعداها وكأنها دولة مستقلة بذاتها. وبديهي أن هذه الظاهرة كانت أوضح للهلالية منها لغيرهم فلم يحسوا بحكومة مركزية ولو وجدت لكان لها صدى في حوادثهم. وكان كل الذي يحسونه حكومة المدينة أو الإقليم الذي يمرّون به. ومن ثم تصوروا العالم الذي تحركوا فيه على أنه مجموعة من المدن المستقلة والإمارات المنفصل بعضها عن بعض، يقوم عليها أمراء من أهلها أو غيرهم على كل مها رئيس يعاونه وزراء، يدعم سلطانه جيش خاص»[10].
وقد ذكر ابن خلدون مقاطع من التغريبة الهلالية، واستغرب طريقة روايتها، خاصة من جهة إيمان الهلاليين بواقعية الأحداث فيها، يقول ابن خلدون: «ولهؤلاء الهلاليين في الحكاية عن دخولهم إلى إفريقية طرق في الخبر غريبة: يزعمون أن الشريف بن هاشم كان صاحب الحجاز ويسمونه شكر بن أبي الفتوح، وأنه أصهر إلى الحسن بن سرحان في أخته الجازية فأنكحه إياها، وولدت منه ولدا اسمه محمد. وأنه حدث بينهم وبين الشريف مغاضبة وفتنة، وأجمعوا الرحلة عن نجد إلى إفريقية. وتحيلوا عليه في استرجاع هذه الجازية فطلبته في زيارة أبويها فأزارها إياهم، وخرج بها إلى حللهم فارتحلوا به وبها، وكتموا رحلتها عنه، وموهوا عليه بأنهم يباكرون به للصيد والقنص ويروحون به إلى بيوتهم بعد بنائها فلم يشعر بالرحلة إلى أن فارق موضع ملكه، وصار إلى حيث لا يملك أمرها عليهم ففارقوه، فرجع إلى مكانه من مكة، وبين جوانحه من حبها داء دخيل، وأنها من بعد ذلك كلفت به مثل كلفه إلى أن ماتت من حبه.
ويتناقلون من أخبارها في ذلك ما يعفى عن خبر قيس وكُثيِّر(…)
وهم متفقون على الخبر عن حال هذه الجازية والشريف خلفا عن سلف وجيلا عن جيل. ويكاد القادح فيها والمستريب في أمرها أن يرمى عندهم بالجنون والخبل المفرط لتواترها بينهم.
وهذا الشريف الذي يشيرون إليه هو من الهواشم، وهو شكر بن أبي الفتوح الحسن بن أبي جعفر بن هاشم محمد بن موسى بن عبد الله أبي الكرام بن موسى الجون بن عبد الله بن إدريس وأبوه أبو الفتوح هو الذي خطب لنفسه بمكة أيام الحاكم العبيدي، وبايع له بنو الجراح أمراء طيء بالشام وبعثوا عنه فواصل إلى أحيائهم، وبايع له كافة العرب. ثم غلبتهم عساكر الحاكم العبيدي ورجع إلى مكة، وهلك سنة ثلاثين وأربعمائة فولي بعده ابنه الذي يزعم الهلاليون أنه من الجازية هذه.
(….)
ومن مزاعمهم أن الجازية لما صارت إلى إفريقية وفارقت الشريف خلَفَهُ عليها منهم ماضي بن مقرّب من رجالات دريد، وكان المستنصر لما بعثهم إلى إفريقية عقد لرجالاتهم على أمصارها وثغورها وقلدهم أعمالها، فعقد لموسى بن يحيى المرداسي على القيروان وباجة، وعقد لزغبة على طرابلس وقابس، وعقد لحسن بن سرحان على قسطنطينة. فلما غلبوا صنهاجة على الأمصار، وملك كل ما عقد له سميت الرعايا بالأمصار عسفهم وعيثهم باختلاف الأيدي، إذ الوازع مفقود من أهل الجيل العربي مذ كانوا فثاروا بهم وأخرجوهم من الأمصار، وصاروا إلى ملك الضواحي والتغلب عليها، وسيم بالرعايا بالخسف في النهب والعيث وإفساد السابلة، هكذا إلى هلم»[11].
وفي موقفه من شعرهم يؤكّد ابن خلدون على وقوع التزيُّد فيه، وكما هو معلوم، فالحكاية الشعبية تخضع للإضافات والزيادات، غير أنه من الناحية الجمالية يقرّ بالقيمة الفنية لهذه الأشعار، يقول ابن خلدون: «ويروون كثيرا من أشعارها محكمة المباني متفقة الأطراف، وفيها المطبوع والمنتحل والمصنوع، لم يفقد فيها من البلاغة شيء وإنما أخلُّوا فيها بالإعراب فقط، ولا مدخل له في البلاغة كما قررناه لك في الكتاب الأول من كتابنا هذا. إلا أن الخاصة من أهل العلم بالمدن يزهدون في روايتها ويستنكفون عنها لما فيها من خلل الإعراب، ويحسبون أن الإعراب هو أصل البلاغة، وليس كذلك. وفي هذه الأشعار كثير دخلته الصنعة، وفقدت فيه صحة الرواية فلذلك لا يوثق به. ولو صحّت روايته لكانت فيه شواهد بأيامهم ووقائعهم مع زناتة وحروبهم؛ وضبط لأسماء رجالاتهم وكثير من أحوالهم. لكنا لا نثق بروايتها. وربما يشعر البصير بالبلاغة بالمصنوع منه ويتهمه، وهذا قصارى الأمر فيه»[12].
يؤكّد ابن خلدون في هذا النص على أمرين: الأول أن هذا الشعر مدخول بسبب الوضع الذي لحقه، لذا لا يمكن أن يُعَدَّ وثيقة يعتدُّ بها. الأمر الثاني يتعلّق بطبيعة هذه الأشعار من جهة علاقتها بالفصحى، إذ أهم خاصية يتميز بها هو تخلِّيه عن الإعراب، كما أنه لا يخلو من قيمة بلاغية وجمالية.
وهذا يردّ الدعوة إلى التعبير بالعامية في الأدب بحجة إبداع الأجداد بها، فالأمر بخلاف ما يُعتقد فلُغة التداول اليومي تختلف عن لغة الزجل.
[1] ـ العبر. (م س). 6/26.
[2] ـ الآداب الشعبية والتحولات التاريخية الاجتماعية، مثال: سيرة بني هلال. عبد الرحمن أيوب. مجلة عالم الفكر. المجلد17. العدد1. سنة 1986. ص: 26-27.
[3] ـ تغريبة بني هلال الكبرى (الشامية الأصلية). مكتبة الأندلس ومطبعتها. بيروت. (دون تاريخ). ص: 8.
[4] ـ الهلالية في التاريخ والأدب الشعبي. عبد الحميد يونس. مكتبة الدراسات الشعبية. مصر. 2003. ص: 215 – 216.
[5] ـ الهلالية في التاريخ والأدب الشعبي. (م س). ص: 253 – 254.
[6] ـ مجمل تاريخ المغرب. عبد الله العروي. المركز الثقافي العربي. ط:1. 1994. 2/101.
[7] ـ العبر. (م س). 6/18.
[8] ـ تغريبة بني هلال الكبرى (الشامية الأصلية). (م س). ص: 132.
[9] ـ الهجرات الهلالية من خلال بعض الكتابات الفرنسية المعاصرة. محمد الشريف. مقال ضمن: المغرب والأندلس. دراسات في التاريخ والأركيولوجية. منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية. تطوان. ط: 1. 2006. ص: 94.
[10] ـ الهلالية في التاريخ والأدب الشعبي. عبد الحميد يونس. (م س). ص: 260 – 261.
[11] ـ العبر. بن خلدون. (م س). 6/ 21- 22 – 23.
[12] ـ العبر. بن خلدون. (م س). 6/22.
Aucun commentaire