سلسلة الدروس الرمضانية :الله عز وجل يرفع بالقرآن أقواما ويضع به آخرين ( الحلقة الثانية )
سلسلة الدروس الرمضانية :الله عز وجل يرفع بالقرآن أقواما ويضع به آخرين ( الحلقة الثانية )
محمد شركي
بسم الله الرحمان الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين .
مر بنا في الحلقة الأولى من هذه السلسلة الرمضانية أن عبادة الصيام في حد ذاتها نعمة بها يشكر المؤمنون نعمة القرآن الكبرى . والشكر جاء في سياق حديث القرآن الكريم عن عبادة الصوم إذ قال الله تعالى : (( ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون )) وما إكمال العدة سوى صيام شهر رمضان ، الذي يرجى من صيامه شكر الخالق سبحانه على نعمة القرآن المتضمنة للهداية . ولقد نص القرآن الكريم على وظيفة الهداية التي يتضمنها في قوله تعالى : (( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم )) . ولفظة أقوم تدل على تفضيل ، وهي من فعل قام واستقام بمعنى اعتدل واستوى ، ومن نفس المادة اللغوية التقويم وهو إزالة الاعوجاج. ومنها القيم وهو المستقيم ، وقد وصف الله عز وجل كتبه ودينه بالاستقامة في قوله تعالى : (( كتب قيمة )) و(( دين القيمة ))، أي الكتب المستقيمة والدين المستقيم . وجاء في الذكر الحكيم قوله سبحانه وتعالى : (( ومن أهل الكتاب أمة قائمة)) أي أمة مستقيمة . والقيوم اسم من أسماء الله الحسنى وهو القائم بذاته ،والقائم على كل شيء اعتدالا واستواء . وهداية القرآن الناس إلى التي هي أقوم معناها توجيههم إلى أفضل استواء واعتدال بحيث يخوضون غمار الحياة بتوجيهات هذا الكتاب ،فيكون خوضهم أفضل خوض لا ينحرفون عن الجادة الواجب نهجها في هذا الخوض ، وهم بذلك في أحسن تقويم قد رفعهم الله عز وجل إلى مرتبة التكريم والتفضيل على كثير ممن خلق مصداقا لقوله تعالى : (( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ))، وهي درجة الرفعة بالقرآن الكريم حيث يتطابق باطن الإنسان مع ظاهره أو بتعبير آخر يترجم ظاهره باطنه ما دام الوحي يجمع دائما بين الإيمان والعمل الصالح على غرار ما جاء في سياق الحديث عن وظيفة هداية القرآن في قوله تعالى : (( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا )) . واقتران الإيمان بالعمل الصالح في كتاب الله عز وجل دليل على أن هذا الإيمان ليس مجرد ادعاء وتمن بل هو إجراء وعمل وتطبيق . ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه لا يسأل أصحابه عن إيمانهم ، وإنما يسألهم عن أعمالهم الصالحة التي بها يوزن إيمانهم على غرار ما أثر عنه يوم سألهم : من أصبح منكم اليوم صائما ؟ ومن تصدق منكم اليوم على مسكين ؟ ومن سار منكم اليوم في جنازة ؟ وكان أبوبكر الصديق رضي الله عنه في كل مرة يقول : أنا يا رسول الله ، فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بحسن الجزاء . والملاحظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسأل مباشرة عن الإيمان، وإنما سأل عن العمل الصالح الدال على الإيمان . وفي كثير من الأحاديث النبوية عبارة : » من كان يؤمن بالله واليوم الآخر …. » وبعدها مباشرة يأتي أمر أو نهي أي عمل صالح يقيس درجة الإيمان ، علما بأن الإيمان لا يتأتى بالتمني ولا بالتحلي ، بل هو ما وقر في القلب وصدقه العمل . ولا ينفع نفسا عدم إيمانها ، ولا إيمان بلا عمل صالح مصداقا لقول الله تعالى : (( لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا )) . والإيمان إنما يقاس بحجم الأعمال الصالحة ،ولا يقاس بالتقديرات الانطباعية كما يفعل بعض الناس حين يجامل بعضهم بعضا عن طريق السؤال كيف حال الإيمان ؟ فيكون الجواب : الحمد لله هو بخير . وعندما يتطابق الإيمان مع العمل الصالح ، أو يكون باطن الإنسان مطابقا لظاهره يكون قد هدي إلى التي هي أقوم ، ويكون قد حاز درجة الرفعة بالقرآن الكريم . وعندما يختل التوازن بين الإيمان والعمل الصالح ، وهو حالة النفس التي لا تكسب في إيمانها خيرا يتردى الإنسان إلى مرتبة الضعة المناقضة لمرتبة الرفعة ، وهي مرتبة التكريم والتفضيل على كثير ممن خلق الله عز وجل . ومن الضعة أن يفقد الإنسان آدميته المكرمة والمفضلة ، فيصير في مرتبة الأنعام أو دونها مصداقا لقوله تعالى : (( ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون )) . فمن الضعة الحاصلة بهجران القرآن الكريم الذي يهدي للتي هي أقوم أن يصير الإنسان غافلا بلا قلب يفقه به ولا بصر يبصر به ولا سمع يسمع به، فيصير في مرتبة الأنعام بل يصير في مرتبة دون الأنعام . وقد وصف الله عز وجل هؤلاء الوصف التالي : (( ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذنهم وقرا وإن تدعوهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذن أبدا )) فتعطيل القلوب والحواس من خلال الإعراض عن هدي القرآن الكريم عبارة عن أكنة تحجب القلوب ووقر يصم الآذان . وشبه سبحانه هؤلاء ببعض الحيوانات التي هي أخس من الأنعام في مثل قوله تعالى : (( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا)). فالكلب إذا ضرب مثلا كان مثل سوء لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ليس لنا مثل السوء العائد في هديته كالكلب العائد في قيئه » . والله تعالى عندما مثل للمعرض عن القرآن الكريم بالكلب ، إنما أراد التحذير من مرتبة الضعة والخسة التي قد يتردى إليها الإنسان الذي يعرض عليه قرآن يهدي للتي هي أقوم فلا يستقيم ، ويكون حاله بعد هدي القرآن الكريم كحاله قبله تماما كما أن الكلب يلهث سواء حمل عليه أم لم يحمل . ومن أمثلة السوء التي ضربت للمعرضين عن هدي القرآن الكريم قوله تعالى : (( مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا )) فالحمار مثل سوء آخر للذين يعرض عليهم هدي القرآن الكريم ولكنهم لا يهتدون ولا هم يستقيمون مع علمهم بهذا الهدي ، فيكون حالهم كحال حمار يحمل الكتب ولا يستفيد من حمله إلا الثقل والمشقة. فالله تعالى يرفع بالقرآن أقواما إلى درجة التكريم والتفضيل ، ويضع به آخرين إلى مرتبة الأنعام وما دونها من مراتب الحيوانات الخسيسة كالكلاب والحمر . ومن خسة بعض البشر في زماننا الاحتفال بالكلاب والحمر وإقامة المعارض لها والمواسم والمسابقات مع أن الله عز وجل ساقها في معرض أمثلة السوء ، و لا يحتفل بالخسيس إلا الخسيس . والقرآن الكريم إنما يخاطب من كان حيا مصداقا لقوله تعالى : (( إن هو إلا ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حيا )) والحياة المقصودة هي حياة القلوب الواعية المستوعبة لهذا الذكر مصداقا لقوله تعالى : (( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد )) ، والقلب المقصود هو القلب الحي الذي ليس عليه كن ، كما أن السمع المقصود هو الذي ليس فيه وقر . وقد وقف ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى عند هذه الآية الكريمة وعقب على العطف بحرف أو عوض حرف العطف الواو فجاء بتخريج طريف لطيف ،ذلك أن الناس في تعاملهم مع القرآن نوعان : نوع له قلب حي يستوعب هديه به مباشرة ، ونوع يلقي السمع وهو شهيد فيستوعبه أيضا ، لهذا جاء العطف بحرف « أو » التي تفيد التخيير بين أمرين ، ولم يأت بالواو التي تفيد الجمع بينهما . ومما نقله ابن القيم عن ابن قتيبة رحمهما الله في سياق الحديث عن هذه الآية الكريمة قوله أنه إذا حصل المؤثر وهو القرآن الكريم ، وصادف المحل القابل للتأثر وهو القلب الحي ، أو وجد الشرط وهو إلقاء السمع أو الإصغاء ،وانتفى المانع وهو اشتغال القلب وذهوله حصل الأثر وهو الانتفاع بالذكر ، وكانت الرفعة التي يرفع بها الله عز و جل أقواما بالقرآن الكريم . وخلاصة القول أن الناس إذا ما عرضوا أنفسهم طيلة شهر الصيام على القرآن الكريم في صلاة القيام بقلوب حية أوأسماع مصغية فإنهم سينتقلون من أحوال إلى أحوال أحسن منها . فلا يعقل أن يكون الإنسان خائضا للحياة خوض انحراف ،فتأتي فرصة عرض نفسه على القرآن الكريم في رمضان فيظل على انحرافه كما كان ، ويحوز بذلك مرتبة الكلاب اللاهثة التي لا تغير من لهثها مهما تغيرت الأحوال ، أو يحوز درجة الحمر الحاملة للأسفار لا تفيد من حملها إلا المشقة . والمفروض فيمن يعرض نفسه على القرآن الكريم خلال شهر الصيام أنه إذا مرت به آيات الأوامر والنواهي أن يأتمر وينتهي بعد سماعها مباشرة ، وألا يظل على ما كان عليه من مخالفة لها وإلا عرض نفسه للعنة القرآن الكريم مصداقا لما جاء في الأثر: » رب تال للقرآن والقرآن يلعنه « ولعنة القرآن من غضب الله تعالى الذي يمقت التناقض بين القول والفعل مصداقا لقوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون )) ومن القول دون الفعل أن يقرأ الإنسان أو يسمع أمرا أو نهيا في القرآن الكريم، فلا يأتمر ولا ينتهي. وعليه من غادره رمضان وهو على ما كان عليه قبل رمضان من مخالفات أو معاص سواء تعلق الأمر بترك أمر أمر به الله عز و جل أم بفعل نهي نهى عنه فوت على نفسه جائزة رمضان وهي مغفرة ما تقدم من ذنبه ، وهي جائزة شرطها الإيمان والاحتساب كما جاء في الأثر، ولا إيمان إلا إيمان يكسب فيه صاحبه خيرا . والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وصحبه أجمعين .
Aucun commentaire