ازدياد نسب الجرائم مؤشر على اختلال منظومة السلم الاجتماعي بالبلاد وإنذار بحلول زمن السيبة من جديد

ازدياد نسب الجرائم مؤشر على اختلال منظومة السلم الاجتماعي بالبلاد وإنذار بحلول زمن السيبة من جديد
محمد شركي
قبل عقود كانت الجرائم تعد على رؤوس الأصابع كما يقال ، وكانت إدانتها من قبل المجتمع المدني موضوع إجماع لا خلاف حوله ، كما أن السلم الاجتماعي كان قاعدة وأصلا ، والجرائم كانت استثناء ، إلا أن الوضع انقلب رأسا على عقب كما يقال، حيث صارت الجرائم قاعدة وأصلا ، والسلم استثناء. فلا يمر يوم دون أن يتحدث الناس عن جرائم عديدة في الحواضر والبوادي المغربية . ولا تخلو جريدة محلية أو وطنية من أخبار هذه الجرائم، حتى صارت المادة الإعلامية المستهلكة لبعض الجرائد هي نقل أخبار الجرائم بكل تفاصيلها المخزية . ويخيل لمن يتابع هذه الجرائد أنها شبه متعاقدة مع المجرمين، لأنها إن لم تنقل مغامراتهم الإجرامية واجهت الكساد ، ولهذا صار شغل أصحابها اللهث يوميا وراء أخبار الجرائم . وتناول الجرائم في هذه الجرائد لا توحي أساليبه بشيء يدل على إدانة أو استهجان، بل تسرد أحداث الجرائم بنوع من التشويق الدرامي الذي يصور المجرمين أبطالا ، وأحيانا يقدم هؤلاء المجرمين كضحايا اضطروا إلى ارتكاب الجرائم . فعندما يقدم المجرم على سبيل المثال بأنه عرف بهدوئه وعلاقاته الطيبة مع أهل الحي والجيران، أو مع العاملين معه، فهذه شهادة حسن سيرة مجانية تعطى لصاحب جريمة بشعة . وقلما نقرأ في الجرائد التي تكاد تتخصص في نقل أخبار الجرائم بأن المجرم صاحب سوابق ، وحتى فيه هذه الحال يتم الحفر في وضعه الاجتماعي من أجل استدرار العطف عليه من خلال رد جنوحه إلى تفكك أسري، أو فقر وفاقة ،أو ما شابه . وقلما نقرأ التحليل الدقيق والعلمي والموضوعي لظاهرة الإجرام. فالجرم في تعريفه اللغوي هو خطأ وذنب . والخطأ والذنب هو ما تعارف المجتمع على مخالفته للسلوك المتوافق حوله اجتماعيا . والأخطاء تتنوع باعتبار المجالات التي تقع فيها . ففي المجال الديني يعتبر الخطأ ذنبا قد يصغر أو يكبر حسب تقدير الدين له .
ففي ديننا الإسلامي توجد كبائر وصغائر . وبطبيعة الحال يغطي الدين كل مجالات الحياة ، إلا أنه حدد رأيه بالكتاب والسنة في بعض الأخطاء ، وترك تقدير غيرها للعرف والتوافق البشري . فالإسلام على سبيل المثال جرم القتل العمد ، وميزه عن القتل الخطأ ، ولكنه ترك السلطة التقديرية للخلق من أجل الجزم بطبيعة جريمة القتل بناء على قرائن. وهكذا نجد على سبيل المثال أخطاء منظومة السير لا تدان بنفس إدانة أخطاء الأخلاق مع أنها قد تؤدي إلى نفس النتائج ، كما هو حال القاتل الذي يتعمد إزهاق الأرواح بسلاح ، ومثيله الذي يتعمد ذلك بوسيلة نقل ، فالأول مجرم أخلاقيا في نظر المجتمع ، بينما الثاني صاحب خطإ فقط ، مع أن نتيجة الخطأ هنا وهناك واحدة وهي إزهاق الأرواح والاعتداء على حياة الغير. ويكاد المجتمع يتعامل مع جرائم القتل المرتبطة بمنظومة السير تعامل الإسلام مع القتل الخطأ أو غير العمد بالرغم من وجود قرائن دالة على العمد وسبق الإصرار. وقياسا على اختلاف المجتمع في موضوع تصنيف جريمة القتل بالسلاح وبوسيلة النقل ، انتقل هذا الخلاف إلى كل الجرائم ، فصرنا أمام خلاف اتسعت هوته داخل المجتمع ، ذلك أن نفس الجريمة يقع حولها خلاف فيما يخص الإدانة . ومع أن جرائم الزنا والقتل والسرقة من الجرائم التي أدانها الإسلام ، ومن المفروض ألا يقع بشأن إدانتها خلاف داخل المجتمع ، فإنها صارت موضوع خلاف حيث يوجد في المجتمع من يحاول تبرير هذه الجرائم ، والتماس الأعذار لمرتكبيها . ولقد بدأنا نسمع بما يسمى الاختلالات العقلية أو النفسية للمجرمين على غرار ما يوجد في المجتمعات الأجنبية التي كثرت فيها الجرائم ، واضطرت لتبريرها عن طريق ذرائع الاختلالات العقلية أو النفسية . فمن غير المقبول عقلا أو نقلا التماس العذر لمرتكب جريمة الاغتصاب خصوصا عندما يكون ضحاياه من القاصرين أو من المحارم ، ذلك أن البعض يرى في من يمارس هذا النوع من الإجرام إنسانا غير طبيعي لأن في العادة الناس الطبيعيون لا يفكرون حتى مجرد التفكير في فعل شنيع من هذا النوع بسبب الوازع الديني والأخلاقي ، ولهذا عندما يوجد من يقدم على هذا الفعل المستقبح يسارع البعض إلى وصفه بغير الطبيعي ،وهو ما يمثل ذريعة غير مقبولة في شرع الله عز وجل في حال المكلف الذي لا يسقط عنه التكليف لعلة مقبولة . وعليه فالجوع الجنسي كما يسمى لا يمكن أن يعتبر علة تبرر ارتكاب جرائم الاغتصاب ، لأن الناس سواء في هذا الجوع كما أنهم سواء في جوع الطعام والشراب . ولا يكفي الإنسان أن يجوع ليرتكب الجرائم بذريعة الجوع ، وكأن الجوع شبيه بالخلل العقلي الذي يسقط بموجبه التكليف . وعندما نتأمل طبيعة الجرائم المطردة في مجتمعنا نجدها تتركز في جرائم العرض والسرقة والاعتداء الجسدي والقتل .
فلا أعذار لأصحاب هذه الجرائم فالمغتصب أو الزاني ،واللص والقاتل ، والمعتدي إنما يقترفون جرائمهم بدافع العدوان لا غير ، ولا يوجد منهم من يضطر لاقتراف جرائمه اضطرارا . ففي الغالب الذين يقترفون جرائم الاغتصاب إما أن يكونوا في حالة سكر وتخدير ـ والسكر والتخدير ـ لا يعتبران عذرا لأن من يتناولهما يكون قبل تناولهما في حالة وعي تام ، ويكون على علم مسبق بأنه يريد تعطيل عقله بمحض إرادته ، لهذا لا يجوز الحديث عن ذريعة فقدان الوعي بسبب مسكر أو مخدر أثناء ارتكاب الجرائم ومنها جريمة الاغتصاب . وما حد الإسلام حد السكر إلا عقابا على تعمد شارب الخمر تعطيل عقله للتملص من مسؤولية التكليف . والمتعمد شرب الخمر متعمد لتعطيل عقله ، وهو بذلك متعمد لارتكاب مختلف الجرائم . وما سمى الإسلام الخمر أم الخبائث إلا لأنها وراء تعطيل العقل وبالتالي وراء تعطيل التكليف المفضي إلى ارتكاب كل أنواع الجرائم . وربما غر بعض الملتمسين الأعذار للسكارى أن الإسلام لا يجيز طلاق السكران الطافح السكر، وأعتقد شخصيا أن هذا الإجراء إنما كان لفائدة ضحايا الطلاق من زوجة وأبناء لا لفائدة السكران . والذين يريدون قياس جرائم السكران على طلاقه يجانبون الصواب . وارتكاب جرائم الاعتداء والقتل من السكران في حكم ارتكاب جريمة الاغتصاب .
ومعلوم أن المجتمع مع أنه يدين بدين الإسلام لا زال لا يعتبر تعاطي الخمر والمخدر جريمة كما يعتبر الاغتصاب والسرقة والقتل ، علما بأن الإسلام صنف جريمة شرب الخمر ضمن الكبائر. ومن الغريب أن تكون في بلادنا ازدواجية في التعامل مع وسائل ارتكاب الجرائم ، ففي الوقت الذي تمنع الأسلحة منعا كليا ،لأنها تتسبب في انتشار جرائم القتل ، يتم التعامل مع الخمر والمخدر بشكل مخالف فيسمح ببيعهما في المحلات التجارية ، والخمارات والأسواق الممتازة والأماكن العمومية مع أنهما يفضيان إلى نفس الجرائم إذ في الغالب ما يكون القتلة من السكارى أو من الذين يتعاطون المخدرات ، وهذا تناقض صارخ في التعامل مع مسببات الإجرام . ومعلوم أن جريمة السرقة تكون في الغالب من أجل الحصول على أموال لاقتناء الخمر أو المخدر ، وقلما يسرق الإنسان ليسد جوعه أو عطشه ، أو ليوفر كساءه . وفي الغالب يعرف مجتمعنا الجرائم المركبة حيث يسرق المجرم من أجل اقتناء الخمر والمخدر ، ثم يعتدي بعد الوقوع تحت تأثيرهما بالضرب أو الجرح أو القتل أو الاغتصاب ، أو يجمع كل ذلك . ومع ذلك يكثر المحامون بلا حدود للدفاع عنه ، ولتبرير جرائمه المتنوعة ، ويقدم إعلاميا تقديم الأبطال ، ويعاد إلى الأماكن التي ارتكب فيها جرائمه ليعيد تمثيلها ، وكأنها أعمال مسرحية ،علما بأن الحجج تكون دامغة لا تحتاج إلى إعادة تمثيل . وما إعادة التمثيل سوى تقليد أعمى للغرب ، وقد كثرت عندنا عادة تقليد الغرب حتى دخلنا جحر الضب وراءه ،علما بأنه ما ثبت أن أمر القضاء أو التحقيق في الإسلام إعادة تمثيل الجرائم . وغالبا ما تكون إعادة تمثيل الجرائم فرصة لتطوير المجرمين لجرائمهم بناء على تجارب من سبقهم ، وأعاد تمثيل جرائمه بشكل علني أمام أنظار الناس، ومن ضمنهم مجرمون يعقدون العزم على اقتراف الجرائم . وكثرة الجرائم في مجتمعنا تعني اختلال منظومة السلم الاجتماعي لدينا . ولقد صار المواطنون في الحواضر والبوادي يخشون على أنفسهم كل أنواع الإجرام بحيث تقتحم عليهم مساكنهم لتسرق مقتنياتهم ، وتسلب مراكبهم ، وتعترض سبلهم ليجردوا من أمتعتهم وأموالهم ، ويغتصب أبناؤهم وبناتهم ، ويتعرضون للاعتداء بالضرب والجرح ، كما يتعرضون للقتل . وهكذا صار المجتمع في حالة حرب وإرهاب حتى أن من أمسى سالما مساء في بيته حمد الله عز و جل على ذلك ،لأنه في خطر محدق به باستمرار ويوميا . ومقابل انتشار الإجرام على نطاق واسع في المجتمع توجد مقاربة أمنية لا تتجاوز عملية إيقاف المجرمين من أجل إحالتهم على مقاربة القضاء التي تعرف في نظري اختلالا كبيرا هو السر وراء تمادي المجرمين في جرائمهم . فلقد كانت في السابق المقاربة الأمنية السابقة للمقاربة القضائية تساهم بشكل فعال أثناء مطاردة أو استنطاق المجرمين في الحد من انتشار الجرائم بحيث يحسب المجرمون ألف حساب للوقوع في يد أصحاب المقاربة الأمنية ، بينما يتنفسون الصعداء لدى أصحاب مقاربة القضاء .
وبعد الخلط المتعمد بين المجرمين والموقوفين لأسباب غير إجرامية بالنسبة لما يسمى المنظمات الحقوقية ، صار المجرمون يفلتون من إجراءات المقاربة الأمنية التي كانت تلعب دورا أساسيا في ردعهم . والغريب أن تتعرض سمعة البلاد للطعن فيما يخص سجلات حقوق الإنسان بالنسبة للموقوفين لأسباب غير إجرامية من قبيل سجلات معتقلي الآراء والمعتقدات ، ويفلت المجرمون جرائم موصوفة من إجراءات المقاربة الأمنية المفروض غيابها خلال التحقيق والاستنطاق مع معتقلي الآراء والمعتقدات وهو الأمر الذي تدان به بلادنا . والمقاربة القضائية تبدو غير فعالة لأن العقوبات المخصصة للجرائم والتي يطبعها التساهل في الغالب تعتبر مشجعة على الإجرام . كما أن تحول السجون إلى ما يسمى إصلاحيات شجع كثيرا على استفحال ظاهرة الإجرام . فلا بد من وجود سجون بالمعنى الحقيقي خاصة بالمجرمين ، وفيها من الإجراءات ما يستأصل الإجرام منهم . ولو كانت تسمية السجن قدحية كما يظن الذين استبدلوها بالإصلاحية ،لما ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم السجن في قوله : (( ودخل معه السجن فتيان )) فلن يكون المجرمون عندنا أشرف من يوسف عليه السلام ولا من الفتيين، ومع ذلك سمي سجنهم سجنا ولم يسم إصلاحية . ولا بد من عقوبات جسدية أقرها الإسلام من قبيل النفس بالنفس والعين بالعين …. والجروح قصاص إلخ ، ولا بد من قطع يد السارق ، وجلد الزاني غير المحصن ، ورجم المحصن ، وجلد السكران … إلى غير ذلك من التعزيرات .وبدون ردع للجرائم لن يستتب الأمن والسلم الاجتماعيين . ومن المعلوم أن اختلال منظومة السلم الاجتماعي تفضي في النهاية إلى حالة التسيب والفوضى العارمة لا قدر الله ، لأن ضحايا الإجرام المستمر سينفد صبرهم وسيفكرون في ردود الأفعال من أجل الدفاع عن أنفسهم أمام عجز المقاربات الأمنية والقضائية كما كان الحال زمن السيبة .
Aucun commentaire