استشراء الفساد في الوطن العربي وضرورة استئصال شأفته

مشكلة الوطن العربي الكبرى هي استشراء الفساد فيه على كل المستويات. وهو استفحال طالما تناوله المواطن العربي من خلال عملية مقارنة واقعه وحاله بواقع وحال غيره في العالم . فما إن يذكر المواطن العربي مجالا من مجالات الحياة في بقاع العالم المعافى من الفساد بالمديح والتنويه حتى يختم كلامه بأشد العبارات تعبيرا عن الأسف ، وهو يقارن هذا المجال عندنا بغيره عند غيرنا. وقد تأخذ أحيانا المقارنة بين حالنا وحال غيرنا في مختلف المجالات شكل الحديث الساخر سخرية مرة ، بل قد يتخذ منه البعض مادة للتمثيل أو المسرح وحتى التهريج والتنكيت أحيانا . وظاهرة حراك الشارع العربي سببها المباشر هو استشراء الفساد بشكل غير مسبوق في تاريخ الأمة العربية. ولقد وجدت الأمة العربية نفسها ملزمة بالانتفاضة لأن استشراء الفساد بلغ حدا يحرك الأموات بله الأحياء . ولقد صبرت الأمة العربية على الفساد صبرا جميلا، إلا أن استفحاله وضع حدا لصبرها ، وجعلها تثور مرغمة لا بطلة . وحراك الشارع العربي إنما جاء مواكبا لدرجة استفحال الفساد . ودرجة استفحال الفساد إنما تقاس بردات فعل الأنظمة التي ترعى هذا الفساد . فالأنظمة العربية الأشد فسادا لجأت إلى العنف المبالغ فيه من أجل شرعنة استشراء الفساد فيها ، أو لجأت إلى تقديم الرشاوى بما فيها المادية بين يديه لضمان استمراره . وبعضها خنق حراك الشارع في مهده ، وهو يظن أنه قد حقق إنجازا باهرا لأنه استبق الحراك بمنطق القوة والقمع ، ولأنه نجا من مصير الأنظمة الفاسدة التي انهارت ، أو هي في طريق الانهيار ، أو هي متورطة أمام العالم في المذابح المخزية دفاعا عن الفساد . و يجانب الصواب عندنا كل من يعتقد أن ظاهرة حراك الشارع العربي عبارة عن عدوى كعدوى الأوبئة ، لأن اندلاع نفس الحراك في طول الوطن العربي وعرضه يدل دلالة قاطعة على استفحال نفس الفساد فيه . ونظرا لتكريس الأنظمة الفاسدة للفساد في كل المجالات فقد حدث ما يشبه تطبيع بعض فئات الشعوب العربية مع هذا الفساد الذي صار عندها أمرا طبيعيا . ولنأخذ كمثال فقط فساد الرشوة الذي تتعاطاها المجتمعات العربية بشكل طبيعي وكأنها سجية من السجايا. فالتعاطي لفساد الرشوة إنما أضفى عليه المشروعية تكريس الأنظمة الفاسدة له . وعلى غرارفساد الرشوة تقاس كل أنواع الفساد المستشرية في مجتمعاتنا العربية . فالجيوش العربية وقوى الأمن أفسدتها الأنظمة العربية وأمعنت في إفسادها مع مرور الزمن ، فنسيت هذه الجيوش ، وقوى الأمن أنها على غرار جيوش وقوى الأمن في العالم وجدت لصيانة وحماية الأوطان والشعوب ، ولم توجد لحماية الأنظمة ، أو لتقوم بأدوار الأقنان في مزارع الملاك. والوزراء والمسؤولون أفسدتهم الأنظمة الفاسدة ، وأمعنت في إفسادهم ، واختارتهم وفق معايير استعدادهم و مؤهلاتهم للاستجابة للفساد . والأنظمة الفاسدة لا تتناغم مع وزراء ومسؤولين نزهاء ، ولا يدنسهم دنس الفساد ، بل تتناغم مع كل حامل لفيروس الفساد. وبهذا التبست عندنا في الوطن العربي معايير ومقاييس تقويم أو تقييم الصلاح والفساد ، بل انقلبت الموازين فصار الفساد هو العملة الرائجة والمشروعة ، وصار الصلاح أمرا شاذا وعار من كل شرعية،بل صار موضوع سخرية وتندر عند الأنظمة الفاسدة ، وعند فئات من الشعوب العربية التي طبعت مع الفساد ، ولم تعد تعرف غيره عملة رائجة بينها. والحراك العربي كشف لنا عن حجم الإدمان على الفساد بين فئات من الشعوب العربية ، ذلك أن هذه الفئات لازالت تخرج داعمة لأنظمة الفاسدة سواء التي زالت أو التي هي في طريق الزوال. فالغريب أنه لا زال للنظام المصري أنصار يدافعون عنه ، ويرشقون ضحاياه بالحجارة أمام مقر محاكمته. ولا زال للنظام اليمني أنصار يؤيدونه ، ويصدقون أنه ضحية وليس جلادا ، يذكر ضحاياه من عبيد الفساد ، ولا يعنيه من سقط من ضحايا الشعب . ولا زال في سوريا من يؤيد النظام الدموي الذي حطم أرقاما قياسية في الإجرام بشهادة كل العالم حتى الجهات التي كانت تربطها به علاقات مثل تركيا . ولازال لكل نظام عربي فاسد أنصاره الذين يعانون الإدمان على التطبيع مع الفساد. وهذه الفئات المدمنة معذورة لأنها لم تألف من الأنظمة الفاسدة صلاحا ، ولم تعرف طيلة حياتها سوى الفساد، لأنها تعيش بعيدة عن واقع العالم ، ومنغلقة على فسادها ، وصدق الشاعر إذ يقول : ومن يك ذا فم مر مريض /// يجد مرا به الماء الزلالا.
لقد أفسدت الأنظمة العربية الفاسدة كل شيء ، وأقبح فساد روجت له في الوطن هو الفساد على الطريقة الفرعونية ، وهو فساد يقوم على تقسيم الشعوب وجعلها شيعا يستضعف بعضها ، ويركب البعض الآخر من أجل ذلك . وهذا الفساد الفرعوني هو ضمان بقاء فساد الأنظمة العربية ، لأنه بإفساد طائفة من الشعوب العربية يكتسب فساد الأنظمة شرعيته ، ويطبع معه المستجيبون له ، والخاضعون له من الشعوب. وهذا الفساد الفرعوني المستشري في الوطن العربي هو الذي يحاول إجهاض حراك الشارع العربي أو الثورات العربية . وعوض أن يوجه الحراك ، أو توجه هذه الثورات لمواجهة فساد الأنظمة الفاسدة ، فإنها تهدر الجهود في مواجهة الطوائف الضحايا المدمنة على الفساد من الشعوب المخدوعة. كان بالإمكان أن تزول الأنظمة الفاسدة تماما كما زال أول نظام فاسد في الوطن العربي ، ولكن الدروع البشرية المدمنة على الفساد ، والتي تحتمي بها الأنظمة الفاسدة هي التي تلعب دورا رئيسيا في تمديد عمر الأنظمة الفاسدة ،كما هو الحال بالنسبة للأنظمة الفاسدة التي لا زالت تقاوم من أجل الإفلات من الزوال المحتوم. وليس من السهل القضاء على فساد ضارب الأطناب في وطننا العربي ، ولا بد من وقت من أجل معالجة ظاهرة إدمان طوائف من الشعوب العربية على الفساد ، تماما كما يعالج المدمنون على آفة المخدرات. والملاحظ أن الشفاء من الإدمان على تعاطي الفساد والتعامل معه يسير ببطء شديد حيث تقدم الشعوب العربية مئات الضحايا ، وتسيل الدماء المعتبرة قبل أن يستفيق أحد الجنود أو أحد الضباط من غفلته ، ويدرك أنه متورط في حماية الفساد ، وفي تطبيق تعليمات الأنظمة الفاسدة المهلكة للحرث والنسل. وموازاة مع إدمان فساد الجيوش العربية وقوى الأمن ، والوزراء والمسؤولين ، يوجد إدمان آخر تمارسه الأحزاب السياسية التي تربت بين أحضان الأنظمة الفاسدة ، والتي طبعت بدورها مع الفساد إلى درجة الإدمان ، وهي تخادع الشعوب العربية من خلال الدعاية الإعلامية البخسة من أجل تمديد عمر الفساد عن طريق ما يسمى اللعبة الانتخابية التي لا يمكن أن تستقيم في ظل فساد مستفحل. فاللعبة الانتخابية تكون ممكنة ومشروعة ، وصحيحة ، وذات مصداقية عندما تقطع الشعوب العربية مع الفساد قطيعة مبرمة. ولا يمكن أن يستنبت الصلاح أو الإصلاح في تربة قد غارت فيها جذور الفساد واستحكمت. ومن مظاهر الإدمان على تعاطي الفساد ، والتعايش معه في الوطن العربي استمرار الإعلام المواكب لفساد الأنظمة ، والذي صنعه فساد الأنظمة صناعة خاصة ليكون المنتوج هو الإعلام المسوق للفساد والمطبع معه. ومعلوم أن الأنظمة العربية الفاسدة إنما ترخص للمنابر الإعلامية المطبعة مع فسادها. و بهذا انتقل أسلوب فرض الفساد من الأنظمة الفاسدة إلى المنابر الإعلامية الفاسدة التي وصلت حد منع كل صوت يفضح فسادها ، وحد مصادرة كل ما من شأنه أن يمس الفساد في الصميم . ولا بد كما مر بنا من فترة لمعالجة الإدمان على تعاطي الفساد والتطبيع معه على جميع المستويات في الوطن العربي قبل أن يمكننا الحديث عن ربيع حقيقي . ومن أساليب معالجة هذا الإدمان التطبيع مع الصلاح والإصلاح على عدة مستويات ، وهي معالجة شبيهة بمعالجة كل النبوات والرسالات السماوية للفساد عبر تاريخ البشرية الطويل . ولا بد أن تجد هذه المعالجة من العراقيل ما وجدته المعالجات النبوية والرسالية قبل أن تستأصل شأفة الفساد في الوطن العربي الذي ابتلي بهذه الآفة في كل مجالات الحياة .
Aucun commentaire