لا بد من نظرة واقعية للحكم على الوضع السياسي والاجتماعي في المغرب

من المؤسف جدا ألا يتنبه كثير من المغاربة إلى ثقافة الاستئصال التي تهيمن على بعضهم دون وعي بخطورتها عليهم قبل غيرهم . فثقافة الاستئصال تعكس التخلف وتجاهل الواقع ومحاولة تجاوزه بشكل خرافي ، والغرور ، والثقة الزائدة عن الحد في النفس من خلال إقصاء الآخر بل من خلال إعدامه ، وإسقاطه من الحساب جملة وتفصيلا. وعندما تمارس هذه الثقافة المنحطة في مجتمع من المجتمعات البشرية فإنها تعكس درجة انحطاطه . ومن المؤسف أيضا أن تتحكم ثقافة الاستئصال في تقييم أو تقويم الوضع السياسي والاجتماعي في المغرب ، ذلك أن أصحاب هذه الثقافة يدركون وضع البلاد على طريقة إدراك العميان للفيل كما يقال ، بحيث لا يمثل الفيل بالنسبة لهؤلاء العميان سوى ما تلمسه أيديهم ، فالمتلمس للخرطوم لا يعني عنده الفيل سوى الخرطوم ، والمتلمس للناب لا يعني الفيل بالنسبة له سوى الناب ، وهكذا يستأصل كل أعمى باقي أجزاء الفيل التي لا يدركها بحاسة لمسه أو لنقل بطاقة إدراكه المحدودة والتي لا يلقي إليها بالا ، ولا يتهمها بل يزكيها التزكية العمياء التي لا يخامره فيها أدنى شك ، وهذه هي الآفة الكبرى . فما أشبه العديد من الآراء التي تقيم أو تقوم الوضع السياسي والاجتماعي المغربي بتقييم أوبتقويم العميان للفيل. فالمغرب ككل البلاد العربية كان على استعداد للحراك لأن الظروف المحركة للحراك توفرت فيه كما توفرت في غيره ، وهذه حقيقة لا يمكن أن ينكرها أحد . ولا يمكن أن يحكم على الحراك المغربي بأنه مجرد عدوى انتقلت من تونس أو من مصر أو من غيرها ، ولا يمكن في نفس الوقت أن ننفي تأثر الحراكات العربية بعضها ببعض ، ولكن لكل حراك دوافعه الحقيقية وهي طبيعة الفساد المستشري في أنظمة الحكم السياسية . ولئن كانت الحراكات واحدة في شكلها وفي سببها الرئيس الذي هو الفساد ،فإنها تختلف باعتبار خصوصيات لا يمكن أن تنكر. والمألوف في كل حراك شعبي أنه عبارة عن تعبير سلمي عن رفض الفساد ، والمطالبة بالإصلاح . والمعروف أيضا أن الشعار الأول الذي يرفعه كل حراك هو تغيير الفساد وتحقيق الإصلاح . وأمام إصرار الأنظمة على رفض تغيير الفساد وتحقيق الإصلاح، يرتفع سقف مطالب الحراك إلى شعار إسقاط هذه الأنظمة الاستئصالية ، وهو ما حصل في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا لحد الآن. ومعلوم أيضا أن الأنظمة العربية اختلفت في طريقة تفاعلها مع الحراكات الشعبية ، فمنها من واجهها بثقافة الاستئصال وهو خطأ جسيم في تقدير الحساب ، وهو ما جعل سحر الاستئصال ينقلب على ساحره كما هو حال النماذج التي أشرنا إليها . ومقابل ثقافة الاستئصال لدى بعض الأنظمة والخطأ الجسيم في تقدير الحساب، نجد بعض طوائف الشعب في بلاد عربية أخرى تقع في نفس الخطأ ، وتسقط في ممارسة ثقافة الاستئصال مع أنظمة تفاعلت مع حراكها بشكل إيجابي ، ولم تسقط في ثقافة الاستئصال.
والذي غر هذه الطوائف وجعلها تتمادى في ممارسة ثقافة الاستئصال هو اعتقادها أن أنظمتها متوجسة من حراكها ، وأنها تخشى السقوط على غرار نماذج الأنظمة التي سقطت في فخ ممارسة ثقافة الاستئصال ، وهذا سوء تقدير ، وسوء حساب سقطت فيه هذه الطوائف . فوضعية المغرب الحراكية اختلفت عن غيرها من وضعيات الحراكات العربية الأخرى لأن الحراك المغربي بدأ حيث كان من المفروض أن يبدأ وهو المطالبة بإسقاط الفساد وإحلال الإصلاح . ولما كان السقف المطلبي معقولا وواقعيا جاء تفاعل النظام معه معقولا وواقعيا من خلال خطاب التاسع من مارس حيث قابل الخطاب المطالب بالوعود بالإصلاح وأشهد العالم كله على ذلك ، وبدأ بعد ذلك في تنفيذ ما وعد به من خلال تقديم مشروع دستور جديد يستجيب لسقف المطالب. وخلال إعداد مشروع الدستور الجديد ظلت بعض الطوائف تمارس ثقافة الاستئصال ، وهي طوائف إما متدينة مبالغة أو متطرفة في التدين ، أو علمانية مبالغة أو متطرفة في العلمانية ، أو طائفية عرقية مبالغة أو متطرفة في الطائفية والعرقية. ولم يتوقف حراك هذه الطوائف المختلفة الأشكال والموحدة الهدف ، وكأن النظام لم يستجب لمطلب التغيير والإصلاح ،ولم ينخرط في إنجازه ، ولم يختلف موقفه عن مواقف الأنظمة العربية الممارسة لثقافة الاستئصال. وظلت هذه الطوائف تبحث جادة عن الاحتكاك بقوات الأمن من أجل إيقاع النظام في فخ ممارسة استئصالها لتجد ذريعة التصعيد ، والحذو حذو الحراكات العربية التي واجهت استئصال الأنظمة غير المتفاعلة بشكل إيجابي معها. والطوائف الممارسة لثقافة الاستئصال عندنا معروفة بهذه الممارسة منذ زمن بعيد وقبل أن يكون الحراك ، لهذا وجدت في الحراك فرصة سانحة لمعاودة تسويق الاستئصال مستغلة هذا الحراك ، بل بلغ الأمر ببعضها حد ادعاء الوصاية على الحراك ، وكأنه ليس إرادة شعب برمته بل إرادة طوائف تسوق الشعب سوق الأنعام ، وهي طوائف لا تستحيي من الحديث باسم الشعب ، وهي في حقيقة أمرها تمارس ثقافة استئصال طوائف الشعب الأخرى من خلال محاولة تجاوزها ، وجعلها مجرد قطعانا تابعة لها. وهذه الطوائف التي تعاني من داء الاستئصال العضال لم تقبل بلجنة إعداد الدستور الجديد إلا إذا كانت من اقتراحها الاستئصالي لأنها كانت تريد مشروع دستور بصبغة استئصالية وإلا اعتبرته مرفوضا.
وبالفعل وبمجرد الإعلان عن مشروع الدستور الجديد جاء رد فعلها الاستئصالي الرافض له ، وكأنه لو قدر لها أن تقدم مشروعها الدستوري لكان وحيا منزها لا يأتيه باطل من بين يديه ولا من خلفه ، ولكان من المفروض على الشعب برمته أن يقبله ويصفق له . والغريب أن مشروع الدستور الجديد مطروح للتصويت عليه ، وعلى هذه الطوائف الاستئصالية أن تثبت للرأي العام المغربي والعالمي أنها ذات أغلبية ، وأنها صوتت ضده لتعاد صياغته من جديد وليرقى حسب ما تزعم إلى طموحاتها . أما أن تعود هذه الطوائف إلى أسلوب الحراك الاستئصالي فإنها تدوس على إرادة شعب لا يقبل الوصاية من أحد مهما كان ، ولا يقبل بنيابة أحد عنه في التعبير عن إرادته. سيدلي الشعب المغربي على اختلاف أطيافه برأيه في الدستور الجديد ، وستحسم صناديق الاقتراع الأمر بعز عزيز أوذل ذليل. ولا يمكن بحال من الأحوال أن ترفض الطوائف الاستئصالية نتيجة التصويت ، وعليها أن تقبله بكل روح رياضية كما يقال ،لأن الواقعية تقتضي وضع الشعب المغربي بكل أطيافه في الحسبان ، وعدم إقصائه . فالمتدين المتطرف ،والعلماني المتطرف ، والطائفي العرقي لا ينكر وجودهم أحد في المغرب ، وليس من حقهم أن ينكروا من يخالفهم في تدينهم أو في علمانيتهم أو في طائفيتهم المتطرفة. والواقع السياسي والاجتماعي هو هذا ولا يمكن إنكاره ، ولا مكان لثقافة الاستئصال في المغرب ، ولا يمكن أن تقبل لأنها تعني بكل بساطة مصادرة طيف أو أطياف سياسية واجتماعية لغيرها من الطوائف الموجودة على أرض الواقع . وعلى كل من يمارس سحر الاستئصال انتظار انقلاب سحره عليه . وعلى أصحاب هذا السحر الحرام أن ينظروا إلى وضعية المغرب السياسية والاجتماعية بواقعية عوض النظرة الخيالية الوهمية انطلاقا من أضغاث أحلام . وعلى هؤلاء تقديم بديل لمشروع الدستور الجديد ونشره عبر وسائل الإعلام ليعرف الرأي العام على الأقل مبلغهم من العلم في صياغة مشاريع الدساتير. أما الوقوف عند حد المواقف الرافضة دون تقديم بدائل واقعية فهو دليل على العجز وفي نفس الوقت على سوء النية والطوية .
1 Comment
لقد وضعت الاصبع حول الداءالذي اصاب الجسم ثم حددت الحيز الذي يمثله الورم فهو جد قليل وبماانه جزء من الجسم نمنى له العلاج وعند لاستحا لة يفرض بتره ليعيش الجسم في سلام ,مقالك جد منطقي لا وصاية على الشعب اتركوه يعبر بكل حرية بنعم او لا للدستور بلادنا تعرف امنا تحسد عليه فالتقوا الله في وطنكم