حديث الجمعة : (( وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين ))

حديث الجمعة : (( وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين ))
محمد شركي
من المعلوم أن الله عز وجل تنزه فعله عن اللهو والعبث والباطل مصداقا لقوله عز من قائل في الآيات الكريمات السادسة عشرة ، والسابعة عشرة ، والثامنة عشرة من سورة الأنبياء : (( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون )) . ولما كان الأمر كذلك فإنه جل في علاه تعهد كل المخلوقات بعنايته ورعايته رحمة ورأفة بها ، وفضل بني آدم عليها تفضيلا، وكان ذلك تكريما لهم . ومن تكريمه لهم أنه خصهم جل شأنه بكلامه الذي أوكل به مبلغين يبلغونه عنه من ملائكته الكرام ومن رسله صلواته وسلامه عليهم أجمعين ، وضمّنه من الهدي والتوجيه والإرشاد ما يجعلهم يحيون حياة طيبة في الحياة الدنيا ، وخير منها طيبوبة في الآخرة .
ولقد اقتضت حكمته سبحانه وتعالى أن يصطفي ويجتبي من خيار خلقه من يبلغون عنه رسالاته، وأهلهم خِلقة وخُلقا للاضطلاع بهذه المهمة السامية التي لا ترقى إلى سموها مهمة ، وكان تبليغهم عن الله عز وجل بالمقال والحال .
ولما اقتضت إرادته ختم رسالاته بالرسالة الخاتمة المنزلة على من ختم به المرسلون سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ،وجعله رسولا للعالمين ، خصه بعظيم الخلق ،وأثنى به عليه لأنه جسد بحاله مضمون تلك الرسالة ، وجعله سبحانه وتعالى إسوة وقدوة لمن بعث فيهم ولمن يتعاقب بعدهم من الناس إلى قيام الساعة .
واستكمالا لما مضى في أحاديث سابقة عن سمو خلقه العظيم الذي جمع أسمى الخصال وأفضل السجايا ، نستعرض اليوم حالا من أحواله مع من شهدوا معهم فترة تبليغ الرسالة وكانوا بدورهم مثله نماذج يتأسى ويقتدى بها وهم بذلك شهود على كل من أتى أو سيأتي بعدهم إلى قيام الساعة ، وهم حجة على العالمين بحيث لا يمكن أن يزعم زاعم بعدهم باستحالة أو تعذرالتأسي والاقتداء .
ومن تلك الأحوال التي حصلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ظروف خاصة مر بها مع صحابته اقتضى الوضع فيها أن يشاورهم في أمور عرضت لهم و لم ينزل فيها وحي من الله عز وجل ولم يكن فيها تشريع . ومن تلك الظروف ما أشارت إليه الآية التاسعة والخمسين بعد المائة من سورة آل عمران الذي يقول فيه الله عز وجل : (( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين )) ، ففي هذه الآية ورد ذكر فعل الشورى أو المشورة أو المشاورة وهي مشتقة من فعل شار الذي يدل على عرض ما يباع من متاع أو غيره من خلال إظهار محاسنه ، ومنه على سبيل المثال عرض الخيل بإجرائها لإظهار قوتها أمام من يرغب في شرائها ، ومنه أيضا قولهم شار العسل واشتاره إذا استخرجه واجتباه ، ومنه قولهم أيضا شار الرجل إذا حسن منظره . ولقد انتقل المشورة من الدلالة على معنى حسي مادي إلى الدلالة على معنى معنوي حيث يقصد به نشدان ما يشير به الغير من سديد الرأي فيما يعرض من هام الأمور وتترتب عن ذلك فوائد ومآرب .
ويرى بعض أهل العلم أن الإنسان بطبعه مجبول على طلب المشورة من غيره حين تشكل عليه الأمور فيروم الرأي السديد فيها حرصا على مصالحه . وقد ورد في الذكر الحكيم استشارة ملكة سبأ ملأها لمّا ألقي إليها كتاب من نبي الله سليمان عليه السلام عرض فيه عليها الخيار الإسلام أوغزو بلادها ، كما ورد أيضا استشارة فرعون ملأه لما عرض عليه نبي الله موسى عليه السلام الإيمان بالله تعالى أو سوء العاقبة في الدارين .
وقبل الحديث عن المشورة التي أمر الله تعالى بها رسوله صلى الله عليه وسلم ـ ، ورد ذكر بعض أخلاقه عليه السلام والتي منها اللين في معاملته للمؤمنين وغيرهم مع تنزهه عن الفظاظة وهي من سوء الخلق، و عن الغلظة وهي قسوة القلب، وهما معا توأمان إذ لا فظاظة إلا بقسوة القلب. ولقد كشف الله تعالى عن مصدر هذه الخصال الحميدة حيث عزاها إلى رحمته منه سبحانه وتعالى أودعها في رسوله صلى الله عليه وسلم لما عهد إليه بمهمة تبليغ الرسالة عنه وذلك اجتبائه خصه به كما خص به كافة إخوانه المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وقد كان عليه السلام أرحمهم.
ولقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه استشار صحابته على سبيل المثال لا الحصر في غزوتي بدر وأحد ، وفي أمور أخرى ملتزما بما أمره به ربه سبحانه وتعالى في أمر المشورة فيما كان يعرض لهم من أمور لم ينزل فيه وحي ولم يشرع لها تشريع ، وكان يستشير منهم ذوي الخبرة والرأي السديد .
ولقد وقع خلاف بين أهل العلم بخصوص هذه الاستشارة التي أُمِر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي كان سبب نزول الوحي فيها هو مخالفة بعض الصحابة أوامره في غزوة أحد ، فقال بعضهم بوجوب هذه الاستشارة وعمومها ،كما هو الشأن عند المالكية ، وقال آخرون باستحبابها. ولما كانت العبرة بعموم لفظ كتاب الله عز وجل لا بخصوص أسباب نزوله ، فإنه لا مندوحة للمؤمنين إلى قيام الساعة عن اعتماد المشورة فيما بينهم اقتداء وتأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالخلفاء الراشدين من بعده ، وبعموم صحابته الكرام رضوان الله عليهم .
ولقد سبق أعلاه ذكر نزوع الطبيعة البشرية نحو المشورة لهذا تعتبر ضرورة من الضرورات يحتاجها المؤمنون حينما يعرض لهم ما يشكل عليه من أمور ما يجد منها ولا يكون لها في التشريع حكم وارد في القرآن أو السنة أوما يليهما من مصادر التشريع المعتمدة يفصل أو يقضي فيها بما تتحقق به مصالحهم .
ولقد ورد بعد ذكر المشورة في الآية الكريمة ذكر التوكل على الله عز وجل وهو ما يبعث الطمأنينة في نفس المستشير بعد تخلصه بالاستشارة من حيرة وتردد بين مواقف أو أمور عرضت له وكان بينها إما تعارض أو تفاضل من حيث الأهمية أومن حيث القيمة ..
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين بضرورة التأسي والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في تعاطيه المشورة مشيرا أو مستشيرا فإذا ما تعاطوها ، وحصل لهم اطمئنان في قلوبهم بما تفضي إليه واقتنعت بها عقولهم وزال ما كان بهم من سابق تردد وحيرة ، وحصل لديهم عزم على الأخذ بما أشير به عليهم يأتي التوكل على الله عز وجل وقد رغّب فيه وجعله سبب محبته لهم .
وما أحوج الأمة المؤمنة في هذا الزمان الذي كثرت فتنه إلى المشورة خصوصا والأمة الإسلامية تمر بفترة تداعي الأمم علينا بسبب ضعفها وهي أسيرة تقليد أعمى إذ تقلد المتفوق عليها ماديا وعسكريا في كل شيء لا تميز بين صالحها وطالحها ،ولا بين غثها وسمينها ،ولا بين ما ينفعها وما يضرها وكل همها هو التفكير في اللحاق بركبهم ولو كان ذلك على حساب هويتها ودينها .
ومما أوقع الأمة الإسلامية في تقليد غيرها من الأمم الغربية منها على وجه الخصوص أساليب مشورتها التي استوردتها منها كما تستورد الماديات المصنعة تقليدها في الاحتكام إلى صناديق الاقتراع بخصوص اختيار شعوبها من يمثلونهم في البرلمانات أمام من يسوسونهم ولكنه تقليد مشوب بالعيوب بسبب خروقات تطال التصويت من قبيل شراء الأصوات بالمال أو تدخل الجهات النافدة فيها … أو غير ذلك من أساليب التلاعب بالاقتراع الشيء الذي يفسد المشورة إن صح أن تنعت بذلك الديمقراطيات الغربية التي لا تخلو من مثالب .
ولقد كان جديرا بالأمة المسلمة أن تحذو حذو سلفها الصالح في اعتماد المشورة الشرعية التي كان يعمل بها حين كان من بين المستشارين فيها علماء ربانيون ورثوا العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانوا من أولي الأمر كما سماهم الله عز وجل في محكم التنزيل ،وبذلك تكون لها برلمانات ينتصب فيها هؤلاء العلماء للنظر فيما يعرض لها من أحوال لا يستطيع للمنتخبون من الشعب البث فيها بما يوافق ما شرع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ولعل أنجع السبل لتحقيق المشورة التي أمر بها الله عز وجل رسوله ومن خلاله أمر بها كل المؤمنين هو تصحيح أساليب الاقتراع وتنقيتها مما يشوبها من شوائب وعيوب مع ضرورة وجود هيئة علماء ربانيين يوجهون المنتخبين البرلمانيين فيما يشرعونه حتى يكون أولا منسجما مع شرع الله عز وجل ثم معبرا عن إرادة من صوتوا عليهم. ولا شك أن أول المشورة هو الحق في التصويت والذي يقتضيه أن يكون المصوتون على علم ودراية بطوايا ونوايا من يتقدمون لتمثيلهم في البرلمانات ، ولا بد لهم أيضا من استشارة العلماء الربانيين فيهم باعتبارهم حراس العقيدة لا يستقيم أمر الأمة بإقصائهم أو تهميشهم حتى لا تسقط الأمة فيما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه المشهور الذي يقول فيها : « إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رؤوسا جهّالا ، فسئلوا فألفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا « . ويجب على من يترشحون لتمثيل الأمة أمام ساستها في البرلمانات أن يحصلوا المعلوم بالضرورة من الدين ، وأن يكونوا على مستوى معرفي يؤهلهم لمهمة تمثيل الأمة في شؤون الأمة ، وعليهم أن يستشيروا بالضرورة فيما لا علم ولا خبرة لهم به أهل الاختصاص تأسيا بالسلف الصالح الذين كانوا على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
اللهم إنا نسألك هداية من لدنك فلا نزيغ ولا نضل ولا نزل، ولا نَظلم ولا نُظلم ، ولا نَجهل ولا يُجهل علينا ، ونعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .





Aucun commentaire