حديث الجمعة (( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ))

حديث الجمعة (( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ))
محمد شركي
مواصلة للحديث عن ثناء الله عز وجل على رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم الذي ختم به المرسلين، وختم برسالته الرسالات ،وبعثه رسولا إلى العالمين حتى قيام الساعة، سنتناول في حديث هذه الجمعة ما أُثنِيَ به عليه في الآية الكريمة الثانية من سورة الجمعة التي يقول فيها الله عز وجل : (( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين )) ، وهي آية جاءت مباشرة بعد فاتحة هذه السورة العظيمة التي شرع فيها الله تعالى صلاة الجمعة، وتضمنت تسبيحا لله الملك، القدوس، العزيز، الحكيم . وبعدها امتن الله تعالى على أمة العرب الأمية ببعث خاتم المرسلين فيها ،وهو منها عروبة وأمية إلا أنه اختاره ليكون هادي للبشرية قاطبة إلى قيام الساعة، وقد أوتي العلم والحكمة من لدن الله عز وجل معجزة منه ، وله سبحانه حكمة بالغة وراء بعث نبي أمي لا يقرأ ولا يكتب في أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب ،ولكن ليس في أميتها ما يقلل من شأنها بين الأمم و قد أخذت العلم والحكمة عن خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم الذي صدقت رسالته لما بين يديها من الرسالات السابقة وهيمنت عليها ، و بذلك جعلها الله تعالى آخر رسالة للبشر أجمعين ، وجعل مبلغها لهم نبيه الأمي ،كما جعل أمته الأمية ناقلة لها عنه تنظيرا وتطبيقا ، وفي هذا تشريف لها .
ومن صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم الواردة في هذه الآية الكريمة صفة التزكية، و صفة تعليم الكتاب والحكمة لمن بعث فيهم من الأميين ولسائر البشر إلى قيام الساعة .
أما صفة التزكية فمن دلالاتها اللغوية التطهير الذي يزيل الدنس المادي والمعنوي ،وأكبر دنس أصاب البشرية منذ فجر التاريخ هو الشرك بالله تعالى الذي ورطها في عبادة غيره من الأصنام والأوثان … وغيرها من مخلوقات الأرض والسماء. وكان هذا الشرك سببا في شقائها الدنيا، وفي شقاء أكبر وأدوم في الآخرة .
ولقد كانت الأمة العربية في جاهليتها قبل لطف الله تعالى بها بنعمة الإسلام تعاني من دنس الشرك وهي تنحت من الصخر ما تظنه جهلا منها آلهة فتعبدها مع أنها لا تنفعها ولا تضرها ، ولا تملك موتا ولا حياة ولا نشورا، و شقيت بشركها شقاء فظيعا ، وساءت حياتها سوءا كبيرا عكسته أحوالها كما شهد بذلك كتاب الله عز وجل . وجاءت تزكية الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة في وقت بلغت فيه جاهليتها أوج فسادها وطغيانها وبعد الناس خلالها عن الفطرة السوية التي فطرهم الله تعالى عليها . وبعد نعمة التزكية صارت في أحسن الأحوال ،وبذلك صارت خير أمة أخرجت للناس تزكيهم بدورها كما زكاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بإخراجها من شر الشرك والكفر إلى خير الإيمان حيث عبّدها لله تعالى دون شركاء وعلمها توحيده وتأليهه والخضوع لأوامره ونواهيه من أجل الظفر بحياة طيبة في الدنيا ، وبالمقام المحمود في الآخرة .
وترتبط صفة المُزكِّي في رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفة المعلم ارتباطا عضويا بحيث يكون هذا تعليمه وسيلة لتحقيق التزكية . ولقد حدد الله تعالى دلالة التعليم الذي أوكل به رسوله صلى الله عليه وسلم وهو تعليم الكتاب والحكمة المنزلين عليه وحيا يوحى قرآنا كريما وسنة مشرفة . وعندما يستعرض ما فيهما من توجيهات ربانية ، ويحصل التخلق بهما على الوجه المطلوب تحصل حينئذ التزكية في أكمل وأحسن صورها ، وبذلك يكون المُزَكُّون خير من أخرج الله تعالى للناس لمساعدتهم على بلوغ مرتبة التزكية بدورهم والتي تجعل حياتهم طيبة في دنياهم، كما تجعل مردهم ومقامهم محمودا في آخرتهم .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين بخلقي التزكية والتعليم اللذين وصف بهما الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم من ضمن ما وصفه به تحت مسمى الخلق العظيم الذي هو عبارة عن تخلق بالقرآن الكريم كما أخبرت بذلك عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها حين سئلت عن معنى خلقه العظيم صلى الله عليه وسلم وقد أثنى به الله تعالى عليه .
ومن باب التذكير أيضا أن الله تعالى جعل رسوله عليه الصلاة والسلام إسوة وقدوة للمؤمنين ، والتأسي والاقتداء إنما يكونان بالتخلق بكل ما تخلق به عليه الصلاة والسلام العظيم قولا وفعلا .
إن المؤمن لن يكون حقا ملتزما بالأمر الإلهي القاضي بالتأسي والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بتزكية نفسه التزكية التي تزكى بها عليه الصلاة والسلام ، وزكى بها من بعث فيهم وشهدوا بعثته ، وجعلها تزكية لكل من يأتي بعدهم إلى قيام الساعة . ولا يمكن أن تُحصَّل هذه التزكية إلا بتعلم الكتاب والحكمة المتضمنين لأسباب تحصيلها بحيث تنعكس عمليا وإجرائيا على السلوك والمعاملات. ومعلوم أن تعلم الكتاب والحكمة يوجب على عموم المتعلمين أن يعلموا المعلوم بالضرورة من الدين ويعملوا به ، ولا عذر لأحد منهم في جهلهم به ، ويتجاوز خاصتهم ذلك إلى أبعد الحدود من العلم وهم ورثة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم الذين ورَّثهم العلم والتزكية ، ويجب بالضرورة أن يتجلى ما ورثوه من خلال سلوكهم مقالا وحالا منسجمين معا. ،
وإذا ما أرادت الأمة المسلمة أن تقيس اليوم نسبة تزكيتها فعليها أن تنظر في أحوالها وسلوكاتها ، فإن كانت متناغمة ومتماهية مع الكتاب والسنة حصلت حينئذ التزكية . ولتنتبه الأمة المسلمة إلى تقلد غيرها من الأمم الضالة التقليد الأعمى بعدما ترسخت لديها عقدة الشعور بالنقص أمامها ، وهي تظن بها السداد .
ولقد آن الأوان للتفكير الجاد والجدي في أمر التزكية التي امتن بها الله تعالى على الذين أنقذوا من الضلال وهم يومئذ أميون لا يقرءون ولا يكتبون. وإنه لمن العار والشنار بعد خمسة عشرا قرنا من الزمان مضت على بعثة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم أن تظل الأمية فاشية في الأمة المسلمة تحول دون امتلاك الوسيلة إلى التزكية التي بها تصان آدمية الإنسان الذي كرمه الله تعالى، وفضله على كثير ممن خلقا تفضيلا .
وما سادت الأمية والجهل المترتب عنها في الأمة المسلمة إلا لخلل وانحراف في التعليم الذي لم يستقم أمره بعد كي يؤدي إلى ما يرجى منه من تزكية تعطي الإنسان السوي، والخلوق ، والخيّر، والنافع ، والمتزن … الذي لا يُرى منه إلا الخير ، ولا يُسمع عنه سوى الخير ، ولا يلمس منه إلا الخير ، ولا يغيب الخير منه حيثما حل وكيفما سعى ، ومهما قلد من مسؤولية كبيرة أو صغيرة .
وخلاصة القول أنه لا هداية ولا استقامة على صراط الله المستقيم إلا بالتزكية ، ولا تزكية إلا بعلم علمه الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم .
اللهم الطف بنا يا لطيف وقد ساءت أحوالنا وأحوال ذريتنا ، ورد بنا وبهم إليك ردا جميلا رحمة ورأفة منك .
اللهم انصر إخواننا المجاهدين المرابطين الصابرين المصطبرين المحتسبين في أرض الإسراء والمعراج نصرا تعز به دينك ، واحفظهم اللهم ممن يريدون بهم كيدا وشرا وغدرا أنت سبحانك وليهم ونصيرهم، ونعم المولى ونعم النصير .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .





Aucun commentaire