حديث الجمعة : (( وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات والأرض ألا إلى الله تصيرالأمور ))

حديث الجمعة : (( وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات والأرض ألا إلى الله تصيرالأمور ))
محمد شركي
استئنافا للحديث عما أثنى به الله عز وجل في محكم التنزيل على خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم من عظيم الخلق المتمثل في تخلّقه بما أوحي إليه ، نقف في هذا الحديث عن جانب من هذا الخلق العظيم الوارد في الآيتين الكريمتين الثانية والثالثة والخمسين من سورة الشورى التي يقول فيهما الله عز وجل مخاطبا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم : (( وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات والأرض ألا إلى الله تصير الأمور))، وقد وردتا في سياق إنكار المشركين نزول الوحي على رسول صلى الله عليه وسلم ،لأن عقولهم القاصرة وإصرارهم على الشرك جعلهم لا يستسيغون نزول الوحي عليه بسبب بشريته ، وقد ذكر القرآن الكريم بعض ما كانوا يقولون عنه كما هو الشأن في الاية الكريمة السابعة من سورة الفرقان التي يقول فيها الله عز وجل : (( وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا )) ، وكما قال تعالى في الآية الكريمة الثالثة والتسعين من سورة الإسراء على لسانهم : (( ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه )) … إلى غير ذلك من الآيات التي سردت أقولهم المصرة على تكذيبه عليه الصلاة والسلام ، ومطالبتهم بما هو أكبر من ذلك كرؤية الله ـ تعالى علوا كبيرا عما يقولون ـ ونزول الملائكة الكرام كشروط لتصديقه . و لقد جاء الرد عليهم في الآية الكريمة الواحدة والخمسين من سورة الشورى حيث قال الله عز وجل : (( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم )) ، وقد حدد سبحانه كيفية نزول الوحي من عنده، وهي على نحو من هذه الأنحاء الثلاثة التي سردها
في هذا السياق وردت إشادة الله تعالى بصفة الهداية التي أودعها في رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهي من ضمن ما جبل عليه من خلق عظيم اكتسبه من القرآن الكريم تخلُّقا .
وعندما نتأمل هذه الصفة أو هذا الخلق عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، نجد أن فعل الهدي أو الهداية يقتضي بالضرورة أن يكون المستهدفون به إما في جهل أو في تيه وضلال . ومعلوم أن صفة الهادي تطلق على الدليل الذي يرشد الناس أو يدلهم في أسفارهم حتى لا يضلوا السبل المفضية إلى مقاصدهم ، كما تطلق أيضا على النجوم التي تدل السارين ليلا في بر أو بحر كما جاء ذلك في الآية الكريمة السادسة عشرة من سورة النحل حيث يقول الله تعالى : (( وعلامات وبالنجم هم يهتدون )) ، وكذلك في الآية الكريمة السابعة والتسعين من سورة الأنعام التي يقول فيها جل من قائل : (( وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر )). ومعلوم أن الدليل أو الهادي يكون بالضرورة خبيرا ومطلعا ، كما يكون رفيقا بمن يدلهم ويرشدهم ، وحريصا على بلوغهم مبتغىاهم ، ومحبا الخير لهم ، ولهذا تقاطعت كل هذه الصفات مع صفة الهادي التي أثنى بها الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وهي من تجليات من الخلق العظيم الذي وصفه به ربه جل وعلا ، وهو شامل لكل أخلاق الكمال فيه عليه الصلاة والسلام .
ولقد بين الله تعالى كيف تخلَّق الرسول صلى الله عليه وسلم بخلق الهداية بعدما كان من قبل لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان ذلك أنه أوحى إليه القرآن الكريم، وهو روح من أمره سبحانه وتعالى ، وجعله نورا لهداية من يشاء سبحانه من عباده . ولقد اقتضى ما أوحى به الله اتعالى من نور لهداية الخلق وجود الرسول صلى الله عليه وسلم وسيطا بينه وبين الخلق، وهو المبلغ عنه سبحانه هذا النور الذي اكتسب منه صفة النورانية المتمثلة في الهداية وقد تخلق به أو بالأحرى خلّفه به ربه سبحانه وتعالى . وما كان للخلق أن يهتدي من تلقاء نفسه دون وجود وساطة رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم وبين نور الوحي الطارد لظلمات الضلال ، وهي وساطة تتمثل في التبليغ عن الله عز وجل مع التخلّق بما يبلغه ويحصل ذلك من خلال ترجمة عملية إجرائية تجعل الخلق يستوعبون دلالة الهداية . وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبلغ عن ربه سبحانه وتعالى أمرا أو نهيا ينضوي تحت فعل الهداية حتى يكون أول من يلتزم به ، فيستوعب من يبلغهم مقاله مقترنا بحاله .
وهداية رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلق إنما هي هداية إلى صراط وصفه الله تعالى بالمستقيم، ونسبه إلى ذاته المقدسة مباشرة قائلا : (( صراط الله الذي له ما في السماوات والأرض ألا إلى الله تصير الأمور )) ، ومن كان هكذا ملكه وسلطانه سبحانه بهذه السعة ،وكل الأمورتصير إليه، فصراطه بالضرورة يكون مستقيما، بل هو أقوم سبيل حين تفرقت السبل بالخلق كما نبه إلى ذلك سبحانه وتعالى في الآية الثالثة والخمسين بعد المائة من سورة الأنعام حيث قال : (( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون )) . ولئن أمر الله تعالى هنا باتباع صراطه المستقيم ، فإنه أمر أيضا باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم الذي يدلهم عليه ، كما ورد في الآية الكريمة الثامنة والخمسين من سورة الأعراف التي يقول فيها جل شأنه : (( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون )) ، ولهذا لا هداية ولا اهتداء إلا باتباع ما أنزل الله عز وجل، واتباع من بلغ عنه ذلك صلى الله عليه وسلم .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تنبيه المؤمنين إلى تجل من تجليات الخلق العظيم الذي خلّقه به ربه سبحانه وتعالى، وأثنى به عليه في محكم التنزيل وهو خلق الهادي إلى صراط الله المستقيم . ولما كان الله تعالى قد جعل رسوله صلى الله عليه وسلم إسوة للمؤمنين كما جاء في الآية الكريمة الواحدة والعشرين من سورة الأحزاب التي يقول فيها جل شأنه : (( لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا )) ، فإنهم ملزمون بالتأسي والاقتداء به . ومما يجب الاقتداء به أن يكونوا هداة أيضا مثله يهدون إلى صراط الله المستقيم على بصيرة كما جاء في الآية الكريمة الثامنة بعد المائة من سورة يوسف والتي يقول فيها الله تعالى : (( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين )) ولا بصيرة إلا شريطة نهج أسلوبه صلى الله عليه وسلم في الهدي والهداية الذي كانت أقواله تتماهي مع أحواله .
وما كان الناس على عهده صلى الله عليه وسلم يتلقونه منه شيئا مما يوحي به الله تعالى له إلا ويرونه رأي العين في سلوكه وتصرفاته ومعاملاته، فيترسخ ذلك في أذهانهم لمطابقة أحواله أقواله .
ولقد جاءت بعده صلى الله عليه وسلم أزمنة على الناس لم يحسنوا التأسي والاقتداء به في خلق الهداية حيث صارت أقوالهم مناقضة لأحوال يأمرون ولا يأتمرون ، وينهون ولا ينتهون ، ويدعون إلى صراط الله المستقيم وهم عنه ناكبون . وما زالت تلك أحوالهم حتى ابتدعوا من البدع والضلالات ما يشهد عليه واقعهم المناقض لما جاء في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ،وهم يفترون الكذب على الله تعالى وعلى رسوله عليه الصلاة والسلام ويزعمون أنه قد خاطبهم ، وورثهم أسرارا منها ما ابتدعوه مما لا حجة ولا دليل لهم عليه في كتاب أو في سنة ،وهم يلوون بأعناق آيات الذكر الحكيم وأحاديث الرسول الكريم مستغلين ذلك لتبرير بدعهم وضلالاتهم ، وتضليل الناس بها وصرفهم عن صراط الله المستقيم وما هم في الحقيقة إلا طلاب عرض الدنيا الزائل يتهافتون عليه تهافت الفراش على النار وقد ضلّوا وأضلّوا خلقا كثيرا، ويكفي أن تعرض أحوالهم على أقوالهم ليتضح ما بينها من بون شاسع وصارخ لا يخفى على ذي لب .
اللهم اهدنا صراطك المستقيم مع المنعم عليه من عبادك المؤمنين ، واهدنا واهد بنا إليه، واجعلنا هداة لمن اهتدى. اللهم إنا تعوذ بك من الزيغ عن صراطك المستقيم أو إزاغة خلقك عنه .
اللهم عجل لإخواننا في أرض الإسراء والمعراج بفرج من كربهم عظيم، وأنت أعلم بحالهم . اللهم هازم الأحزاب اهزم أعداءهم، واجعلهم عبرة للعالمين بهلاك كهلاك الغابرين عاد وثمود وفرعون وهامان وقارون إن القاهر فوق العباد، وأنت الذي تصير إليك الأمور سبحانك .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
تنويه : المرجو اعتماد الإرسال الثاني لهذ ا الحديث بسبب سهو ترتب عنه نسبة الآية الكريمة الثالثة والتسعين إلى غير سورتها التي هي سورة الإسراء عوض سورة الشورى.





Aucun commentaire