مقنعة السائل عن المرض الهائل:مكاشفة سوسيوثقافية الجزء(9)

بقلم: د – خالد عيادي

« إن قيل :ما باله في المواضع الوبيئة أخف ، قلنا : إن صدق الزعم فللأنسة من النفوس بالأهوية الخبيثة وتعودها المصابرة له والتعاهد به كالذي يحكى عن بعض الجواري اللائي يغذين بالسم بتدريج ويحتال بهن على الملوك..إن قيل لأي شيئ يكرر وقوعه في أهل الشظف ؟ قلنا :لأمور منها : إمكان المباشرة لمضانه من المرضى والجنائز والأثواب والآلات، ومنها ضيق المساكن والتراكم وسوء التدبير، وعدم التحفظ ، وقلة التيقظ ، ولفشو الجهل وعدم العلم بهذه الأمور في طبقات اللفيف.^([1])

       في هذا المقطع عدة إشارات تاريخية واجتماعية وعلمية وتربوية بالغة الأهمية ،فابن الخطيب يعود مرة أخرى للحديث عن مسألة المناعة التي يكتسبها الجسم من جراء احتكاكه بالمرضى أو البيئة المريضة ، وهو أمر من الأرجح أنه استخلصه من حديث الطاعون الذي ينهى فيه النبي(صلى الله عليه وسلم) عن الخروج من الطاعون إذا وقع بأرض. قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن أسامة بن زيد : »إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها ».^([2].)

       يعبر »لسان الدين بن الخطيب » عن تقوية المناعة، التي صارت في وقتنا من المعلومات الطبية البديهية، بقوله : « فللأنسة من النفوس بالأهوية الخبيثة وتعودها المصابرة له والتعاهد ». ويطلعنا في هذا السياق بدليل حسي و واقعي ما كان ليستشهد به لو لم يكن من أهل السياسة في عصره. وهو قوله: » كالذي يحكى عن بعض الجواري اللائي يغذين بالسم بتدريج ويحتال بهن على الملوك. » ومعنى هذا أن الجارية تطعم السم بطريقة تدريجية على فترات تدوم شهورا أو سنوات ،حتى إذا اكتسبت منه مناعة، وصار لا يؤثر فيها، بعث بها بطريقة من الطرق إلى من قد تآكله أو تشاربه من أهل الملك، فتسقيه السم،وبهذه الحيلة تنتفي الشبهة عنها. وهذه الشهادة غاية في الأهمية،لأنه كان واحدا من أهل السياسة والبلاط المطلعين على ما يجري داخل دهاليز الحكم، المتسم بأنواع المكر والكيد والخديعة. وقد تعطينا هذه المعلومة نظرة عما كان يجري بين ملوك الطوائف من ضروب القتل و الاغتيالات.

       انظر كيف يتكلم « لسان الدين بن الخطيب » وهو في القرن الثامن الهجري عن طبقتين من المجتمع:طبقة أهل الشظف وهو مصطلح يجمع فيه بين الفقر والكثافة السكانية والرعونة و الجهل وعدم التعلم. وطبقة الأغنياء والمتعلمين من ذوي المساكن الفسيحة و الأناقة وحسن التصرف في تدبير المساكن والبيوت. ويلاحظ الكاتب أن الطاعون يقل في الأغنياء، بينما يفشو في طبقات الفقراء.

       المتلقي أو القارئ حاضر في هذه الرسالة الطبية^([3]). وذلك من خلال إجابته عن أسئلة « سائل » . وهذا السائل قد يكون حقيقيا أو متوهما. وعبارة « إن قيل » تربوية مألوفة في التراث العربي والإسلامي،  خصوصا في الكتابات الموجهة للمتعلمين. ولها فوائد تربوية منها تنبيه القارئ وإشراكه في إنتاج المعرفة وشده إلى النص. وهي أيضا تنبئنا بقوة عن حضور القارئ في العملية التعليمية والتربوية عند العرب .

 ……………………………………………………………………………………………………………………………

 ) مقنعة السائل عن المرض الهائل- ابن الخطيب – ص81 .[1]

[2]  ) أخرجه البخاري برقم:5728.ومسلم برقم:2218.

 ) سأرجع للبسط في هذه المسألة التربوية فيما أكتبه في سلسلة:ملامح الوعي التربوي عند العرب.[3]