من الهَزْل في الجِدِّ إلى الجِدِّ في الهزل

بسم الله الرحمن الرحيم
من الهَزْل في الجِدِّ إلى الجِدِّ في الهزل
الحسن جرودي

يُعرف الهَزْلُ على أنه عكس الجِدِّ، ومن ثم فإن القاعدة العامة المعمول بها بالنسبة لهذين المفهومين تتمثل في ارتباط الأول باللعب والدعابة واللهو والتسلية فيما يرتبط الثاني بالعمل والاجتهاد فيه وبذل الجهد لإتقانه، إلا أننا نصادف مع الأسف في حياتنا اليومية جمهورا غفيرا يعمل بعكس هذه القاعدة، خاصة فئة الشباب منهم، مع العلم أنه لا يمكن استثناء الفئات الأخرى بالكامل، بحيث يؤخذ العمل مأخذ الهزل فيما يؤخذ اللهو واللعب مأخذ الجِد. ونظرا لصعوبة التمييز بين العمل واللعب في عصرنا الحالي الذي اختلطت فيه المفاهيم، فإني سأقتصر على التعليم نموذجا في مجال العمل، وكرة القدم نموذجا في مجال اللعب واللهو، حيث يُلاحظ، دون تعميم، أن عددا كبيرا من التلاميذ يغلب عليهم الهزل في التعامل مع كل ما يرتبط بالدراسة، فيما يبذلون الوسع في التعامل مع مختلف الألعاب وخاصة كرة القدم… وهو ما ينطبق على عدد من رجال ونساء التعليم مدرسين وإداريين، وآباء و…، بحيث تجدهم يسهرون إلى وقت متأخر من الليل لمشاهدة مباراة في كرة القدم، في الوقت الذي قد يُعْرِض تلاميذ عن إنجاز بعض واجباتهم، ويتغيب موظفون عن عملهم، بل قد يُفَوِّت مصلّون صلاتهم …هذا إذا كان المعنيون مشاهِدون للمباراة أما إذا كانوا ممارسين لها فإنهم يلتزمون بقواعدها الصارمة دون مناقشة ولا أدنى اعتراض، بدءا بتطبيق برنامج التداريب من حيث توقيتها وكثافتها مرورا بالتزام الحِمْية إن كانت اللعبة تتطلب ذلك، ووصولا إلى التطبيق الصارم لقواعد اللعبة أثناء المباراة حتى وإن كانت حِبِّية. والسؤال المطروح هو لماذا هذا التحول في المفاهيم؟ حتى أصبح الجِد من سمات ممارسي اللعب بينما الهزل واللامبالات من سمات العمل بمختلف أنواعه انطلاقا من وظيفة التعلُّم إن صح التعبير إلى مختلف الوظائف والمهام، ولعل ما يلاحظ من استخفاف في مجال التعليم من الأمثلة البارزة في هذا السياق، حيث التأفف والاستهتار هو سيد الموقف مع بعض الاستثناءات في مختلف شرائحه أساتذة وتلاميذ وإداريين وآباء.
لا شك أنني لا أستطيع الإجابة على السؤال بما يكفي من العمق والتمحيص بسبب كثرة العوامل المتدخلة فيه من جهة، وتداخلها فيما بينها من جهة ثانية، لذا سأحاول قدر الإمكان أن أسلط الضوء على بعضها بهدف لفت نظر كل المعنيين بهذا الانحراف الخطير الذي لو استمر على نفس الوتيرة لكانت النتيجة أسوأ مما عليه الآن، وأكثر مما يمكن أن يُتصور، علما أن بوادر مستقبل مُظلم أصبحت بادية للعيان على مستوى طبيعة الشواهد المحصلة من جهة، وعلى مستوى طبيعة الممارسات اللاأخلاقية التي أصبح يعج بها الشارع بل حتى بعض المؤسسات التعليمية وبعض الأوساط المحسوبة على الثقافة والفن من جهة ثانية. وما يُؤسف له هو أن مجموعة من المسؤولين الحكوميين إن لم أقل الحكومة كلها والحكومات السابقة لم تُولِ هذا الأمر الأهمية التي يستحقها لإرجاع الأمور إلى نصابها، بل على العكس من ذلك أبانت عن عزمها للسير في طريق التفاهة وتشجيعها.
أول هذه العوامل يبرز من خلال التداخل بين مفهومي العمل واللعب الذي بلغ حدا يصعب معه التمييز بينهما عند الكثير، وذلك بسبب طغيان العامل المادي الذي أصبح المعيار الوحيد للتمييز بين ما يُتعامل معه بالجِد، وبين ما يتعامل معه بالهَزل، فإذا كان اللعب يُدر على صاحبه مدخولا ماديا، فكل ما سواه يعتبر ثانويا بل ولاغيا.
العامل الثاني يكمن في تركيز الإعلام على فئة الذين برزوا في مجالي اللعب والتفاهة على الرغم من إخفاقهم في مسارهم الدراسي ليخلق منهم نجوما للاقتداء، ولا نعوز أمثلة للكسالى الذين سطع نجمهم في لعبة كرة القدم وغيرها من اللعب، ولا للتافهين المحسوبين على الفن، وما حصل مؤخرا في مهرجان البولفار وغيره من المهرجانات خير مثال على ما أقول، هذا في الوقت الذي لا تعطى فيه أية أهمية للنوابغ من أهل المعرفة والعلم، ولا شك أن هذا يؤثر سلبا على التحصيل الدراسي بالجدية اللازمة.
العامل الثالث يتمثل في كون الصرامة التي يُدير بها المسؤولون مختلف أنواع اللعب لا تتوفر في المسؤولين عن تدبير شؤون مجموعة من الإدارات على رأسها المؤسسات التعليمية ما دام موضوعنا يتعلق بالتعليم. فمن المفروض أن لكل مؤسسة تعليمية قانونها الداخلي لكنها تشترك في مجموعة من البنود المبدئية التي يتعين اعتماد الصرامة اللازمة لتجسيدها على أرض الواقع ، ولنمثل لذلك بما يلي: ففيما يتعلق بالهندام الذي لا يمكن الإخلال به في لعبة ما، بحيث لا يمكن للاعب معين ارتداء بذلة غير تلك التي تفرضها طبيعة اللعبة، نجد أنه متجاوز من قبل جل التلاميذ وحتى بعض الأساتذة خاصة فيما يتعلق بمعيار الحشمة والحياء من خلال ارتدائهم لتلك السراويل الممزقة، وتلك الوِزَر التي لا تحمل إلا الاسم الذي يجعلها لا تفي بالهدف المتوخى منها، باستثناء تمييز الذكور من الإناث لكونهم يلبسون نفس الملابس، وفيما يتعلق بالتدخين العلني لمجموعة من الأساتذة وحتى بعض التلاميذ، وتغيبات وتأخرات التلاميذ بدون مبرر، فهذا أمر غير مسموح به بتاتا في ممارسة أية لعبة من اللعب. وإذا كان التبرير هو عدم إصدار وزارة التربية لقوانين واضحة تُطبق في حق كل من خالفها، فإن تطبيق المتوفر منها يبقى من مسؤولية إدارة المؤسسة مُؤازرةً في ذلك بالأساتذة والآباء والإدارة الإقليمية والجهوية. فليس من حق لا الإدارة ولا الأستاذة التهاون بخصوص تغيبات وتأخرات التلاميذ، ولا في شأن هندامهم ولا في استعمالهم للكلمات والتعابير الخادشة للحياء، كما أن الإدارة ملزمة بتطبيق القانون بالنسبة لتغيبات وتأخرات الأساتذة وكل ما يصدر عنهم من إخلال بالقانون الداخلي للمؤسسة، والقانون بصفة عامة ليكونوا قدوة للتلاميذ، ونفس الشيء ينطبق على الطاقم الإداري من حيث تصرفاتهم داخل أسوار المؤسسة وتعاملهم مع التلاميذ باعتماد الصرامة التي لا تعني العنف بأي حال من الأحوال، ولا تعني ابتذال المهمة المنوطة بهم فيما يتعلق بإسناد نقطة السلوك للتلاميذ والنقطة الإدارية بالنسبة للأساتذة…
العامل الرابع يرجع إلى خفوت الوازع الديني الذي يجعل الفرد مسؤولا مباشرا أمام الله، في كل حركاته وسكناته، بحيث يتعين عليه الالتزام بالوقت في عمله لأن « الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا »، والإتقان في عمله لأن الله « يرحم عبدا عمل عملا فأتقنه »، وعدم الغش فيه « لأن من غشنا ليس منا »، ولا يمكن أن يكون بدون حياء لأن « الحياء شعبة من الإيمان »…
خلاصة القول ونحن على مشارف مباريات كاس العالم لكرة القدم التي ستدوم شهرا كاملا يصادف توقيت إجراء فروض المراقبة المستمرة والتحضير للفرض الأخير من الأسدس الأول، يتعين على الأولياء والأساتذة والإدارة التربوية تحسيس التلاميذ بخطورة الإدمان على اللعب بجميع أنواعه، مع استحسان وضع برنامج مشترك بين التلاميذ وأوليائهم لبعض المباريات التي لا تخل بالدراسة في جميع مراحلها من حضور الدرس في المؤسسة إلى إنجاز الواجبات المنزلية والتحضير للفروض …على أن يتم الرفع من درجة اليقظة لدى جميع المعنيين، فلا تساهل في الغيابات، ولا في عدم إنجاز الواجبات والفروض ولا للغش في الفروض، ولا في الترويج للتفاهة والبذاءة، عسى أن يأخذ الجِدُّ طريقة من جديد نحو مؤسساتنا التربوية لتلعب الدور المنوط بها، وهذا لن يتم في غياب الالتزام بقيم الدين الإسلامي الذي لا ينفي اللعب والترويح عن النفس بقدر ما يهدف إلى ضبطه وعدم طغيانه على الحياة اليومية للفرد المسلم.





Aucun commentaire