حظ كل إنسان من المصائب في دنياه ما كتب الله عز وجل له في أم الكتاب قبل أن يبرأه
حظ كل إنسان من المصائب في دنياه ما كتب الله عز وجل له في أم الكتاب قبل أن يبرأه
محمد شركي
إن الإنسان الذي برأه الباري جل جلاله أي خلقه من عدم مخلوق ضعيف بطبيعته مصداقا لقوله عز وجل : (( يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا )) ، لهذا يلازمه ضعفه، ولا ينفك عنه ما حيي .ولقد سبق في هذه الآية الكريمة ذكر تخفيف الله عز وجل عن الإنسان قبل ذكر ضعفه إعذارا له وذلك رحمة به .
ومن ضعف الإنسان أنه يضيق ذرعا بما ينزل به من مصائب في حياته ،ولا يطيق تحمّلها ، ولو عاد إلى آيات بيّنات من سورة الحديد لوجد فيها ما وعده به خالقه سبحانه وتعالى من تخفيف عنه مراعاة لطبيعته الضعيفة ومواساة له إذ يقول سبحانه وتعالى مخاطبا جميع الناس :
(( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفّار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدّت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور ))
ففي هذه الآيات الكريمة أخبر الله عز وجل الإنسان الخبر اليقين بطبيعة الحياة الدنيا التي هي مجرد لعب ولهو، وزينة وتفاخر بين الناس، وتكاثر في الأموال والأولاد .ولم يقف وصفه سبحانه للحياة الدنيا عند هذا الحد بل جاء بتشبيه تمثيل من واقع الناس كي يستيقنوه ، فجعلها كالغيث الذي يعجب نباته الزرّاع إذا ما هاج وأينع، لكنه سرعان ما يصفرّ ثم يصير حطاما . وإذا ما استوعب الإنسان هذا التمثيل وهو من واقع تراه عينه أدرك حقيقة الحياة الدنيا التي هي حقيقة لعب يلهي عما هو أفضل منها وهي الآخرة . وتأكيدا مرة أخرى لطبيعة هذه الحياة السريعة الزوال يصفها الله تعالى بأنها مجرد متاع ، علما بأن المتاع هو ما ينتفع به انتفاعا قليلا غير باق ولا دائم بل ينقضي عن قريب ، ولا يقف سبحانه عند هذا الحد في وصف الدنيا بل يجعلها متاع غرور ، والغرور هو الباطل الذي طبيعته سرعة الزوال مصدقا لقوله جل وعلا : (( إن الباطل كان زهوقا )) .
وبعد وصف تفاهة الحياة الدنيا وسرعة زوالها ينبّه الله تعالى الإنسان إلى ضرورة المسابقة أو الإسراع في السباق للظفر بما هو خير وأفضل وأوسع وأدوم… من الحياة الدنيا ،وهي فضل الله تعالى الذي يؤتيه من يشاء، لأنه ذو الفضل العظيم . ومقابل حثه سبحانه وتعالى الإنسان على المسابقة للظفر بالحياة الآخرة ، حذره في نفس الوقت من تضييعها ، ومن خسارتها لأن الظفر بها عبارة عن حياة سعادة أبدية في النعيم ، وخسارتها حياة شقاوة أبدية في الجحيم .
ويعود الله تعالى بعد ذلك للحديث عن ضعف الإنسان الذي يجعله يضيق ذرعا بما يصيبه في الحياة الدنيا مع أنها متاع غرور سريعة الزوال ، فيكشف له حقيقة لا يجب أن تغيب عنه وهي أن المصائب التي يصاب بها في دنياه قد كتبت عليه في كتاب قبل أن يبرأه أي قبل أن يخلقه من عدم ، وهو ما يعني أن مصائبه التي تصيبه في نفسه تسبق خلقه تماما كما يسبق تقديرعمره ورزقه ومصيره خلقه ، وكل ذلك في كتاب مسطور . ولقد ذكّر الله تعالى الإنسان بهذا كيلا لا يأسى أو يحزن على المصائب التي تصيبه ، ولا يطمئن ويفرح بالمسرات التي تسره ، وهي في حقيقة أمرها مجرد متاع غرور مصيره سرعة الزوال ،وما كان سريع الزوال كان مصير كل ما فيه من مصائب ومسرات هو نفس المصير، وعجبا لمن يطمئن ، ويتشبث ، ويختال ويفخر بما هو سريع الزوال ، ولا يدوم له دوام ويحزن عليه .
إن هذا الذي ذكّر به الله تعالى الإنسان لا يفعل فعله إلا في النفوس المؤمنة الواثقة بصدق ما جاء في كتاب الله عز وجل والمتيقنة بقوله تعالى : (( قل لن يصيبنا إلا بما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون )) . ومن لا يتشرب في نفسه أو في قلبه هذه الحقيقة ،ليس بمتوكل على الله عز وجل ، وعليه أن يراجع إيمانه ، غير مصرّ على رفض ما كتبه الله تعالى عليه من مصائب، والتبرم منها، وهي التي لا فرار منها ،وقد سطرت في كتاب قبل أن يبرأه خالقه جل وعلا ، كما أنه عليه أن يضع دنياه حيث وضعها الله تعالى ، وكما وصفها له ، وأن يضع آخرته حيث وضعها سبحانه وتعالى ، وأن يسارع إليها في دنياه بسعي يرضاه له ، وأخيرا عليه ألا تحدثه نفسه الأمارة بالسوء ، والشيطان الرجيم قائدها إلى ذلك بالاعتراض على قدر الله عز وجل إن كان شرا ،وهو يقول له سبحانه وتعالى : (( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا )) والاعتراض على قضاء الله تعالى أقبح المعاصي ، وهو ضلال مبين، وبئس الضلال . وعلى الإنسان أن يتشرب عند مصابه قول ربه جل وعلا : (( ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشّر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون )) . ومن لم يجد في نفسه سكينة بعد ترجّعه حين تصيبه مصيبة، فليتيقّن أنه لم يصبر الصبر الذي يبلغه جائزة ربه سبحانه وتعالى وهي صلوات عليه ورحمته به ، وأنه لم يهتد بعد الهداية التي ارتضاها له .
ونختم بالقول أنه ما شقي إنسان في هذه الحياة الدنيا إلا باعتراضه على ما قضى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم و باعتراضه على ما أصابه وهو مسطور في كتاب قبل أن يبرأه خالقه جل جلاله . اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة واجعلنا من عبادك المهتدين ، واجعلنا من الراشدين فضلا منك ونعمة ،أنت مولانا فنعم المولى ونعم النصير .
Aucun commentaire