كيف يحتفل المسلم بانصرام عام مضى وحلول عام جديد ؟

كيف يحتفل المسلم بانصرام عام مضى وحلول عام جديد ؟
محمد شركي
من المعلوم أن الغاية التي يضعها كل إنسان نصب عينه في حياته تتوقف على نوع قناعته . والناس عبر تاريخ البشرية الطويل صنفان : صنف تحكمه قناعة مفادها أنه مخلوق يمتحن في هذه الحياة الدنيا ليبعث بعد موته من جديد ويواجه المساءلة والمحاسبة والجزاء ، وصنف آخر تحكمه قناعة أخرى مفادها أنه لامتحان في هذه الحياة الدنيا، ولا بعث بعدها لمواجهة المسائلة والمحاسبة والجزاء.
ويختلف التعامل مع الزمن بالنسبة لكل قناعة من هاتين القناعتين ، ذلك أن تعامل من يصدر عن قناعة اجتياز امتحان في الحياة الدنيا والبعث بعد الرحيل عنها ومواجهة المساءلة والمحاسبة والجزاء ليس هو تعامل من يصدر عن قناعة مخالفة لها ، ذلك أن الأول يلزمه هاجس الامتحان التفكير بجدية في حسن استغلال الزمن لأن كل فترة تضيع منه قد تكون سببا في فشله وخسارته في امتحانه ، بينما الثاني لا يشغله نفس الهاجس ، ومن ثم لا يهتم يكترث بزمن يعتقد أنه ينقضي بموته الذي لا بعث بعده ، ويقتصر تعامله مع الزمن على صرفه فيما يتعلق بحياته التي يحرص فيها على إصابة أكبر قدر ممكن من المتع حتى لا يضيع زمن العمر القصير دونها.
ولما كان الأمر على هذه الحال ، فإن كل إنسان في هذا العالم يودع كل عام ينصرم ، ويستقبل العام الجديد على طريقته الخاصة التي تمليها عليه قناعته.
والإنسان المسلم له طريقته الخاصة في التعامل مع الزمن ، ذلك أنه بمجرد بلوغه سن التكليف وهو بمثابة سن التمدرس يضبط ساعته كما يضبطها المتمدرس الممتحن ، ويصير الزمن عنده يحسب بالثواني والدقائق والساعات ،لأنه يمتحن بشكل مستمر ودائم فيما يقول ويفعل. فإذا أخذنا امتحانه في عبادة الصلاة على سبيل المثل لا الحصر نجده مكلفا بأداء خمس صلوات في اليوم لها أوقات معلومة بحيث تحين كل صلاة في وقت معين يحدد بدقة متناهية ساعة ودقائق وثوان . وهو دائم السؤال عن أوقاتها ، وهذا تعامل خاص مع الزمن ، وهو استحضار دائم له . وقياسا على أخذه الزمن على محمل الجد في عبادة الصلاة يتعامل بنفس الطريقة مع باقي العبادات التي تخصص لها أوقات خاصة قد تتسع و قد تضيق .ولا يغيب عنصر الزمن من حياته في معاملاته ، فهو يحسب للزمن فيها حسابا أيضا لأنها جزء من الامتحان الذي يخضع له ، وهو يحذر أن تمر لحظة تكون وقتا ضائعا من أوقات الامتحان .
والقرآن الكريم يحث على المسارعة والمسابقة للفوز في الامتحان، ومن ذلك قول الله عز وجل : (( سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله )) ، ، وقوله أيضا : (( سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين )) .
إن المغفرة والجنة عبارة عن جزاء في الآخرة يأتي بعد فترة الامتحان في الدنيا. والمسابقة والمسارعة إنما تكون مع زمن الامتحان الذي يغطي عمر الإنسان من لحظة بلوغه سن التكليف إلى لحظة غررته عند الموت . ومن يسارع ويسابق يسبق لا محالة ويفوز بالجزاء .
وعلى هدي القرآن الكريم يدعو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اغتنام الفرص للفوز في الامتحان ، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام : » اغتنم خمسا قبل خمس ، شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك « .
هذه الخمس المتناقضة تستغرق وقت امتحان الإنسان في حياته ، وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يغتنم زمن الشباب والصحة والغنى والفراغ والحياة لأنه مهدد بزمن الهرم والسقم والفقر والشغل والموت ، وزمن هذه الخمس الأخيرة يعتبر وقتا ضائعا أو ميتا بالمقارنة مع زمن الخمس الأولى .
ولا يمكن أن يدرك الإنسان دلالة الاغتنام الذي أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ساعة يحل الزمن الضائع أو الميت ، ولنضرب على ذلك مثلا لا يراد به الحصر بإنسان أدركه زمن الهرم ،فتعذر عليه بسبب ذلك أن يؤدي بعض واجبات الامتحان الذي يخضع له كواجب الصلاة، فلا يقدرعلى قيامها وركوعها وسجودها، فيتخذ له مقعدا يقعد عليه ليؤدي صلاته قاعدا ، وهو يتأسف لعجزه عن الوقوف والركوع والسجود ، ويتمنى لو كان يقدر على ذلك . وما قيل عن واجب الصلاة يقال عن واجب الصيام والحج . وعلى مثال الهرم يقاس مثال السقم حيث يمنع زمن هذا الأخير الذي قد يقصر أويطول من القيام بواجبات الامتحان سواء تعلق الأمر بعبادات أم بمعاملات . وعلى زمن الهرم والسقم وهو زمن ميت أو ضائع يقاس زمن الفقر والشغل وهو أيضا من الزمن الميت أو الضائع ، ذلك أن المفتقر بعد غنى والمشغول بعد فراغ لا يستطيع القيام بما كان متاحا له زمن غناه وزمن فراغه ،فمن كان على سبيل المثال يستطيع القيام بواجب الإنفاق في غناه يتعذرعليه ذلك وقد افتقر ، ومن كان يستطيع القيام بواجبات أخرى كانت متاحة له وهو في فراغ يتعذر عليه ذلك وقد صار مشغولا عنها بغيرها ولا يجد وقتا يخصصه لها .
وبحلول الموت ينتهي زمن الامتحان ، ولا يستطيع الانسان حينئذ تدارك ما ضاع من زمن حياته لم يستغله لأداء واجبات الامتحان عبادات ومعاملات .
وإذا كان بالإمكان حصول تدارك وقت ضائع أو ميت بسبب هرم أو سقم أو فقر أو فراغ كأن يتدارك على سبيل المثال الهرم ما فاته في شبابه بغناه إن كان غنيا ، فيعوض بواجب الإنفاق ما لم يسمح بأدائه الهرم من واجبات أخرى كان من المفروض أن تؤدى زمن الشباب كواجب الصلاة بكيفيتها أو واجب الصيام والحج . وتقاس على مثال تدارك زمن الهرم الضائع أو الميت الأزمنة الضائعة أو الميتة الأخرى بسبب سقم أو فقر أو شغل ، ولكن لا عوض بعد حلول الأجل.
وشتان بين احتفال المسلم بانصرام عام مضى وحلول عام جديد وبين احتفال غير المسلم ، فهذا الأخير لا يتجاوز احتفاله استحضار اكتمال دوران الأرض حول الشمس بالتقويم الشمسي أو اكتمال دوران القمر حول الأرض بالتقويم القمري . وهو يذكر بعض الأوقات بعينها تعتبر عنده على جانب من الأهمية سواء كانت تتعلق بأفراح أو بأتراح ، بينما المسلم يعيش استحضار الحول لحظة بلحظة لأنه منشغل بامتحانه ، وهو يقدر قيمة زمن هذا الامتحان ، ويحسب له ألف حساب .
وإذا كان غير المسلم يشرب نخب مرور حول وحلول آخر جديد ، ويرقص ويعربد ، فإن المسلم يكون في شغل آخر هو محاسبة نفسه عما قدم في امتحانه خلال حول منصرم ، وما سيقدمه خلال حول مقبل جديد إن مد في عمره ، وأعطي مهلة أو فرصة أخرى . وهو في إدانة دائمة لنفسه لا يرضى عما أنجز وقدّم ، ويعتبره دون المستوى المطلوب منه ، وهو بذلك كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : » الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله » . والعامل لما بعد الموت يحسب لوقت الامتحان ألف حساب ، والعاجز لا يبالي به ، ويراهن على الأماني عوض الرهان على حسن استغلاله في العمل لما بعد الموت .
ولقد أعجبني ما لاحظه أحد الفضلاء مما له صلة باهتمام الناس بالزمن ، ذلك أنهم على اختلافهم في الاعتقاد بالامتحان في الدنيا أو عدمه إذا ما أرادوا السفر جوا اشتد حرصهم على ألا يفوتهم وقت إقلاع طائراته حيث يضبطون ساعاتهم ضبطا دقيقا ، ويقارنون أوقاتها مع ساعات غيرهم ، ومع ساعات المطارات ، ويترددون على مكاتب الإرشادات للتأكد من زمن سفرهم أكثر من مرة ، كما يحرصون على أن يكون خروجهم من المطار إلى مدارج الطائرات عبر البوابات المخصصة لذلك ، وهم يتأكدون أكثر من مرة من الحروف والأرقام المثبتة عليها ، ويقارنونها بما هو مثبت على تذاكرهم ، ويتسابقون في الركوب ، ويحرصون على أن يجلسوا في المقاعد الخاصة بهم ، فيا ليتهم يتصرفون في حياتهم الدنيا مخافة فشلهم في امتحانهم الذي لا يعوض ما فاتهم منه كتصرفهم حين يسافرون عبر الجو بنفس الحرص مخافة ضياع رحلتهم التي يمكن أن تعوض ، وأقصى خسارة قد تلحقهم إن طارت طائراتهم بدونهم بسبب تأخرهم هي أن يدفعوا ثمن تذكرة سفر أخرى .
Aucun commentaire