سامري ليبيا وعجله الذهبي
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وصحبه أجمعين
سامري ليبيا وعجله الذهبي
بقلم: عبد المجيد بنمسعود
قصة حزينة تلك التي سطرها سامري ليبيا الأرعن بجنون لا يجارى،وغرور لا يحد، بدأت ذات خدعة كبرى، أطلق عليها ثورة الضباط الأحرار، في يوم حزين، انكسفت فيه شمس ليبيا، ليمتد كسوفها ما يزيد على أربعين سنة كانت كليل دامس طويل، دخل الشعب خلاله في غيبوبة كاملة عن العالم، إلا من أنين بعيد تردد صداه المفاوز والقفار، ثم سرعان ما يكتم على يد جلاوزة النظام، مخلفا وراءه كتلا من الأشلاء، وبركا من الدماء.
كان السامري التيهان ، يبدل جلده كثعبان، في كل فصل من الفصول، ويحرق البخور في السهول والجبال، وفي الوديان والبحار، يهيئ الأجواء للحظة النزال.
مآسي دامية نسجت خيوطها وضربت أطنابها في كل بقعة من بقاع الوطن الذي قضى من أجله عمر المختار، فتوحد على إثرها بلون الدمع والآلام والأحزان، ولم يسلم من المشهد الكئيب إلا شرذمة من خدام السامري، من السحرة والدجالين، والكذبة والأفاكين، يجلل وجوههم العار والشنار، ويلوون ألسنتهم وأعناقهم لينعقوا بصوت واحد، هو صوت الزور والبهتان، وليرقصوا على معزوفة كريهة واحدة، هي معزوفة الشيطان.
السامري هو الآمر والمأمور، والسامري هو الآسر والمأسور، يوزع القيود والأغلال على الرجال والنساء، وعلى الصغار والكبار، يسقي الجميع من كأسه الممزوجة بأشد العناصر مرارة وسوادا، يتبختر كالطاووس وما هو بطاووس، يصعر وجهه القمطرير للشعب، يعزف على قيثارة التهديد والرعب، يغمس أقلامه السوداء في حبر الكراهية والأحقاد، والشر والطغيان، ليكتب ملهاته الخرقاء، فتح خرطومه الطويل على آبار النفط المعطاء، ليمتصها بشراهة ونهم، ثم يوزعها على سلالته المزروعة كالسل والسرطان في الأرجاء، ثم على سحرته ومريديه، ثم على اللصوص والمشاغبين عبر العالم بكل سخاء.
تلقى ذات صبيحة، وهو في أوج صولته وعتوه، قذيفة من أحد رعاة البقر، هشمت قصره وجدعت أنفه، فراح يعوي ويعوي كالذئب الأجرب، ثم نكس رأسه إلى التراب، وطفق يهذي ويهذي، وهو يذرع دهاليز باب العزيزية التي ليس لها من العز إلا الاسم، ثم قام كالذي يتخبطه الشيطان من المس، ويمم وجهه شطر راعي البقر الأكبر، سائلا الصفح والغفران على ما قدمت شفتاه في حق الأمريكان ، ويعلم الله ما الذي حاكت يداه من بعد ذلك تحت مظلة الذل والهوان. من يومها لم يسمع له العالم ركزا، فقد عزم على خلع جلد الثور الهائج، وآثر الانبطاح الكامل تحت حذاء ريجان، وكله أمل ورجاء، في أن يمحو الغرب ذنوبه، ويبدلها حسنات، ويمنحه صك الغفران، فكان له ما أراد، بعد أن أفرغ أقوات الشعب في خزائن الغرب،وأعطاه وزن كل واحد من ضحايا لوكربي ذهبا.
وللتمثيل والتمويه، واصل ـ لا نقول عنترياته ـ بل « قذافياته » بين الفينة والأخرى، والتي تحمل شارة الرفض والثورة،والتمرد والهجوم على الأمبريالية والغرب الصليبي، وسارت الأمور على ما يرام، في مزرعة القذافي الهمام، وأزلامه اللئام، رغم تلبد السماء بالغمام، فقد تراكم الغيض المتربص كالألغام، وأطلت تباشير ربيع العرب في الأفق القريب كسرب حمام، وأيقن الناس أن انبلاج الصبح قد حان، وأسرجت الخيل ليوم الطعان، وفاحت لتوها روائح الجنان، لقد انتهى عصر التيه، وفار التنور، وجهزت سفينة الرحمن، وظهرت بشائر النصر المبين تضيء في الميدان، وهلل وكبر الفرسان، وتوقف عجل السامري عن الخوار، لقد آن الأوان، آن الأوان.
كانت أول ثمار الربيع سقوط طاغية تونس الجبان، فارتعدت فرائص السامري، وأشفق على نفسه، وسبح في بلاهة ضد تيار الحقيقة إذ قدم نصيحته لأهل تونس بأن يبقوا على الكابوس جاثما على الصدور، وأن ييأسوا من التغيير والإصلاح كما يئس الكفار من أصحاب القبور، لكن هيهات هيهات، فلات حين ذل ولات حين سبات، وامتد طوفان الغضب الكبير، ليعبر ميدان التحرير، وليلتقي مع نهر النيل على أمر قد قدر، ليقتلع فرعون وهامان وجنودهما جزاء بما كانوا يفسدون.
وها هي موجات الربيع العربي المباركة تلامس أرض ليبيا المكلومة بخناجر السامري وسلالته النتنة، فتهتز وتربو، وتنبت من كل زوج بهيج: معادن نفيسة في برقة وطبرق، وبنغازي ومصراتة، وطرابلس ومدن وقرى نفوسة، وغيرها من عرائس المرابطة والجهاد، ترتدي العرائس الأكفان، تصطبغ بلون الدم، تنطلق من حناجرها زغاريد الحب والوفاء، إيذانا بحلول زمان استرجاع الكرامة وتحرير البلاد، يهب الشعب المنكوب كالإعصار، تسبح الحيتان في البحار، وتينع الزهور في القفار، وتنشد الأطيار أعذب الألحان. أما السامري المعتوه ففي جحره المسكون بأفتك الأفاعي، يتلوى كالملدوغ، وعندما يفيق يطلق وابلا من الشتائم والسباب، ينعت شعب ليبيا بالجراثيم والجرذان، ويطرح السؤال في ذهول: « من أنتم »؟ ثم يطلق معزوفته الشهيرة الشوهاء: « زنكة زنكة،دار دار،بيت بيت فرد فرد »، ويطلق النيران في كل اتجاه، يحرق الأخضر واليابس، يعد التوابيت والأكفان، لسكان الجماهيرية العظمى، ليرثها هو وأولاده، ومن والاه من شراذم الفجار، وسرعان ما يأتي الجواب حاسما مؤكدا على سؤاله المحتار: » نحن الثوار الأشاوس الأبرار، أحفاد البطل المجاهد المغوار، عمر المختار، صممنا عزمنا، وأجمعنا أمرنا، على اقتلاع غابة الأشرار، بفضل الواحد المهيمن القهار.
وينهمر الغيث المبارك من السماء، وتبذل الدماء، ويتقاطر الشباب الغض من كل حدب وصوب، يعلنون صرخة التحرير: الله أكبر تجلجل في كل مكان، تحفهم ملائكة الرحمن، تولي الكتائب المدحورة الأدبار، يتعقبهم الثوار، « زنكة زنكة، دار دار، بيت بيت، فرد فرد » ، ويضيف الثوار: غار غار، يدخلون طرابلس فاتحين، وسط أصوات التهليل والتكبير، يدكون مغارة الوحوش،وتشرق ليبيا بنور النصر، وتتذوق طعم الحرية، وتتنشق عبير الكرامة، ونسائم الحق المبين، ويمتد الزحف من هناك،لملاحقة من لاذوا بالفرار، من فلول كتائب البغي، لتطهير ليبيا ومحو العار، وتقترب ساعة الحسم، ويفرح المؤمنون بنصر الله، ويقف شعب ليبيا المرابط الصبار، في صف متماسك مرصوص، ترصعه جواهر الثوار، يلهج بلسان الحمد والثناء،الله أكبر ولله الحمد، ولا نامت أعين الجبناء.
أينك يا قذافي يا لئيم؟ أين دعاواك بالصمود والثبات، أين بندقيتك القعساء؟، ماذا بقي لك من ملك إفريقيا؟ أين خيالك الذي زعمت به للناس أن شعب ليبيا يدين لك بالحب والولاء، ففيم فرارك يا قذافي؟ فهل يفر محبوب من محبيه؟ أم تراك أفقت من غشاوتك في آخر لحظة،لتعلم علم اليقين، أن الأرض غير الأرض، وأن زمان القصاص قد جاء؟ أين أمرك « الدونكشوطي »، لشعبك الموهوم، بالتقدم إلى الأمام، وعدم الرجوع: » إلى الأمام، إلى الأمام،لا رجوع لارجوع ».
ما أشبهك بالسامري يا قذافي، وأنت تفر من جيب لجيب، تلفحك رمال الصحراء، ولسان حالك، وربما مقالك، يردد كما ردد جدك القديم: لا مساس،لا مساس، أين قبضتاك اللتان كنت لا تفتأ ترفعهما في زهو نحو الفضاء، كرمز للصولة، والقوة والغلبة؟
وما أشبهك عجلك بعجله في الخوار، مع فارق في مدة الخوار، ولكن الخاتمة واحدة، والمصير واحد، هو الحرق والنسف في اليم نسفا،وصدق الله القائل: »قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا »)طه:97(
ها قد جاء أوانك يا زعيم، وأنزلت من برجك الذي شيدته على جماجم الأحرار، بنقمة العزيز الجبار، ثم بعزمة الثوار، وهاهي الحسرة تأكل قلبك، وتنخر عظمك، ها أنت تبوء بالخزي والعار، فهل من معتبر؟
وجدة المغرب في 26 شتنبر2011
1 Comment
جزاك الله خير الجزاء على هذه النماذج الرائعة