الذي يزعم أن الدين يجب أن يبقى بعيدا عن السياسة لا يفهم في دين ولا في سياسة

القول بإبعاد الدين عن السياسة قول مستهلك طالما ردده أصحاب الحساسية المفرطة ضد الدين . وأصحاب هذا الاعتقاد يختزلون الدين في الجانب الطقوسي التعبدي ، ويقصونه من الحياة اليومية ومن كل آفاقها بناء على التصور العلماني للحياة ، وهو تصور استعلائي يعطي أصحابه لأنفسهم حق البث في قضايا الإنسان والحياة دون غيرهم . وبالرغم من كون الدين وخاصة دين الإسلام هو تصور إلهي للحياة فإن الذين فتنوا ببشريتهم يجعلون تصورهم البشري فوق تصور خالقهم الإلهي . فهم في نظرهم يفهمون الإنسان أكثر من خبرة خالقه به ، لهذا يتعالون على التصور الديني للحياة ، ويستصغرون شأنه أمام تصورهم الذي لا يتجاوز التعامل البسيط مع المأكل والمشرب والمنكح وفق الأهواء لا وفق الضوابط الشرعية التي وضعها الخالق لهذه الأمور الخاصة بإنسان الطبيعة لا بإنسان الثقافة . والمعلوم أن الدين منهاج حياة لقول الله تعالى في كتابه الكريم : (( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط)) فالرسل صلوات الله وسلامه عليهم لم يبعثوا من أجل دين الطقوس بل من أجل دين الميزان ، وما الميزان إلا العدل من أجل أن تقوم حياة الناس به ، فالله تعالى الخالق الذي أتقن كل شيء ، ولم يفرط في شيء مما خلق ضبط ما خلق بضوابط ، ولم يترك ما خلق لعبث الأهواء ، لأن ذلك يفسد الحياة كما قال جل من قائل : (( ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل آتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون )) فالحق نقيض الباطل ، ومصدره هو شرع الله عز وجل ، والباطل مصدره شرائع الأهواء ، وهي مصدر فساد وإفساد السماوات والأرض ومن فيهن . وفصل الدين عن السياسة أو الحياة هو شرع هوى أريد به باطل من أجل إفساد الأرض والسماء ومن فيهن وما فيهن من حق وعدل .
والقائل بإبعاد الدين عن السياسة علماني بحكم قوله مهما كان انتماؤه الطقوسي للدين ، و خاضع لشرع هواه ، ومعرض عن ذكر جاءه من ربه مع علمه المسبق بأنه الحق الثابت ، وأن ما دونه باطل هواه الزاهق . وعبارة إبعاد الدين عن السياسة هي في الغالب أسلوب الذين يحتكرون الدين، ويتحدثون باسمه ، ويمنعون غيرهم من ذلك ليخلو لهم الجو فيلوون بأعناق نصوص الدين وفق هواهم ، ويركبونها لتبرير كل سلوك يصدر عنهم وإن كان مخالفا للدين . والمتقربون المتزلفون من هؤلاء يحاولون العزف على وتر إبعاد الدين عن السياسة لبلوغ وطرهم . والحقيقة أن الدين هو صمام أمان الحياة يسوس الناس بالمعنى الصحيح للسياسة وذلك لتميزه بخاصية الميزان أو العدل الذي لا تقوم حياة الناس بدونه. ومن الذي يستطيع أن يزعم أنه يحقق العدل بين الناس أو يسوسهم بعدل دون شرع الله عز وجل الذي لا يميل مع أهواء البشر . والمفروض في من يريد فصل الدين عن السياسة أن يكون على يقين من أنه يستطيع أن يسوس الناس بعدل ، ويكون متأكدا من ذلك ، ومن ذا الذي يستطيع المغامرة بادعاء ذلك إلا أن يكون به مس في عقله أو سفه . وإذا كانت السياسة هي تدبير شؤون الناس اليومية فخالق الناس أنزل القرآن لتدبير شؤونهم فدبر أمور معاشهم حتى أنه قسم بينهم الميراث قسمة أعداد مضبوطة صحيحة وكسور، ودبر الأقضية وجعل في القصاص حياة بما في ذلك قصاص الإعدام الذي يرفضه من يفصل الدين عن السياسة سفها ، ودبر التجارة ومنع خلطها بالربا ، ودبر النكاح ومنع خلطه بالسفاح ، ودبر الحكم فجعله شورى ومنع خلطه بالتسلط ، ودبر أمور السلم والحرب ومنع خلطها بالعدوان ، ودبر أمور التعبير والرأي واشترط فيها السداد ومنع فيها الجور وقول الزور والكذب . وخلاصة القول أنه لم يترك أفقا من آفاق الحياة إلا ودبرها وساسها خلاف من يظن أن الدين لا يجب ألا يخالط السياسة لأنه يفهم السياسة على قدر ضيق أفقه ولأمر ما قال الشاعر الحكيم : وتعظم في عين الصغير صغارها ، وهو قدر يعكس الجهل الصارخ بالدين والسياسة معا . ولعل الذي حمل صاحب هذا القول على قوله هو صراعه الحزبي مع غيره ممن يغلو غلوا يحاكي غلوه في فهم السياسة ، ويزعم أنه يستطيع تقنين الدين في حزبه عوض أن يخضع حزبه للدين ، وهو كمن يزعم أن الجزء يمكن أن يحتوي الكل خلاف ما يقبله العقل البشري السوي . فلا الذي يزعم حزبه قادرا على استيعاب الدين على صواب ، ولا الذي يزعم أن حزبه يستغني عن الدين على صواب أيضا ، فكلاهما يخبط خبط عشواء وقد ضل سعيهم في الحياة وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا . فالدين هو الإطار الذي يؤطر الحياة في كل جوانبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وما إلى ذلك من تصنيفات وتقسيمات وتسميات . وكل من خرج عن إطار الدين كان خارج لعبة الحياة رغما عنه . وكل من حاول إقصاء الدين من الحياة يكون قد أقصى نفسه منها جملة وتفصيلا، وغرد خارج السرب كما يقال أو سبح ضد التيار وسفه شرع خالقه مقابل تزكية شرع هواه ، وأقبل على الفساد والإفساد في الأرض من أجل مصلحة شخصية مع شديد الأسف وعميقه ،وهي مصلحة تافهة تعبر عن تفاهة صاحبها ، وهي منقضية لا محالة وصاحبها عائد إلى قدره وجالس دونه مرغم الأنف ، ولولا جهله المركب بنفسه قبل الدين والسياسة و الحياة لما ركب غروره الذي يثير الشفقة عليه .
Aucun commentaire