قراءة سوسيولوجية لأحسن القصص 9 بقلم عمر حيمري
إن وقوف وتحدي يوسف عليه السلام ، لزليخة وظلمها ومن ورائها النسوة وكل خدم القصر ، كان نموذجا وقدوة حسنة ، لكل المظلومين في هذه الدنيا ، إذ عليهم أن لا يرضخوا للظالمين وأن يواجهوهم ولا يعتبرون ظلمهم قدرا ليستسلموا إليه ، وأن لا يتنازلوا عن قضاياهم ومبادئهم ، التي آمنوا بها وعلى رأسها قضية الإيمان بالله واتباع رسوله ، مهما كان ضعفهم وعدم مقدرتهم على المواجهة غير المتكافئة ، وكيف ما كان نوع الظلم ، و مهما كان نوع العقاب والعذاب ، الذي يمارس عليهم . فحجة المستضعف في مثل هذه الحالة واهية وغير مقبولة لقوله سبحانه وتعالى : [ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ( النساء آية 97 )
إن الظلم ظاهرة اجتماعية ، تتكرر عبر الزمان والمكان ، والمطلوب من المظلومين والمضطهدين والمقهورين في الأرض ، أن لا يستكينوا ولا يهنوا في طلب حقوقهم ، وخصوصا تلك المتعلقة بالدين والعقيدة والإرغام على فعل المعصية والإبعاد عن فعل الطاعات . وأن يجعلوا من يوسف عليه السلام ، الذي آثر السجن وويلاته وعذابه ومهانته وقهره على معصية ربه والخروج عن طاعته ، قدوة يحتذى بها في مواجهة الظلم والظالمين وأن يكون سلاحهم الأول ، الذي يعتمدون عليه هو اللجوء إلى الله والاعتماد عليه والإكثار من الطاعات والابتعاد عن المعاصي ، ثم الإسرار على المواجهة والوقوف في وجه الظلم مهما كان طغيانه ، كما فعل يوسف عليه السلام ، ثم الاعتقاد والإيمان المطلق بأن ما يصيبنا لم يكن ليخطئنا ، ولن يصيبنا إلا ما كتبه الله لنا وهذا نوع من الابتلاء يمحص الله به ما في القلوب والصدور ويختبر به . [ أم حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ] ( آل عمران آية 142 ) ولنا نموذج آخر حي في سحرة فرعون الذي ساومهم على إيمانهم بموسى عليه السلام لما تبين لهم الحق ووعدهم بتقريبهم إليه وأغراهم بالأجر العظيم ، فكان الجواب الإسرار على ما آمنوا به ، والتحدي الذي ورد في الحوار الذي جرى بين فرعون والسحرة ، والذي سجله القرآن الكريم بتفصيل لأهميته في الآيات التالية : [ فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن لأينا لأشد عذابا وأبقى قالوا لن نوثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى إنه من ياتي ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى ومن ياتيه مومنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى ] ( سورة طه من آية 70 إلى 76 ) .
لستر زليخة فضيحتها والمحافظة على كرامتها وكبريائها وهبتها ، وحتى لا تسقط في أعين خدم وعبيد القصر وتهان ، وحتى توقف وتحد من القيل والقال ، وتقطع الألسن ، التي تلوك عرضها ، اختارت زليخة وسيدها سجن يوسف عليه السلام إلى حين ، إلى أن تنسى الفضيحة ، ويهدأ القيل والقال ، وينصرف النظر إلى السجن ، عوض زليخة والقصر . [ ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين ] ( يوسف آية 35 ) .
كان الأحرى أن تعتذر زليخة ليوسف وتنهي المشكل وتسيطر على الوضع فيسكت الناس عن القيل والقال وتخرس الألسن ، وتهدأ النفوس . ولا سيما وأنهم كانوا على يقين ببراءة يوسف ، لقوة الحجة ودليل القميص القاطع الفاصل بين الحق والباطل . ولكن النفس البشرية عنيدة في مثل هذه المواقف ، تميل إلى الكبر ، ويعز عليها الاعتراف بالخطيئة والتوبة والرجوع إلى الحق .
قضي الأمر ، ونفذ الحكم ظلما وعدوانا ، ودخل السجن مع يوسف فتيان ، علم السجينان ، بأن ليوسف علم التأويل ، وله مقدرة على تعبير الرؤيا ، فأحسنا به الضن وتوسما فيه الصلاح والخير ، فقص كل منهما رؤياه عليه ، ولا يهم ، إن كانا قد رأيا بالفعل الرؤية في المنام ، أم أنهما اختلقا القصة ونسجاها من محظ الخيال فقط ، أم هي من أحلام اليقظة . المهم أن يوسف عليه السلام ، فسر لهما الحلم ، وأكد لهما أنه قادر على التأويل والتعبير للأحلام وأنه يستطيع أن ينبئ الرائي للحلم بما سيأتيه في المستقبل ولم ينسب ذلك لنفسه أو لسر عنده ، بل رد تلك المقدرة وذلك العلم وتلك الموهبة ، لربه الذي علمه علم التأويل ، والعبرة هنا ، أن يوسف عليه السلام ، قبل أن يفسر للسجينين الرؤية ، عرفهما على نفسه وأطلعهما على شخصيته ودينه وبأنه مؤمن بالله ، وبالبعث واليوم الآخر ، وأنه ليس على ملة قوم السجينين الكافر ، الذي لا يؤمن باليوم الآخر ولا بالبعث . بل هو من أتباع ديانة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب المؤمنين الموحدين ، الذين لا يشركون بالله من شيء وذلك بفضل الله وتوفيقه .
بعد هذا التمهيد بدأ يوسف عليه السلام دعوة السجينين إلى التوحيد ، إذ طرح عليهما سؤالا استنكاريا ، ليثير انتباههما ويشدهما إلى أهمية الموضوع ، ويحفزهما ويزرع فيهما حب معرفة الدين الجديد ، الذي بشرهما به ، فيقبلان عليه بتلهف ، وفي نفس الوقت صحح لهما عقيدتهما وبين لهما ، أن الدين الحقيقي هو دين التوحيد ، الذي يجب أن يتبعانه ويتشبثان به ، لأن ما يعبدونه من دون الله ، هو مجرد أسماء اختلقها الآباء ، واتبعها الأبناء ، ما أنزل الله بها من سلطان ، وأن الحكم لله وحده ، هو الذي أمر بالدين القيم ، الذي لا يجعل مع الله إلها آخر ولا يشرك به شيئا . [ ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تاكل الطير منه نبئنا بتاويله إنا نراك من المحسنين قال لا ياتيكما طعام ترزقانه إلا نباتكما بتاويله قبل أن ياتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يومنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون وتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن اكثر الناس لا يشكرون يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتاكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين ] ( يوسف من آية 36 إلى 42 ) .
Aucun commentaire