Home»Débats»نحو بناء تضامن اجتماعي جديد

نحو بناء تضامن اجتماعي جديد

0
Shares
PinterestGoogle+

 

نحو بناء تضامن اجتماعي جديد

ما واكب حريق سوق مليلية بوجدة من سرقات لبضائع التجار يطرح أكثر من سؤال،  ليس لأننا اكتشفنا فجأة واقع السرقة، بل لأن هذه تمت في ظروف يُفترض أن تتحرك فيها آليات التضامن والتكافل عوض آليات السلب والنهب.

إن التضامن أشكال و أنواع وطبيعته تحدد طبيعة وحدود المجتمع، وهو ليس ذلك التعاطف الذي نشعر به تجاه الغير فنمد له يد المساعدة قدر المستطاع، بل هو نظام اجتماعي عام يربط بين الأفراد والجماعات ويقوم على قيم موروثة ومتفق عليها.وإذا أضفنا نوعية العلاقات الأساسية التي تربط الأفراد والجماعات إلى منظومة القيم السائدة حصلنا على شكل ونوع المجتمع أي على طبيعة نظام التضامن السائد. وليس هناك مجتمع -قديما أو حديثا- يستطيع أن يعيش خارج نظام خاص للتضامن. وبما أن العلاقات الاجتماعية والقيم الأخلاقية التي يتشكل منها التضامن لا تُرى مباشرة فإننا نكتشفها من خلال ردود أفعال الأفراد والجماعات إزاء أحداث عادية أو مآسي صادمة. وردود الأفعال هذه هي مؤشرات على ما يعتمل في عمق المجتمع من تماسك أو تصدع للقيم المؤسِّسة.

السرقة أنواع ومستويات شتى، إلا أنها تلتقي دائما عند الهدف نفسه، ألا وهو أخذ مال الغير دون وجه حق، وتبتدئ قبل ذلك بخرق قيم مركزية يقوم عليها المجتمع. وبقدر ما تكون القيم التي انتُهكت أساس نظام التضامن بقدر ما تتحرك آليات الاستنكار والتقويم الجماعي.

إذا طبقنا هذه القاعدة على حادثة النهب التي رافقت حريق سوق مليلية، نلاحظ أن ردود أفعال المواطنين تراوحت بين التنديد من جهة والتشفي وتبرير السرقة من جهة أخرى. وبغض النظر عن حيثيات الحريق، أرى أن تبرير السرقة مؤشر مهم يستوجب بعض التأمل؛ أصبحنا نسمع الآن في الساحات العمومية وحتى عند انصراف المصلين إثر صلاة العيد أن السرقة هي جزاء سرقات أخرى مرتكبة، ونسمع كذلك أن سرقة البضائع أفضل من تركها تحترق،  وهذان الرأيان ترددا مرارا وجهارا.

عندما يميز بعض الناس بين سرقة مذمومة وأخرى محمودة، أو يتخذون الجريمة وسيلة لتصفية حسابات واقعية أو مفترضة، فمعناه أنهم لم يعودوا قادرين على حصر معنى السرقة، وفقدوا بذلك ملكة اكتشافها أينما وُجدت وكيفما وجدت. ومعناه بالتالي أن الجريمة اكتسبت حق المواطنة وأصبحت ردود الفعل التي تثيرها مترددة إن لم نقل فاترة. وبالنسبة للملاحظ، هذا مؤشر على ارتباك المرجعيات الأخلاقية وعلى اهتزاز نظام التضامن المؤسِّس للمجتمع. وبلغة أهل الاختصاص: هناك مرحلة انتقالية، وباللغة اليومية: هناك أزمة.

من نافلة القول إن الحدث-المؤشر الذي نحن بصدده  ليس هو الوحيد من نوعه، بل نلاحظ ومنذ عقدين أو ثلاثة عقود من الزمن الازدياد المضطرد للمؤشرات التي تدل على تآكل التضامن الاجتماعي سواء في المنطقة الشرقية أو في مناطق أخرى كثيرة. وهذه المؤشرات تدل على أن الحد المسموح به اجتماعيا للجريمة، أي الحد الذي لا يهدد النظام الاجتماعي من الأساس، هذا الحيز قد توسع كما يتوسع ثقب الأوزون، فما الذي حدث بالضبط ؟

لقد تسارعت منذ ثمانينيات القرن الماضي وتيرة انهيار التضامن الاجتماعي القائم منذ قرون، دون أن يظهر في الأفق نظام اجتماعي جديد قادر على تعويضه. ورأيي المتواضع أن مجتمعنا لا يعيش أزمة قيم، لأن القيم المؤسِّسة للمجتمعات هي قيم أزلية ذات صلة بإنسانية الإنسان وبتربته وتاريخه : فالصدق والأمانة والعدل والمساواة والتعاون وغير ذلك هي أسس كل مجتمع مستقر، ويبقى الخلاف بين بني البشر حول كيفية تحقيق هذه القيم على أرض الواقع هنا وهناك. إنما يكمن المشكل في إعادة تنظيم هذه القيم وفق نظام اجتماعي متجدد باستمرار. إذن فنفس القيم الإيجابية التي سادت في الماضي هي نفسها المفترض فيها أن تسود في نظام تضامني جديد، فالمشكل مشكل « تنظيم » و « تفعيل »، وهما وسيلتان عجز مجتمعنا عن تحقيقهما إلى حدود الآن.

لقد كان نظام التضامن التقليدي يقوم على انصهار الفرد في الجماعة، والحاجيات كانت تحددها التقاليد وبالتالي لم تكن للفرد مطالب خاصة ،والأسرة كانت مندمجة في الحي أو في الدوار تربطها روابط تضامن عضوية مع غيرها من الأسر، ليس فقط من أجل التعاون على المهام الجماعية، بل لتلبية حاجيات نفسية واجتماعية وعقدية بحيث لا يتخلى عن واجب التضامن إلا من كان جاحدا أو معتوها.

إبان استقلال المغرب اكتشفت بعض الدراسات أن أشكال التضامن التقليدية قد استثمرت المؤسسات الحديثة كالحزب والدولة والانتخابات وغيرها. إلا أن أولى علامات التغير الاجتماعي ستظهر على مستوى الأسرة: فرغم احتفاظها بشكلها الخارجي بدأت قيم جديدة تدفع في اتجاه التفرد داخل الأسر خصوصا في المدن الكبرى. لقد حاولت العائلة أن تتكيف قدر المستطاع مع الظروف الجديدة التي خلقها المستعمر وخصوصا منها نظام الشغل في المصانع و الضيعات، و بدأت المفاهيم القديمة تتراجع شيئا فشيئا، فشعر بعض الأفراد بصعوبة العيش تحت أنظار (مراقبة) أفراد الأسرة الآخرين. والبقية معروفة.

والآن، نتيجة الانهيار التدريجي لقيم التضامن التقليدي، انهار الفرد وانهارت الجماعة وتعممت أزمة الثقة: فالفرد لم يعد يشعر بالأمان وتيقن -أو كاد- أنه في حالة العجز لن يجد من يسعفه وجسّد بذلك القول الشعبي: »كيت اللي جات فيه ». لقد فقد الثقة في القيم النبيلة ولم يجد سبيلا إلى الاستفادة منها، وفقد الثقة في نفسه فاستصعب البناء واستسهل الهدم، وفقد الثقة في الغير الذي أصبح يراه عدوا متربصا به، يبادره بالشتم لأتفه الأسباب .

أما الأسرة، فبالكاد تتصارع من أجل البقاء محاولة توفير الحد الأدنى من العيش، ولا حيلة لها أمام الحاجيات المستجدة والواردة و المتزايدة لأفرادها. وحتى الأسر الميسورة عجزت عن تربية أبنائها فألقت الحبل على الغارب وخضعت لابتزاز المراهقين. وأمام انهيار علاقات الجوار انعزلت الأسرة وتنوعت مخاوفها وكثرت الأمراض النفسية والاجتماعية. لقد ولى ذلك الزمان الذي كانت تُترك فيه أبواب الجيران مفتوحة في وجه الصبيان، وعند الحاجة تقترض المرأة عود ثقاب أو كأس زيت من جاراتها دون خوف من الشماتة. أما الأحياء حاليا، فمعظم سكانها لا يتوفرون على الحد الأدنى من الثقافة المشتركة التي تسمح بتوظيف وتدبير الحراسة الليلية.

الجرح غائر… إلا أنه يمكن علاجه: هناك الكثير من الأسر والأفراد الذين يتفاعلون إيجابا مع محيطهم، و هناك العديد من المبادرات الخاصة والعمومية التي تحاول جاهدة  رأب الصدع رغم الصعوبات…أما آن الأوان لبناء تضامن اجتماعي جديد؟  تضامن يستوعب القيم الأصيلة ويحافظ على حقوق الأفراد والجماعات .       (يتبع)

ناجم مهلة

        

 

 

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

1 Comment

  1. ex etudiant
    06/09/2011 at 22:48

    متألق دائما أستاذنا الكريم

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *