Home»Débats»الملك و الشعب .. الرهان الرابح

الملك و الشعب .. الرهان الرابح

0
Shares
PinterestGoogle+



عبد الله السايح ،باحث في علم نفس الطفل من أحفير.المملكة المغربية.

 

 

بعد خطاب 9 مارس، صار المغاربة أكثر من أي وقت مضى يثقون في المستقبل. هو بداية الخطوات الشجاعة، و المستقبل المريح. إنه فاتحة أمل كبير على بلدنا و باقي الملكيات في العالم العربي(1) ، بل وحتى الجمهوريات. في هذه الورقة ، سنقف جميعا وقفة تأمل بإجلال و تأني، أمام المشهد الرائع الذي بدأت تفاصيله تنسج في تونس ومصر العظيمتين، والآن يمضي المغرب متناغما مع ألحان سداه، و سوف يستكمل المشهد روعته الخلابة و المذهلة ، بانبساطه على جميع ربوع الوطن العربي ، في الأسابيع المقبلة.

ـــ البداية:

 

أحسب أن التاريخ في هذه الأسابيع، قد توقف عن الكتابة مشدوها ، حتى يستوعب ما يجري ، وكلما نظر إلى الصفحة ليكتب شيئا ، طارت إلى أذنه هتافات الجماهير من كل مكان ، وقال : اليوم لا أكتب، سوف أسمع… و أسمع… بعدها سأكتب ، ليس في صفحة جديدة ولكن في سجل جديد…

1_  تونس ومصر و البداية:

 

والغريب أن هؤلاء الشباب الذين كانوا سببا في إيقاد المشعل ، كانوا آخر من يتصورأن يقوم بذلك في نظر جميع الأنظمة و حتى المثقفين والسياسيين. إنه شباب في غالبه ،كان ممن استهلكته أغاني الراي و الهيبهوب، و الأزياء الغربية و المسلسلات المكسيكية و التركية  التي كلها حب قذر و تهييج للجنس الحرام والتي تستغرق حياة كاملة و لا تنتهي و التي ترجموها لمختلف اللهجات المحلية حتى لا تستثني بيتا من الإفساد و التخريب ، وستار أكاديمي،

 

لو حللنا الأمور وقلبناها في كل اتجاه، لنعلم سر ما يحدث لعجزنا عن معرفة ذلك. على مر الأيام لم تخل أمتنا من صرخات الحق ، و من رجال ونساء بذلوا عمرهم وليس مجرد أسابيع ، في الجهاد والنضال من أجل الحرية ، و كثير منهم كان مصيره الإعدام و الذين عاشوا لاقوا كل أصناف العذاب و الذل والتشريد . دماء سفكت و أموال سرقت ، و أعراض انتهكت … و كان المبرر الوحيد لاقتراف تلك الجرائم هو المحافظة على أمن البلاد ووحدتها. تصرف هؤلاء الأبطال كأفراد وجمعيات و منظمات كان من أجل حياة سياسية و اقتصادية واجتماعية كريمة ينعم بها الجميع ، لكنهم لم ينجحوا في إحداث التغيير المنشود. كانوا وحدهم في ساحة المواجهة ، بينما كان المستضعفون يشاهدونهم من بعيد، ولا يجرؤون على تحريك ساكن ، و ربما وصفوهم بالتهور. قبل أيام قليلة من الثورة في تونس كان الكثير من الخاصة والعامة ، يصفون راشد الغنوشي و منصف المرزوقي بالانغلاق وانعدام روح الليونة و التحجر الفكري.. وكان الإخوان المسلمون وحركة كفاية قبل مدة قصيرة،إذا ما نظموا تظاهرة ضد التوريث والتزوير ، تجدهم لوحدهم في الشوارع و الأزقة في مواجهة قوات الأمن ، والمستضعفون من النوافذ ينظرون ، كأن الأمر لا يعنيهم. فما هي إلا أسابيع بل أيام ، كأنها يوم أو بعض يوم، والأمور تنقلب رأسا على عقب. الجميع يخرج في تونس ومصر، إلى الشارع بعيدا عن أي دفع حزبي أو نقابي ،ليس ليطالب بتحسين مستوى المعيشة أو التنديد بتزوير الانتخابات ، ولكن لتغيير النظام بذاته . هكذا دون كثير كلام..والغريب أن هؤلاء الشباب الذين كانوا سببا في إيقاد المشعل ، كانوا آخر من يتصورأن يقوم بذلك في نظر جميع الأنظمة و حتى المثقفين والسياسيين. إنه شباب في غالبه ،كان ممن استهلكته أغاني الراي و الهيبهوب، و الأزياء الغربية و المسلسلات المكسيكية و التركية  التي كلها حب قذر و تهييج للجنس الحرام والتي تستغرق حياة كاملة و لا تنتهي و التي ترجموها لمختلف اللهجات المحلية حتى لا تستثني بيتا من الإفساد و التخريب ، وستار أكاديمي، و تفاهات عادل إمام و أمثاله ،و أخبار النجوم الفنية، و المعارك الرياضية..و غيرها مما جادت به قريحة الأنظمة لتغفيل الناس و استبغالهم. و لكن هؤلاء الشباب و الشابات هم من بادر و كسر الحاجز الخرافي. هم من أحدث الدهشة.. هم من نفخ في الصور فانبعثت الأمة من قبر الضياع ؛هم من قال لا بصيغة أخرى جعلت النفسية العربية تتزحزح ..هم من أتى الأمور من آخرها بلا لف ولا دوران كما يقول المصريون. إنهم لا يعرفون التنظيرات  الفكرية ، والفلسفات التي لا تنتهي . عندما ضاقت صدورهم  با لغم ، إنفجرت ألسنتهم بكلمة واحدة: الشعب يريد إسقاط النظام.

 

لكن ، وبعين متمعنة فيما حدث في الماضي و في ماجاريات الحاضر بكل تفاصيله السياسية المحلية و الدولية وتفاصيله الاجتماعية و الثقافية ، هل بإمكاننا  إرجاع ماحدث إلى شباب الفايسبوك أوأحد أو شيء محدد بذاته؟ لا يمكن لأحد أن يقول نعم. و هنا يكمن سبب الدهشة التي اعتارت الجميع بمن فيهم هؤلاء الشباب الذين أبدعوا الخطوة الأولى .. المآلات كانت خارقة بحق لكل التصورات و بكل المقاييس.

في اعتقادي المتواضع ، أن أمر الله قد حل بهذه الأمة، ولا راد لأمره.. لقد أذن الله لهذه الأمة أن تدخل عصرا جديدا و عهدا جديدا و مرحلة تاريخية جديدة. زمن الحرية واللاإكراه قد حان. زمن الكلمة الحرة قد حان . زمن الأفكار قدحان ، وزمن القضبان و العضلات و البندقية الموجهة إلى المواطن الحر قد ولى.  إنه زمن يشبه ما تمخض عن صلح الحديبية ، وإن اختلفت المقدمات . زمن ، الحرية و الكرامة وكفى. لا نقول إنه زمن رغد العيش قد حل ، و زمن الرفاهية قد حل، و زمن التفوق الاقتصادي قد حل، إن لذلك مكونات ثقافية و اجتماعية أخرى بالإضافة إلى مخططات اقتصادية ينبغي أن تلتحق بركب الثورة السياسية ، بالإضافة إلى مخططات اقتصادية يقوم بها الأكفاء من أبناء الشعب.. و لعل هذه الثورة السياسية بما تخلقه من هزة نفسية نوعية و ثقة في الذات ، ستكون من أكبر المؤهلات لذلك .و لكن الأكيد الذي لا نشك فيه أن زمن التدبير الجماعي للاقتصاد و استغلال الثروة و تكافئ الفرص قد حل. دعونا نقول وبمسؤولية ، وليس بمجرد حماسة اللحظة، إن تاريخا ليس عربيا فقط بل إنسانيا ، جديدا قد انطلق. الثورات قديما أو حديثا كان يتزعمها السياسيون و النقابيون فتلتحق بها الشعوب ، أما اليوم فإن الشعوب هي التي بدأت و بادرت في غفلة من كل قراءة سياسية أو فكرية، أو حتى اجتماعية ونفسية. بدأت هذه الشعوب لتفعل و تتحدى المستحيلات . ولنا أن نتصور أية أفاق ستفتحها هذه الحركة الشعبية على المستوى العالمي بأسره . إنه زمن العدل يشرئب بعنقه ليطل على هذا العالم ؛ والغريب أن إطلالته قد بدأت من الوسط ، من أمة اعتقد الكثير أنها ماتت. ولكن هذا الاستغراب سرعان ما يزول ، عندما نستعيد التقرير الرباني الذي وصفها بالأمة الوسط. إنه قدر الله ، و قضاؤه يتنزل من أجل تغيير عظيم لهذه الأمة..من أجل العالم أجمع .. لتتحقق المعاني الحقة للأخوة الإنسانية .. للعدل .. للسلام الحقيقي لا سلام النفاق و الخداع .. فيا بشرى لمن سخره الله في هذه اللحظة و هذه النقلة التاريخية..

2_ ماذا يريد المغاربة:

 

لا أحد من هؤلاء الشباب الذين نظموا هذه المبادرة الاحتجاجية، و خرجوا للشوارع من أجل التغيير الجذري، يريد الفتنة لهذا البلد. لا أحد منهم يتبنى طرحا انفصاليا أو عنصريا حتى هؤلاء الذين يدافعون بحدة عن الهوية الأمازيغية. لا أحد منهم خرج ليشتم في الدين الإسلامي أو يتبرأ منه، حتى لو كان لا يعتقد فيه . و لا أحد ، أخيرا ،خرج من أجل الانقلاب على الملك و الملكية ، بل مرادهم تقويتها بتوجيهها الوجهة الصحيحة. ومن كان يدور في رأسه شيء عكس ذلك، فسوف يجد نفسه منبوذا ينعق لوحده على جذع يابس كالغراب.. و سيبصق في وجهه الشعب و التاريخ..

إن الذي يجري في المملكة المغربية هو نفسه الذي يجري في البحرين و الأردن و سوف يجري في قطر و سلطنة عمان و الإمارات و السعودية و غيرها من المملكات و الإمارات.. الناس لا يريدون والله إلا الخير للجميع ، للحاكم والمحكوم.

المواطن المغربي البسيط لا يحتاج إلى مزايدة في المواطنة و حب الوطن و حب الاستقرار و الأمن و العافية.. المواطن البسيط بالفطرة يحب دينه حتى لو جرفته تيارات الانحراف، و يحب وطنه و لو قهره الجوع و لطمه رجل المخزن على وجهه، و يحب ملكه لأنه يرى فيه ضمانا للوحدة الوطنية والترابية و الحضارية و لو غاضه منه تغاضيه عن المفسدين في مجال المال و السياسة.

 

يريد أن يرى لابنه نفس الحظوظ في المناصب الوظيفية التي تعطى لابن الوزير.. يريد أن يجد كفالة من الدولة للاستشفاء دون أن يضطر للتسول عند أبواب المساجد. . يريد ، إن ظلمه شخص أن يجد قاضيا نزيها ينصفه و يعيد إليه حقه ولو كان هذا الشخص أميرا أو جنرالا أو وزيرا..

 

يريد المواطن المغربي عيشا كريما. إن كان البلد غنيا يصله حظه من الغنى، وإن كان فقيرا لا حرج لديه أن يتقاسم مع الجميع مرارة الفقر . المهم ، أن يجد المساواة و يرى العدل و يستشعر أن مسؤوليه أمناء و رحماء وأوفياء ، ليس كما هو الوضع الآن ولا داعي لضرب الأمثلة. يريد المواطن المغربي  أن يتكلم بحرية فيحاسب الأشخاص الذين يرفعهم إلى كراسي المسؤولية و تكون له القدرة على تنحيتهم من كراسيهم إذا أخلفوا الوعود وكذبوا أو لم يقدروا.. يريد أن يرى خيرات بلاده تقسم بالعدل ، وليس لأحد الحق في الاستحواذ عليها و لوعلى بعض منها بغير وجه حق..يريد أن يدخل إلى مراكز الشرطة و هو مطمئن ، يجد في رجل الأمن الأمان و الاحترام والخدمة دون خوف أو ذل .. يريد أن يرى لابنه نفس الحظوظ في المناصب الوظيفية التي تعطى لابن الوزير.. يريد أن يجد كفالة من الدولة للاستشفاء دون أن يضطر للتسول عند أبواب المساجد. . يريد ، إن ظلمه شخص أن يجد قاضيا نزيها ينصفه و يعيد إليه حقه ولو كان هذا الشخص أميرا أو جنرالا أو وزيرا.. باختصار، يريد أن يعيش مواطنة كاملة غير منقوصة ولا مشوهة كما هو الواقع اليوم..

هل هذا مستحيل أم أنه مطلب ظالم؟ لماذا لا نعيش جميعا عيشة هنية لا ظلم فيها و لا هوان يسودها العدل و الرحمة ؟..

ألهذه الدرجة صارت كلمة الحق تهدد أمن البلاد العربية ووحدتها واستقرارها؟.. أي أمن هذا وأي استقرار لمن يسكن المقابر  كما هو الحال في مصر أو بيوت القصدير كما في المغرب؟ أي أمن وأي استقرار لمن تضطر زوجته أن تبيع عرضها حتى تتقوت الأسرة بكاملها ولا يموتون جوعا؟ في مدن مغربية كانت إبان الاحتلال الفرنسي تعد معقلا للشرفاء المجاهدين ، تحولت بعد زمن قصير إلى أوكار للزنى وبيع العرض بشكل مشاع لا يمكن تصديقه، حتى صار الناس الأعفاء يكتبون على أبوابهم، هذا بيت شريف ، حتى لا يطرقه طالب شهوة حرام..أي أمن وأي استقرار عندما يتحول بيع العرض سياسة ، تراهن عليها ، الطبقة المتنفذة الديوثة، من رجال السياسة و المال و الثقافة ، للزيادة في موارد الدولة، أو بالأحرى موارد جيوبهم..؟  .. ثم أي أمن وأي استقرار لمن رفع مظلمته للقاضي فوجد القاضي أظلم من خصمه، حتى صارت المحاكم عندنا عنوانا للظلم و أكل أموال الضعفاء؟

 

أمن أجل أمن البلد و استقراره نظل نعيش دوما سياسة تفريخ الأحزاب الورقية التي تفسد البلاد والعباد ؟..لماذا يراد لشعبنا أن يعيش إلى قيام الساعة مثل الماء الراكد الآسن  في البركة العفنة ، حتى يقال عنه إنه مستقر وآمن؟

لماذا لا يكون لنا ما لغيرنا في بلاد الغرب من حضور شريف و كريم و عزة نفس و مواطنة كاملة

 

أمن أجل أمن البلد و استقراره ينبغي أن توضع القوانين الجائرة للانتخابات، وبعدها لايكتفى بهذا ، بل تزور هذه الانتخابات تارة وتارة توجه أصوات الشعب الجائع بالمال الحرام حيث تشتهي أهواء أصحاب كروش الحرام كما يسميهم الناس؟.. أمن أجل أمن البلد و استقراره نظل نعيش دوما سياسة تفريخ الأحزاب الورقية التي تفسد البلاد والعباد ؟..لماذا يراد لشعبنا أن يعيش إلى قيام الساعة مثل الماء الراكد الآسن في البركة العفنة ، حتى يقال عنه إنه مستقر وآمن؟

لماذا لا يكون لنا ما لغيرنا في بلاد الغرب من حضور شريف و كريم و عزة نفس و مواطنة كاملة  و مشاركة متكافئة مضمونة بحق القانون في خدمة الوطن ، وعندها فقط يمكننا أن نتحدث فعلا عن أمن واستقرار حقيقيين ، أم أننا من طينة أخرى وهم بشر ونحن لسنا كذلك؟..

3 – شبح الماضي المرير لازال يلاحقنا:

كان البصري رحمه الله ، بتحريك من الحسن الثاني رحمه الله ،خبيرا ماهرا في صناعة الأحزاب الورقية ، التي رغم فسادها و إفسادها ، كان يعتقد النظام أنها صمام أمان ضد المد اليساري آنذاك قبل انهيار حائط برلين.

كان هم  الملك دوما هو استقرار البلد بمفهومه الخاص ، الذي يعني في شطر كبير منه استقرار العرش . هاجس الانقلابات كان يلاحقه دوما . و كل تحرك سياسي كان يفعله ، كان القصد من ورائه ، في الغالب ، خلق التوازات، و إضعاف القوى المرشحة لأن تتزعم قيادة المجتمع . في نفس الوقت  كان يتيح  هامشا من الحرية للتحرك ، لتلك القوى المعارضة، لإغرائها بالبقاء ، حتى يبدو الأمر كأن هناك مشاركة سياسية و ديموقراطية ، تقلل من الانتقادات الدولية، و تطفئ الاعتراضات الشعبية. هذا الهامش صار يتسع وقتا بعد وقت ، مع تغير العالم، وبروز الثورة الإعلامية،و تبدل الأجيال ، و اطمئنان الملك على كرسيه. لكنه ظل هامشا على كل حال، يدعم مواقع الفساد بدل أن يقضي عليها. من جهة أخرى أطلق يد الحاشية التي اختارها لنفسه ، من سياسيين و ضباط سامين و رجال أعمال ، فصاروا يتصرفون في المال العام بلا حسيب ولا رقيب ، حتى يورطهم فيكون وجودهم رهينا بوجوده، ودوام رفاهيتهم واستعلائهم رهينا بدوام ملكه ، وبذلك يضمن ولاءههم و إخلاصهم. لقد اتضحت له نجاعة هذه السياسة بعد المحاولتين المتتاليتين للانقلاب في بداية السبعينيات.

 

و شيء آخر مهم جدا، فجل الأحزاب ، التي تنادي بالديموقراطية ، لا ديموقراطية داخلها. المجموعات المتنفذة  هي نفسها التي تقودها جيلا بعد جيل، باسم التاريخ و النضال أو الزعامة الروحية، ترسم لأتباعها الدوائر التي يتحركون داخلها ،

 

فبدل أن يتجه إلى الشعب بإصلاحات كبيرة ، ويقرب إليه الفئات الوطنية المخلصة ، اختار هذه الطريق المظلمة حسب المثل القائل: كن ذئبا وإلا أكلتك الذئاب .في المقابل كانت المعارضة تقبل بالقليل ، تحت شعار :شيء خير من لا شيء. و مع مرور الأيام صارت أطراف واسعة منها تتورط في فساد الانتخابات، و فساد المشهد السياسي ، ليس لأنها قبلت بالزور الواقع فيها على مستوى القوانين و الممارسة فحسب،بل أخطر من ذلك ، لأنها قبلت ضمن صفوفها عددا كبيرا من الانتهازيين و كروش الحرام الذين يتقنون الخطابات النضالية في انتقادهم للواقع السياسي و انتقادهم لإدريس البصري ، لكنهم عمليا يستعملون كل الأساليب الدنيئة من أجل ربح المقاعد البلدية و النيابية ، ثم إنهم لم يتورعوا كما كان المتوقع منهم ، عن سرقة المال العام و استغلال المناصب لأغراض إما شخصية أو حزبية. كان شعارهم على الدوام : الغاية تبرر الوسيلة. فكانت النتيجة أن فسدت الغاية كما فسدت الوسيلة. و شيء آخر مهم جدا، فجل الأحزاب ، التي تنادي بالديموقراطية ، لا ديموقراطية داخلها. المجموعات المتنفذة هي نفسها التي تقودها جيلا بعد جيل، باسم التاريخ و النضال أو الزعامة الروحية، ترسم لأتباعها الدوائر التي يتحركون داخلها ، فلا يتجاوزونها ، فتوهمهم أن تنظيماتهم حرة و شفافة . و كان النظام يستهوي هذا المشهد الكاريكاتوري، فلم يحدث مرة أن وجه إليهم البصري تهما بالفساد و التورط في الرشوة و استغلال النفوذ والمال العام ، الذي تلبس بها كثير منهم ، لأن النظام كان يحب لهم التواجد ، والاستمرار في لعب مسرحية الديموقراطية. وهكذا صار المغاربة يئسين من كل عمل سياسي ، ومن كل عملية انتخاب أو حتى تغيير للدستور، لأنهم يعلمون أن كل الحراكات أو الضجات السياسية التي تقع ، ما هي إلا جعجعة بلا طحين، و ساد نوع من الإحباط لدى العامة والخاصة بشكل خطير.

 

 

و عندما جاء محمد السادس، انتعشت النفوس، و حل الأمل على قلوب الناس البريئة،هؤلاء الذين يخلصون للملك، و يحبونه ببراءة بل وبسذاجة  الطفل. لأنهم شعب طيب ، كباقي الشعوب المسلمة، لا تحب الأحقاد ، و تبتغي الحياة السهلة الآمنة ، وإن تقرب إليها حاكمها شبرا تقربت إليه باعا، وإن تقرب إليها ذراعا تقربت إليه باعا ، و إن أتاها يمشي أتته هرولة،

 

و عندما جاء محمد السادس، انتعشت النفوس، و حل الأمل على قلوب الناس البريئة،هؤلاء الذين يخلصون للملك، و يحبونه ببراءة بل وبسذاجة الطفل. لأنهم شعب طيب ، كباقي الشعوب المسلمة، لا تحب الأحقاد ، و تبتغي الحياة السهلة الآمنة ، وإن تقرب إليها حاكمها شبرا تقربت إليه باعا، وإن تقرب إليها ذراعا تقربت إليه باعا ، و إن أتاها يمشي أتته هرولة، وإن أعطاها جزءا من قلبه أعطته قلبها وروحها ..و كان أملهم يتزايد بفعل بعض الإجراءات التي قام بها كطرده لادريس البصري، و تساهله مع المعارضة ،الرسمية و المستقلة. بحيث صار يبدو في صفة ذلك الملك الشاب الذي يتواضع لشعبه. لكن مع مرور الأيام اتضح أن ليس هناك شيء جديد يتبلور في الأفق. جوهر القوانين والسياسات بقي كما كان. فبدل أن يواجه المشكلة بجرأة ، و يتخذ حلولا على مستوى الدستور و القوانين ، و ينبثق على يديه مغرب جديد ، يكون فيه هو أول رابح ، صار يتصرف كأنه الحكومة، بينما الحكومة تبدو مترهلة، عاجزة ، لأن القوانين جعلت من بنيتها فسيفساء لا تنسجم ، و لأن الاختيار للأعضاء لا يتم حسب الكفاءات داخل الأحزاب ولكن حسب الولاءات ومواقع النفوذ داخلها،بالإضافة إلى غياب الديموقراطية داخل غالب هذه الأحزاب؛هذا الوضع غيري الصحي الذي أراد من خلاله الملك أن يبدو الطرف الأكثر جدية و حماسة في خدمة الشعب و الوطن ، لا يمكنه أن يؤدي إلا إلى انتكاسة متزايدة للعمل السياسي في المغرب، بالإضافة إلى إهدار المال العام ، إذ صار المواطن يتساءل : ما الجدوى من برلمان بغرفتين ، و حقائب وزارية، وأحزاب و مؤسسات أخرى ، لا دور لها إلا بلع الملايير من الدراهم بدون فائدة ؟ هذا دون الحديث عن سرقة المال العام إما بطرق قانونية عبر الامتيازات الممنوحة و الرواتب الخرافية لبعض المسئولين ،أو بطرق غير قانونية و في واضحة النهار.كما لجأ ،أي الملك،إلى الخيار الذي كان قد اختاره والده رحمه الله، و هو الاحتماء وراء سياسة خلق التوازنات السياسية ، و لو بطرق غير مشرفة و بعيدة عن كل نزاهة و ديموقراطية، هذه السياسة التي أفضت إلى انتكاسة العمل السياسي برمته، و تمييع المشهد السياسي. و تجلى هذا بوضوح في خروج الوحش المرعب،كأنه يأجوج و مأجوج، كأنما انبعث من قبر إدريس البصري ، ليهلك الحرث و النسل، ألا و هو حزب الأصالة والمعاصرة.

3- الملكية و الإمارة:

 

 

من الناحية النظرية ، فإن النظام الملكي لا يصلح في كل الأحوال. فالملك إما أن يسود ويحكم أو يسود ولا يحكم. ففي الحالة الثانية لا فائدة من وجوده ، بما أنه لايقوم بشيء. وفي الحالة الأولى ، فإن كان ملكا ظالما فلا يقبل وجوده ألبتة، و إن كان عادلا مستقيما فمن يضمن لشعبه أن يكون وارث عرشه يشبهه استقامة وعدلا؟ و من يضمن لشعبه أن استقامته و عدله سيستمران معه في كل الأحوال و الظروف، لا سيما حين تقلبها، و هو على كل حال بشر له ضعفه ، و معرض للأخطاء ؟ و من يضمن ألا يقع تحت تأثير الوشاة و المغرضين في الأوقات الحرجة ، فيتصرف بظلم شديد ،حيث تخوله السلطة ذلك، وهو يرى أنه يحسن التصرف؟

لكن من الناحية الواقعية، إن كانت الحالة الأولى مرفوضة و غير مقبولة و لا معقولة، والواقع فيها أدهى وأمر من النظرية، لا سيما في زماننا الحالي، فإن الحالة الثانية حيث يكون فيها الملك في وضع يسود فيه ولا يحكم ، تبقى مقبولة بل ومطلوبة في كثير من الأحيان . فدور الملك أو السلطان أو الأمير هنا يبقى رمزيا ، لكن ذا أهمية كبيرة  في تأليف القلوب و جمعها تحت راية واحدة و هوية واحدة.

 

 

و نحن إذ نتمسك بهذا الحل السلس و المشرف للجميع،يحدونا أمل كبير أن تكون استجابة لينة و مرنة وسهلة لمطالب الشعوب في المملكات والإمارات في البلدان العربية من  طرف ملوك و أمراء هذه الدول؛ و ذلك لما اتسموا به  من انفتاح نسبي مقارنة مع الرؤساء العرب لأنهم يفكرون لأنفسهم و لخلفهم ولبقاء دولة عروشهم، فلهذا هم دبلماسيون وواقعيون أكثر من غيرهم ، وهو نفس السبب الذي سيجعلهم يقومون بالتغيير المناسب قبل فوات الأوان.

لم يعد هناك خيار أمام هؤلاء إلا أن ينتقلوا من الحكم المستبد المطلق على الأجساد إلى الحكم المستبد المطلق على القلوب، وإلا خسروا القلوب و الأجساد معا .  ليس هناك عاقل يرفض هذا الحل . عليهم  أن يقبلوا بنظام ملكي برلماني يكون فيه الملك رمزا ذا سلطة معنوية، تجمع قلوب أفراد الأمة على اختلاف تصوراتهم و مناهجهم و عقائدهم  في وطن موحد ترابيا و حضاريا. لكن شؤون البلاد من سياسة  و اقتصاد و غيرهما تكون كليا في يد حكومة منتخبة ، تنتخب من الشعب بنزاهة ، و تسير الأمور بحرية  لكن تحت رقابة  الشعب ممثلا في برلمانه و نقاباته و جمعياته و إعلامه الحر و أفراده ، و فوق كل ذلك قضاء نزيه و مستقل يتساوى    أمامه الجميع. و تكون للأقلية التي لا تحكم حقوقها الكاملة ، في العمل السياسي ، و المعارضة ، يضمنها لها دستور واضح و قضاء نزيه و مستقل كل الاستقلالية.

 

لا مجال للإبقاء على الخارطة السياسية الفسيفسائية ، التي تتسم بها الحكومات المتعاقبة ،بفعل القوانين المشوهة التي تحكم مسار الانتخابات،و التي أصبحت  بسببها تلك الأحزاب مترهلة و ضعيفة ، مما يجعل المواطن يراهن دائما على تدخل الملك لإنقاذ الموقف.

 

 

لا مجال للإبقاء على الخارطة السياسية الفسيفسائية ، التي تتسم بها الحكومات المتعاقبة ،بفعل القوانين المشوهة التي تحكم مسار الانتخابات،و التي أصبحت  بسببها تلك الأحزاب مترهلة و ضعيفة ، مما يجعل المواطن يراهن دائما على تدخل الملك لإنقاذ الموقف. تلك القوانين، للأسف، التي تشارك في صياغتها ،أحيانا، حتى تلك الأحزاب المعارضة المعروفة ، لدوافع إقصائية.  ينبغي أن تتعدد الرؤوس و تتساوى في نفوذها وسلطتها حتى تسهل المراقبة و المحاسبة ،  ولا يطغى رأس على رأس . وتمتعها بنفس الحقوق السياسية،مما يجعل بعضها ندا للآخر،و تنافسها على الزعامة و نيل رضى المواطنين ،من خلال ما تقدمه من مشاريع و برامج، يجعل المصالح بينها متعارضة ، مما يؤدي إلى شدة الرقابة لبعضها البعض ، فيمنع التلاعب بالمصالح العامة و استغلال النفوذ و سرقة المال العام إلى حد كبير..و أما رئيس الحكومة أو الوزير الأول ، فإن مركزه في القيادة و اتخاذ القرار ، يخوله له الدستور والقانون العادلان و الواضحان، حتى تتمكن البلاد من السير، ولكن تحت سقف محدد، تجعله تحت رقابة فعلية لأسياد و أنداد لا مجرد عبيد متفرجين ، لا حول لهم ولا قوة، أو منافقين متملقين، تحركهم بطونهم و شهواتهم، لا شهامة فيهم ولا رجولة..

إن هذا لم يعد حلما أو تنظيرا، بل هو واقع حتمي لا مفر منه.  يمكن لهؤلاء، الملوك و الأمراء ، والسلاطين، أن يخرجوا من هذه المرحلة  الحاسمة من تاريخنا وقد أصبحوا أكبر رابح، وإلا فإن باب الاحتمالات سيبقى مفتوحا بكل ما يمكن أن يتصوره الخيال من نتائج مفجعة، غير أن الاحتمال الوحيد الذي يستحيل وروده، هو أن يمكث الوضع كما هو عليه أو يتغير بحلول ترقيعية لامتصاص رجة الزلزال العنيفة . ينبغي أن يفهم ملوكنا وأمراؤنا و سلاطيننا أن حدثا عظيما قد وقع. ليس في ساحات المظاهرات و الثورات، بل على مستوى أخطر بكثير. إنه زلزال على المستوى النفسي ، جعل العقل في الأمة العربية يتزحزح من منطقة إلى أخرى ، ليعيد طرح التساؤلات المنسية و مناقشة البديهيات المترسخة ، و يطرح الحلول التي تجعله يعانق السماء ،لا حلول أنصاف الرجال و العاجزين الضعفاء؛ ويعافى  ، في نفس الوقت،من  مرضين مزمنين كانا قد أصاباه في مفاصله كلها فتسببا له في شلل عام و هما: الخوف والقنوط.

نطمع أن يكون ملك المغرب وأمير قطر و ملك الأردن وملك البحرين و سلطان

عمان و أمير الكويت ،سباقين إلى هذا الفضل وأسوة حسنة لغيرهم من الملوك و الأمراء، فلا يكلفوا شعوبهم محنة المخاض العسير،ويقصروا الطريق على أنفسهم وعلى مواطنيهم ليستريح الجميع، تلك الطريق التي مهما طالت فلن تؤدي إلا إلى تحرر الشعوب ، فحبذا لو اختزلت فلا يكون الثمن

غاليا . فما أقبح أن تراق الدماء من أجل كرسي من خشب. هؤلاء مما عرفوا عليه من انفتاح أكثر من غيرهم، نطمع أن يغلبوا منطق الحكمة في هذه المرحلة و منطق المصلحة أيضا ، فإن من مصلحتهم المادية و المعنوية أن يقدموا بكل شجاعة أدبية فيعلنوها واضحة صريحة بكل فخر و اعتزاز و ثقة في الذات : إننا سنغير كما يريد شعبنا الحبيب ،وكما يفرض العقل السليم، و كما تأمر به العدالة والحرية اللتان يمثلان شعار الإسلام و مطلب كل بني الإنسان، ، فنجعلها ملكية برلمانية الآن.

أتصور ، في يقين تام ، حجم التقدير الذي سيناله هؤلاء في قلوب العامة والخاصة. إن شعوبنا قد رسخ فيها الدين قيم التسامح و المحبة. إنها لأول مرة ستشعر بحب صادق تجاه حاكمها . حب المواطن العاقل الذي يحب عن اقتناع لا حب

المغفل  الساذج المتقلب المزاج  الذي لا ينفع حبه كما لا يضر بغضه لأنه كالطفل يضحكه لا شيء و يبكيه لا شيء؛ إنه حب العطاء وحب الولاء. هذا هو معنى السيادة الحقيقية، ومعنى الحكم المستبد المطلق على القلوب.

 

إن ملك المغرب لذهنيته النشيطة و المتفتحة ، و لشبابه أيضا ، فإن عامل السن يلعب دورا مهما في قبول و رفض المتغيرات، و لحبه خدمة بلده ، وهذا لا نشك فيه ألبتة، لهو مؤهل للعب دور تاريخي ليس على مستوى المغرب فقط بل على مستوى الوطن العربي قاطبة، بقبوله بالمستجدات و انسجامه معها

 

إن ملك المغرب ، و أمير قطر بالخصوص ، لذهنيتهما اللينة و الذكية، مدعوان قبل غيرهما أن يستوعبا بسرعة ، خطورة المرحلة ، وأيضا ، أن ينظرا إليها كفرصة نادرة ، لتزعم تغيير جذري يقود إلى انفتاق عهد جديد بمعنى الكلمة. إن علو همة الشعوب و دخولها مرحلة العافية النفسية ، و تحفزها إلى التحليق بعيدا في سماء القوة و البناء و إثبات الذات ، لهو الفرصة النادرة حقا لهما، و لغيرهما من حكامنا، ليتخذوا القرارات العظمى ، دون أن يخشوا عزوف النفوس عن تحمل المسؤوليات الجسام، و فشلها في نصف الطريق .

إن ملك المغرب لذهنيته النشيطة و المتفتحة ، و لشبابه أيضا ، فإن عامل السن يلعب دورا مهما في قبول و رفض المتغيرات، و لحبه خدمة بلده ، وهذا لا نشك فيه ألبتة، لهو مؤهل للعب دور تاريخي ليس على مستوى المغرب فقط بل على مستوى الوطن العربي قاطبة، بقبوله بالمستجدات و انسجامه معها . فليس هناك أفضل تكريم له و لعقبه من أن يختار الملكية البرلمانية التي تنزهه عن كل متابعة ومساءلة، و تجعله و عقبه ، يتملكون القلوب  المحبة حقيقة ، لا تزلفا و تملقا و نفاقا، أو غفلة و بلادة.

إن الخطاب الملكي السامي الأخير(خطاب 9 مارس) كان استباقيا و جريئا بحق.

يؤكد فكرة أن الملكية في المغرب ملكية واعية ذات عين مفتوحة و بصيرة. تعرف أين تكمن مصلحة العرش . هذا الوعي و هذا التبصر هما اللذان سيمنحانها القوة  الكافية لإضافة الجرعات اللازمة  لمضمون الإصلاح المعلن عنه ، من ناحية التصريح و التنصيص على ذلك، ومن ناحية التفعيل و التجسيد الواقعي أيضا.

وعلى عكس ما يظنه المتطرفون، فإن جل المغاربة يحبون ملكهم ، و إن كانوا يطالبون بالتغيير الشامل ، فهم لا يرضون لملكهم غير المكانة العظيمة اللائقة. و هم حريصون على بقائه بصفة أمير المؤمنين ، لسبب بسيط ،لأنهم مؤمنون و هو أميرهم. و المغرب ليس بلد الزنادقة و المتاجرة بالعرض و الرقص الفكري على أنغام فرنسا ( سيدة الإكراه الإديولوجي العلماني في العالم بأسره ، ففي فرنسا يعتبرون كل مخالف متطرفا ينبغي إقصاؤه (2)) و هم لا يحبون التطرف الديني و لا التطرف العلماني . لن يرحبوا أبدا لا بولاية الفقيه ( وهي دستور العدل و الإحسان و لو بمسميات أخرى) و لا بولاية الزنديق (وهي إديولوجية الرفاق القاعديين ، وأذناب الخواجة المعقدين نفسيا، الذين يتكلمون و يأكلون و يمشون و يضحكون بالفرنسية) . وعند المغاربة فإن تخلي الملك عن السلطة تشريعا و تنفيذا و قضاء، و بقائه كرمز يوحد شعثهم و يصون بيضتهم ،سوف ينزه مقامه و يحفظ مكانه  و يجعله أكثر قربا من قلوبهم بل سيجعله يسكن أعماق قلوبهم بشكل كامل.

و رب قائل : ماذا بوسعه أن يحفظ و يصون إذا ما انتزعت منه تلك الصلاحيات ؟ والجواب أن التجربة في أوروبا الغربية أكدت لنا هذا ، و أن الرمزية في الأشياء لها مفعولها السحري ، ثم إن السلطة المستبدة ، كما تأكد لنا الآن في السنين الأخيرة، لم تكن أبدا صماما للأمان ، بل زادت في الاحتقانات الداخلية التي توشك أن تنفجر في أي لحظة فتأتي ،لا قدر الله، على الأخضر و اليابس. و نحن المغاربة ، ليس أحد يلمس هذا الواقع أفضل منا ، إلا ذاك الذي يريد أن يدفن رأسه في التراب.

و رب قائل ، إننا لسنا بحاجة لنستبدل بسلطة ملك واحد سلطة ملوك متعددين. فمعلوم ، أن جل الناس الذين ينادون بالتغيير الآن ، لهم عقلية الملوك، و يتصرفون في أحزابهم و منظماتهم كالملوك، و منهم من يخالف هذه القاعدة داخل تنظيمه، أي أنه ديموقراطي حقا داخل تنظيمه، لكنه شرس و إقصائي متطرف مع المخالفين لمذهبه و إديلوجيته؛ لا يعطيهم أية حقوق، و لا يجد أدنى حرج في الكذب عليهم و تشويه سمعتهم بالباطل. أقول : إن كل هذا موجود للأسف . فثقافة الحرية و الاستقامة الفكرية و السياسية ، لن تنشأ و تكبر و تسيطر بين عشية و ضحاها؛ ولكنها ستولد رغما عن تعنت المتعنتين. إن جو الحرية و العدل وإطلاق المنافسة النزيهة ، و تكافئ الفرص ، سيجعل هؤلاء ، مرغمين على الاستقامة ، إلى حد كبير ، إن لم يكن بدافع الأخلاق الحسنة و خوف الله ، فبدافع القانون و المنافسة و الرقابة المتبادلة،و رقابة الشعب. بل سيكتشف الشعب لأول مرة في التاريخ المعاصر ، قيادات نزيهة ، تخاف الله و تحترم القانون ، و تعدل ، ولو على حساب نفسها و أحزابها، حتى مع أعدائها و خصومها في السياسة و العقيدة .

 

إن أي فرد من الشعب ،مهما كان متواضعا وبسيطا، إذا ما أعطيت له السلطة في جو الاستبداد، وغياب الرقابة والمنافسة الندية، وفي ظل دستور و قانون غير عادلين بما فيه الكفاية و الحصانة ضد الاستبداد واستغلال النفوذ و تقييد الحريات، سيكون حاكما مستبدا ظالما تحوطه حواشي الظلم والظلمات من أصحاب المصالح و النزوات

 

إن المناخ السياسي المنغلق الذي نعيشه هو المتسبب الرئيس ، في استمرار تسلط العقليات الاستبدادية الإقصائية ، و لا يمكن التخلص منها إلا في مناخ الحرية و العدل و تكافؤ الفرص ، ….. و التحرر من قبضة بطانة السوء ، والمستفيدين من الوضع غير الصافي.

إن أي فرد من الشعب ،مهما كان متواضعا وبسيطا، إذا ما أعطيت له السلطة في جو الاستبداد، وغياب الرقابة والمنافسة الندية، وفي ظل دستور و قانون غير عادلين بما فيه الكفاية و الحصانة ضد الاستبداد واستغلال النفوذ و تقييد الحريات، سيكون حاكما مستبدا ظالما تحوطه حواشي الظلم والظلمات من أصحاب المصالح و النزوات .

ولهذا فرياح التغيير التي تهب الآن على الوطن العربي، و التي سوف لن تتوقف لأنها انطلقت من أعماق نفوس ولدت من جديد تماما،هذه الرياح جاءت لتقضي على هذه الآفات السياسية، فلا استبداد لا داخل الأحزاب و لا خارجها، بل لا استبداد حتى داخل أنفس الأفراد، هذه الرياح أتت بثقافة جديدة ، ثقافة الانفتاح و القبول بالآخر، و العدل و الرحمة و الديموقراطية الحقيقية أو الشورى الحقيقية، و المواطنة الكاملة لكل أفراد الشعب ، على اختلاف أفكارهم و اعتقاداتهم و مذاهبهم السياسية و الفكرية.

و لقائل أن يقول ، إن المناداة بهذه الحريات سيفتح الباب على المهالك : تقسيم للبلاد، و انتشار للعنصرية، و ظهور للفئات الضاربة لكل القيم عبر الحائط ، كالملحدين و الشواذ جنسيا وغيرهم ..و الجواب على هذا أن استمرار الوضع كما هو عليه الآن هو المؤدي إلى كل ذلك. و المتتبع للأحداث و الوقائع سيجد أنه فعلا ، صارت تلك المظاهر تطفو على السطح بل وتفرض نفسها عاما بعد عام، في ظل الوضع القائم. لأن وضعا مترهلا سياسيا ، يراهن على التوازنات بأي ثمن،و يحركه أصحاب المصالح الشخصية، الذين يفسدون كثيرا ويصلحون قليلا، تكاد تنتفي عندهم الهوية كما انتفى عندهم الضمير، فهويتهم حيث توجد مصلحتهم. إن وضعا  يضيق فيه على أهل الحق و الداعين إلى الخير و الناس الشرفاء أصحاب الضمير الحي من مختلف الإديولوجيات، و يسود فيه الظلم و المحسوبية و الرشوة و التزوير ، و يطلق العنان للإعلام الفارغ الذي يملأ الأجواء صخبا بالبرامج المنحلة التي كأنها أعدت لسكان باريس المترفين ، لا لسكان المغرب الذين في أغلبهم يكدحون بل ويقاتلون من أجل الخبز و البطاطا الحافية؛ إن وضعا مثل هذا هو الذي يجعل النفوس اليائسة تتحول إلى نفوس منحرفة ، و مع مرور الأيام ، يتحول هذا الانحراف إلى عقيدة و مبادئ و فلسفة، كأنها تبحث عن شيء جديد يميزها ، فتتحدى به الواقع الذي لم ينصفها.

 

لكي يزهق الباطل يكفي أن يجيء الحق ؛ و لكن هذه المرة ينبغي لأهل الحق أن يدفعوا الثمن من راحتهم أكثر من أي وقت مضى. ينبغي للكلمة الحقة و الموعظة الحسنة و الأفكار البناءة أن تخرج من دوائرها الضيقة، و تغشى الأسواق ،و تسير بين الشوارع و الدروب، و تدخل المقاهي و الحانات ،و تتجول في الشواطئ

 

إن جو الحرية و العدل سيجعل الكثير ممن حاد عن السبيل السوي ، يسترجع رشده، و ينقلب إلى مواطن بناء ،  و الذين لا يعودون بسبب إصرارهم على الباطل ، ستهزمهم الأفكار الصحيحة التي ستتمكن من استرجاع كامل قوتها و عافيتها في ظل الحرية و الكرامة و تكافئ الفرص. فلا يتصور أن يهزم باطل حقا إذا ما تمتعا بنفس شروط الوجود و التنافس. لكي يزهق الباطل يكفي أن يجيء الحق ؛ و لكن هذه المرة ينبغي لأهل الحق أن يدفعوا الثمن من راحتهم أكثر من أي وقت مضى. ينبغي للكلمة الحقة و الموعظة الحسنة و الأفكار البناءة أن تخرج من دوائرها الضيقة، و تغشى الأسواق ،و تسير بين الشوارع و الدروب، و تدخل المقاهي و الحانات ،و تتجول في الشواطئ..

كل ذلك يتم في ظل مناخ آمن ، تسود فيه الأفكار لا العضلات ، يتساوى فيه الجميع أمام قانون عادل ، وبين يدي قضاء غاية في النزاهة.

ثم إن هناك عاملين لا ينبغي أن ننساهما ، لهما الدور الحاسم في هذه القضية، وهما الانتماء الحضاري للبلد، و وجود قيادة رمزية توحد الجغرافيا و الهوية و المتمثلة في شخص الملك أمير المؤمنين. أما العامل الخارجي و الذي نقر أنه ذو دور خطير ، في دعم الانحرافات و التمزقات، ليضمن الولاء و التبعية، فلا يمكنه الصمود أمام إصرار الشعب على العيش بكرامة و تحرر حقيقي. وسيضطره الواقع الجديد، أن يتعاطى معه بإيجابية ، لأنه سيكتشف أن مصلحته تكمن في ذلك.

نحن أمام مغرب لا مكان فيه للإقصاء و التطرف، لا مكان فيه لأحادية الفكر و الإديولوجيا ، لا مكان فيه للترهيب الفكري أو الجسدي .. الكل يعبر عن رأيه بأمان، و يتنافس فيه بشرف و احترام للمخالف . ( كلكم لآدم و آدم من تراب)، ( لا إكراه في الدين)، (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا وقبائل  لتعارفوا). 

..و إن أمير قطر ، البلد الذي يأوي إليه العلماء و الدعاة الصالحين المخلصين ، الذين طردهم حكام بلدانهم المتجبرون ، و البلد الذي انفتقت من ربوعه المزهرة ، قناة الجزيرة. و عندما تذكر الجزيرة فهي لا تحتاج إلى وصف زائد يعرفها و يبين قدرها. نقول هذا ونحن ننكر عليها موقفها غير المبرر  من قضية الصحراء المغربية، كما ننكر عليها بعض المشاهد التي لا ترتقى إلى الخلق والذوق السليمين ، ننكر عليها إنكار المحب للحبيب ، و في نفس الوقت نشكرها في انتقادها لوضعنا بل هي لم تعمل سوى على تعريته على حقيقته ، بل إنها لم تعر إلا الجزء القليل منه ، ورحم الله من أهدى إلينا عيوبنا، كما نسجل بكل اعتراف للجميل، أن الجزيرة بحق، سجلت ولادتها ولادة زمن عربي جديد . أقول ، إن أمير قطر ، مؤمل فيه المبادرة بهذا الفضل ، فينضاف إلى حسناته ، ويسجله له التاريخ بحبر من مسك ، يفوح عطره قبل أن يلمس الكتاب. قطر،هذه البلاد التي تحوي كل هذا الخير، لكن تبقى حبيسة النمط القديم في التسيير و الحكم ، رهينة لسوء المنقلب . فإما أن تعظم العظمة التي تستحقها و نرجوها لها، و إما أن تتقزم و تصغر أقل من جغرافيتها.

4- العقول الذكية و العقول المتبلدة:

أغلب الناس قد وعوا بأن الأمور قد تغيرت و أن اليوم لا يمكن أين يكون مثل الأمس، و أن تاريخا جديدا قد انطلق.. لكن ، للأسف ،كثيرا من  حكامنا و حواشيهم وكثيرا من سياسيينا .. لا يزالون يعتبرون أن الأمر لا يعدو أن يكون سحابة صيف عابرة ، و المهم التصرف بعقلانية و حكمة ريثما تمر، و تعود الأمور إلى مجراها السابق. و المقصود بالحكمة و العقلانية هنا الحلول الترقيعية و الكذب و النفاق .. هكذا كان يفكر بنعلي وسقط، و من المؤكد أنه لحد الآن لا يستطيع أن يستوعب ما حدث، كأنه حلم( إن كان توفي نسأل الله له الرحمة) . و لما بدأ الشعب في التحرك في مصر ظل أبو الغيط ، سادن النظام ، يردد أن مصر ليست تونس..إلى آخر يوم ، و سقط الفرعون . ويأتي الدور على ليبيا و نفس الأسطوانة تدور : ليبيا ليست تونس و مصر.. و الأمر نفسه يحدث في اليمن..وأعتقد كما يعتقد كثيرون، أن الأسطوانة نفسها ستظل تدور متنقلة من بلد إلى بلد ، مع الفارق أن الأنظمة والمتحدثين باسمها سيضطرون إلى كتابة العبارة على الورق و يقرؤونها لأن لائحة البلدان التي ستترادف بعد كلمة (ليست ) ستطول . ومهما بلغ الماء إلى ركبهم سيظلون يرددون : نحن مختلفين عنهم، فنحن لنا أمجاد ولنا تاريخ و لنا إنجازات و شعبنا يحبنا.. و يرددون في أنفسهم : سنصمد و سنتنفس تحت الماء.. و في هذه المرحلة الحساسة، تلعب بطانة السوء دورها القذر. فبدل أن تخلص في النصيحة وتعري الحقيقة أمام الحاكم ، تزيده غرورا وكبرا و جهلا بالمآلات المتوقعة ، فلا يزداد إلا تشبثا بالسلطة و الجاه و المال ، و في آخر لحظة تتركه و تعلن التوبة، و تستدل على صدق توبتها بالانقلاب عليه فتنهش لحمه و جسده و مروءته أدبيا و حتى ماديا ،بينما كانت بالأمس القريب، تتبرك بأطرافه تقبلها بجنون .

إن العقول الذكية فهمت بسرعة أن الوقت غير الوقت والزمن غير الزمن و النفوس غير النفوس . تاقت أرواحها للمعالي ولم تعد ترضى بأحلام العصافير.. لم تعد ترضى إلا بما يرضى به الرجال و الجبال، من العلو و تذليل المحال..لم يعد يجدي معها الحلول الترقيعية و الإصلاحات التنويمية ، التي لا تزيد البلد إلا تبذيرا لأمواله و ضياعا لوقته و ارتدادا على أدباره..

أما العقول الغبية ، ذات النية الحسنة، فهي تستكين إلى الماضي ، و تقبع وراء الأحلام الوردية التي لا يتبعها عمل و لا مخاطرة،وتتمنى التغيير وهي نائمة ، ثم تستيقظ وقد تغيرت الأوضاع و فتحت أبواب الجنان.. و الحمد لله الذي كفى المومنين القتال..إنها عقول لا تثق في نفسها و لا في خالقها كما يجب.. تتوقع الأسوأ في كل تغيير يمكنه أن يحدث في حياتها. ترى في بقاء الزعماء الذين يمسكون بزمام الأمور بقاء كل خير وفي فقدانهم فقدان كل خير.. تظل ترجو أن يحصل الصلاح على أيديهم ، حتى لو مرت العقود بل الدهور وهم يفسدون أكثر مما يصلحون.

العقول الغبية الساذجة الطيبة، لا ترغب في أية مقارنة تنهض من همتها ، و تفيقها من سكرتها. الناس في الغرب يستقيل مسئولوهم لمجرد أخطاء قد ارتكبها في كثير من الأحيان غيرهم . ليس لقوة الضمير فيهم ،و إن كان ضميرهم أفضل بكثير مما عند مسئولينا، ولكن لقوة الرقابة فيما بينهم، فشعوبهم صار لديها ، من زمن بعيد، إحساس مرهف ضد استغلال النفوذ و التلاعب بمصالح البلاد ، و التفريط في المسؤولية. و لهذا فكل الأحزاب هناك تخاف من ردة الشعب ضدها فتخسر مواقعها، و لهذا تبادر في عجلة إلى تدارك الموقف ، قبل أن تقع الواقعة. أما السذج عندنا و المغفلون فهم أكثر الناس بحثا للحكام الفاشلين و الطغاة المستبدين عن الأعذار ، أكثر من هؤلاء الحكام أنفسهم، و في بعض الأحيان ، وهذه هي أم الدواهي ، يسندون غباءهم هذا إلى شرع الله، في فهم مشوه ومجتزئ للنصوص ، بعيد عن النظرة الشاملة في الكليات و المقاصد و فقه الترجيح و الموازنات،وغافل عن البيانات الواضحة في القرآن والسنة،وضوح النهار للمبصر، لا مجرد إشارات فقط تستدعي الجهد الفكري للاستنباط؛ هذا إن فرضنا صحة ما يستندون إليه.

هؤلاء هم الحكام الظلمة المستبدون،و السياسيون المتملقون، ورجال الأعمال الفاسدون ، يعتقدون أن استمرار الوضع هو الضامن الوحيد لوجودهم وعزهم.. وأن استمرار الوضع سهل التحقيق يكفي التصرف بدهاء و خبث في هذه المرحلة الحساسة..

وأما العقول الغبية الماكرة ، فهي لا ترى فيما يقع إلا مرحلة قصيرة و ستمر، و يعود لها مجدها المزعوم ، وتسلطها و تجبرها كما كانت من قبل وأكثر، ولا بأس في سبيل قطع هذه المرحلة بسلام ، بالقيام بإصلاحات كبيرة ولكن لا تمس بجوهر الأشياء، بل ولا بأس بالتضحية ببعض الرؤوس ، المهم أن تمر الأمور ويبقى جوهر الحكم و السياسة و الأساليب كما هو. هؤلاء هم الحكام الظلمة المستبدون،و السياسيون المتملقون، ورجال الأعمال الفاسدون ، يعتقدون أن استمرار الوضع هو الضامن الوحيد لوجودهم وعزهم.. وأن استمرار الوضع سهل التحقيق يكفي التصرف بدهاء و خبث في هذه المرحلة الحساسة..

و لعل ما يحدث في مصر و تونس الآن من محاولات دؤوبة للالتفاف على الثورة و إفراغها من كل المضامين التي قامت من أجل تحقيقها أصلا ، هو خير مثال لهذا. إن هؤلاء الحكام العرب ، يؤكدون أنهم لم يستوعبوا اللحظة و يؤكدون أيضا أنهم أغبياء حقا.. هؤلاء يظنون أنها مجرد حماسة مراهقين وستنطفئ، يريدون أن يمكثوا الدهر كله ،أذلة كالدمى بأيدي الغرب، طغاة فراعنة على شعوبهم. تريد شعوبهم لهم العزة والكرامة وهم يريدون لأنفسهم و لشعوبهم الذل و الهوان. يعتقدون أنهم بإمكانهم الاستمرار في سياسة الكذب و الخداع ، التي مكنتهم أمدا طويلا من السيطرة و الاستبداد بالأمور. لم يعوا أن المواطن في تونس و مصر و في باقي البلدان العربية قد ولد من جديد . إنهم يراهنون على سذاجة المواطنين الغافلين، و أصحاب النيات الحسنة و القلوب الطيبة و العقول الغبية، لتمرير خطتهم الشيطانية الخبيثة. يراهنون على تلك الجذوع اليابسة ، التي يئست من أن ترى البراعم اليانعة تخرج من فروعها. يسخرون من سذاجتها فيرددون ، نحن الزعماء الوطنيون الذين فعلنا كذا وكذا ، جاهدنا و ناضلنا و خدمنا .. لدرجة أنهم حولوا ما يمكن أن يكون سبة في حقهم لا سبة بعدها، إلى فضل و مفخرة : يقولون خدمنا البلد مدة كذا و كذا من السنين الطويلة، فنحن نستحق كل التكريم و الشكر و التقدير ،و تردد بطانتهم المنافقة، و الألسنة الغبية، أن الواجب أن يترك لهؤلاء المجال الكامل لمغادرة كراسيهم بطريقة مشرفة ، تليق بتضحياتهم و ما أسدوه للبلد من خدمة، في إطار الانتخابات المخطط لها بالزور سالفا، بينما كان الصحيح ، الذي لا غبار عليه ، أن يقال، لقد استبدوا بالحكم و ظلموا كذا وكذا من السنين، وآن الأوان أن ينزاحوا من الطريق. و إذا كانوا قد أسدوا خدمة للبلاد، فيما مضى، وهذا فيه كثير من الكذب ، فإن خدمتهم تلك ،لا تبرر أبدا ظلمهم و احتكارهم للسلطة . إن ديغول الذي قاد تحرير فرنسا من النازية و حرر شعبه بحق، عندما خسر في استفتاء أجراه على إصلاحات أراد القيام بها في شأن الجهوية وإصلاح مجلس الشيوخ،خسر بنسبة52 ,4  في المائة فقط ،ترك الرئاسة بل والسياسة أيضا،و ذهب إلى البادية ليكتب مذكراته التي ، بدون شك يحق له ولأسرته و لشعبه أن يفتخروا بها. ورغم أن ديغول ينتمي إلى حزب معين بل هو مؤسسه، فإن كل الفرنسيين ، دون استثناء يكنون له تقديرا فائقا، و حبا خاصا. أما المغفلون عندنا ، فلا يزالون يبحثون لطواغيتنا عن الأعذار حتى تلك التي لا تخطر على بال.

وأعود إلى تلك العقول الغبية الماكرة الخبيثة، فأقول :

إنهم لم يعوا أن العقل العربي قد قفز إلى مربع جديد ، و صار يرفض المسلمات السياسية التي كان قد رسخها فيه عهد التحنيط ، و صار يستخرج الأسئلة التي كانت محرمة حتى على مستوى العقل الباطن ، ليناقشها من جديد بجرأة ثائرة .. إنهم لم يعوا أن شعوب الأمة بدأت تنفض عنها الغبار المتراكم على المفاهيم ، و بدأت ترنو من جديد إلى عبارة : لا إلاه إلا الله، في نحتها الأصلي اللامع ، و في معناها الأصلي غير المشوه..وحدانية لله ، و اتباع لرسول الله ، صلى الله عليه وسلم، وصلاة و زكاة و صيام و عفة و عدل ورحمة وبر.. وأيضا حرية في الفكر و العقيدة و السياسة وانتخابات حرة نزيهة ،وقضاء مستقل عادل ، و رفض لكل طاغية يضع نفسه موضع الإله…فلا إله غير الله..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) عذرا لكثير من إخواني الأمازيغ ، الذين يجدون في هذه التسمية إجحافا في حقهم، فأنا لا أحيل المفهوم على أي منطلق عنصري . فليس مرجعي لا أبو جهل و لا أبو لهب و لا سلامة موسى و لا عبد الناصر، وإنما مرجعي الإسلام و إحالتي على القرآن الذي أفتخر بأنه كتاب الحرية و العدل و المساواة ، و كتاب الرب الخالق و الإله الواحد الذي لا يجوز عبادة أحد سواه. و إن اختلفنا فلا بأس ، المهم احترام بعضناالبعض، و قبول بعضنا للآخر و إن اختلف معه، و هذا ما نصبو إليه في مغرب جديد.

(2) هناك مفهوم سائد في فرنسا يردده الساسة و المثقفون وهو: إما أن تندمج كليا في الثقافة الفرنسية، أو أنك ستعتبر متطرفا عدوا للثقافة الفرنسية و لمبادئ الجمهورية ، وينبغي في حقك الإقصاء. بل لقد شن بعضهم هجوما على الجالية العربية ذات مرة، لأنها تشاهد القنوات العربية بالإضافة إلى القنوات الفرنسية. 

 

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *