المحافظون لا يحاربون الفن، وإنما يحاربون الرذيلة والميوعة باسم الفن

بسم الله الرحمن الرحيم
الحسن جرودي
المحافظون لا يحاربون الفن، وإنما يحاربون الرذيلة والميوعة باسم الفن.
في إطار محاربته لقيم الإسلام وثوابت الأمة، اغتنم الأستاذ عصيد فرصة شجب مجموعة من الفعاليات الغيورة على دينها وطنها عرض شريط باربي، ليخصص فيديو تحت عنوان « لماذا يحارب المحافظون الفن؟ » افتتحه بقوله بأن » الفن في جوهره إنما وُجد لإشباع الرغبة المصادرة أخلاقيا أو دينيا في الواقع الاجتماعي ». ليفصح بعد ذلك عن الهدف الذي يسعى إليه قائلا « هدفنا تحرير العقول من نظرة الوصاية والتحريم التي ما زال البعض يريد بها مصادرة الأعمال الفنية والأدبية » ثم عن تصوره لوظيفة الفن بزعمه بأن » الفن في حدود الأوامر والنواهي الأخلاقية والدينية والثوابت التقليدية المحافظة لا يمكنه إشباع حاجات المجتمع وأداء الوظيفة التي من أجلها وُجد الفن ».
ثم يواصل كلامه بالتلاعب بالكلمات كعادته، محاولا إيهام متتبعيه بأن « الإبداع الجمالي يتميز بانفلاته من معايير الحقيقة العلمية، وخضوعه لدواعي الذات الفردية لا غير، مما يجعل من تفسيره انطلاقا من قواعد مشتركة منطقية أو أخلاقية أمرا مستحيلا ». ولإعطاء المشروعية لكلامه هذا، استدل بالمقولة التالية التي نسبها لبروست: « الحس الفني خضوع لواقع داخلي، يعني استحالة جعل الفنان يخضع لواقع مفروض من منطلق التقاليد أو عادات أو ضوابط أخلاقية، إذ الفن هو تمرد على ذلك كله بغاية التعبير الحر عن مكامن الذات الإنسانية »، ولست أدري ما مدى صحة هذه المقولة، ولا صحة نسبتها لبروست، ومع ذلك فالذي يهم هو الدافع الذي ألجأه إليها، دون غيرها من المقولات والتعريفات التي تُعنى بالفن، وما أكثرها غنا وتنوعا، علما أن الفن كغيره من الأنشطة البشرية تنطبعان بالضرورة بالمرجعية المؤطرة لها، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على إصابته بعمى العلمانية، الذي يَحُول بينه وبين الاغتراف من منابع القيم الإسلامية الرفيعة، التي ينهل منها المغاربة أبا عن جد، ويحرِّضه على استهداف فئة الأغرار من الشباب بالخصوص، لإغوائهم بالانضمام إلى صفوف بيادق الطابور الخامس، منفذا بذلك توجيهات الجهات الخارجية التي أصبحت معروفة لدى العام والخاص، مراهنا في ذلك على منطق التَّعالم، وعلى الوَقْع الانهزامي الذي يتركه مجرد الاستشهاد بأسماء بعض أعلام الغرب على نفسية هذه الفئة، بسبب الجهل الذي استشرى فيها بخصوص كل ما له علاقة بتاريخ الأمم بصفة عامة، وتاريخ الأمة الإسلامية بصفة خاصة، بما فيه تاريخ الكيد لها ولأعلامها منذ نشأتها، وذلك عن طريق نشر ثقافة « العبث » التي يُراد لها أن تسود في مختلف المجالات الحياتية، من بينها مجال الفن. وأقدر أن منطق التعالم هو نفسه الذي ألجأه إلى استخدام مصطلح « التحليل النفسي » للمجاهرة بتصوره للفن، عندما زعم أن هذا الأخير أظهر بأن الفن في جوهره إنما وُجد لإشباع الرغبة المصادرة في الواقع الاجتماعي، إشباعها بشكل مقنع وفي قالب جمالي مقبول عند الناس، فهو بمثابة نوع من التعويض النفسي »، وحتى إذا كان في هذا التصور شيء من الصحة، فإن اعتماده مطية لتبرير مجموعة من الممارسات المنافية للأخلاق الإسلامية بل وللفطرة السوية غير مقبول، هذه الممارسات التي عمل المستعمر وأذنابه على ترسيخها بشكل مباشر أثناء فترة الاستعمار، وبشكل غير مباشر عبر وسائل الإعلام التي بدأ يعم انتشارها مباشرة بعد الاستقلال، وعلى رأسها التلفاز، حيث يَستنتج في شأنها ما يلي، « ولهذا نجد مواضيع الجنس مقبولة حتى داخل الأوساط القروية المحافظة عندما يعبِّر عنها فنان أو شاعر في الغناء أو الرقص أو الشعر الغزلي الجنسي الذي ينشد وسط الجماعة وبين الأسر ». وللدلالة على تهافت وبطلان ما ذهب إليه الأستاذ، يكفي تذكيره وتذكير الجيل المعاصر له، بالحرج الذي كان يقع فيه أفراد العائلات والأسر، عندما يُفاجَؤون بإحدى اللقطات المخلة بالحياء، وهم يتتبعون إما الأخبار، وإما مادة من المواد التي كانت تعرضها التلفزة آنذاك.
إن ما يميز خطاب الأستاذ عصيد في كثير من مداخلاته، إن لم أقل كلها، هو تحيزه الواضح للعلمانية في أقبح تجلياتها، في الوقت الذي يتظاهر فيه بالدفاع عن حرية التعبير، والديموقراطية، وما إلى ذلك من المفاهيم والمصطلحات، التي لا يقبَل من مدلولاتها سوى تلك التي تخدم المشروع العلماني المتطرف، وإلا فما المانع، من باب النزاهة الفكرية على الأقل، من عرض بعض التعاريف التي لا تتوافق منطلقاتها مع منطلقه، ليبرهن على قبوله للاختلاف كما يزعم، وليعطي الحرية لمتتبعيه لاختيار ما يناسب قناعاتهم، وله في « سارتر » الذي ميز بين نوعين من الفن بقوله: « الفن إما تخيل ولا واقعية، وإما التزام وحرية »، وفي الفيلسوفة الأمريكية » سوزان لانجر » عندما ربطت الفن بالمعنى بقولها: « الفن رمز ومعنى » خير مثال على تعدد تصورات الفن لدى المنتمين إلى نفس الثقافة والمرجعية، وبالأحرى عندما يتعلق الأمر بالثقافة والمرجعية الإسلامية، التي يعمل الأستاذ عصيد ومن معه على إلغائها، ليتم بذلك إلغاء الآخر (المحافظ) وحريته في تبني مفهوم الفن الذي يلائم قناعته ومعتقده.
إذا كان الأستاذ عصيد يتبنى تصور « بروست » للفن وهو حر في ذلك، فعليه أن يعلم أنه من المستحيل أن يجاريه من يسميهم بالمحافظين في هذا السياق، وبكل النعوت القدحية التي نحتها الغرب في سياقات أخرى، من وهابيين، وداعشيين، وتكفيريين… ، قلت من المستحيل أن يجاروه لا في هذا التصور، ولا في غيره من التصورات البشرية، ما لم تلتزم بضوابط الشريعة الإسلامية، لأنهم مسلمون بكل بساطة، ولأن الشريعة الإسلامية تؤطر حياة الإنسان في جميع مجالاتها وتجلياتها، بحيث لا مجال للازدواجية في المعايير والنسبية في المبادئ، فالحلال حلال والحرام حرام في كل زمان ومكان، إلا ما استثنته الضرورة، فالفاحشة بجميع أشكالها، والدعوة لممارستها، محرمة بغض النظر عن كونها تُمارس عن طريق المسرح أو السنيما أو المهرجانات…وإلا فماذا بقي من معنى للأخلاق والعفة عند من يمارسها باسم الفن؟ وما جدوى القانون الجنائي المتعلق بالإخلال العلني بالحياء على سبيل المثال لا الحصر؟ ولهذا فالمسلمون أو المحافظون كما يحلو لعصيد أن يسميهم، لا يحاربون الفن بشكل مطلق، بقدر ما يتمسكون بالفن الذي يناسب معتقدهم وثقافتهم، وهذا من حقهم يا أستاذ عصيد؟ إذا كان لك اعتبار لمفهوم الحرية، ولو في أدنى مستوياته، وأنت مَن اعتبر بأن الحريات من مقدسات الديموقراطية التي لا تكمن حدودها في ضوابط دين ما أو مذهب معين، وإنما هي في عدم المس بحقوق الغير وحريتهم. ألا ترى أنك حينما تُجرِّد أغلبية المغاربة من الدفاع عن تصورهم للفن تمس بحقهم وحريتهم؟ أم أنك تريد أن تفرض مقدسات الديمقراطية حسب تأويلك الخاص لها، في مقابل مقدسات وثوابت الأمة التي تستمد مصداقيتها من الشريعة الإسلامية، أعتقد أنه من باب انسجامك مع مفهوم العلمانية التي تعمل على سيادتها، أن تقر للأغلبية بممارسة حريتها في اعتماد مفهوم الفن الذي يناسبها، وإلا كيف تفسر تصرفات الدولة الفرنسية « العلمانية والديمقراطية والمحترمة لحقوق الإنسان!!! » بخصوص تدخلها في أخص خصوصيات المسلمين، بما فيها لباسهم الذي امتد من قطعة قماش فوق الرأس، مرورا بالبوركيني، ووصولا إلى العباءة.
وإذا كنتَ قد تجرأتَ وطلبتَ من « حراس التقاليد » على حد تعبيرك، « إبداع النموذج الإبداعي الذي يعتبرونه مطابقا لضوابطهم وخوض غمار المنافسة انطلاقا منه »، أقول لك بأنهم ليسوا في حاجة إلى نموذج جديد، بقدر ما هم في حاجة إلى أن تُخلي أنت ومن معك سبيلهم وتتركهم وشأنهم، وتحتفظ بنصائحك لأخلائك وأصفيائك، لأن نموذجهم يسعى إلى الرقي والسمو بالإنسان الذي كرمه الله عن باقي المخلوقات، عكس ما تدعونه إليه من الانغماس في الشهوات بالشكل الذي ينحدر به إلى المستوى البهيمي بل وأقل منه.
أورد صاحب كتاب « الفن الإسلامي ابتداع والتزام » في الصفحتين 24 و25 ، عشرون تعريفا للفن، ثم قارنها فيما بينها، فلم يجد بينها ولو عنصرا واحد مشتركا، وبما أن التعريف بصفة عامة هو خلاصة مفهوم التصور الكلي للشيء، ولأن وظيفة الفن وغايته، جزءان من عملية تصوره، كما ورد في الصفحة 26 من نفس المرجع، فإنها تتعدد بتعدد المرجعيات والدوافع، مما يبين بوضوح أن ليس للأستاذ عصيد الحق في مصادرة مختلف الوظائف، والاقتصار على وظيفة وهدف واحد، اختلقه ليخدع الأغرار، وذلك استنادا إلى « هربرت ريد » الذي قال بأن الفن « من أشد المفاهيم خداعا في تاريخ الفكري البشري ». وللتأكيد على بطلان تصوره لوظيفة الفن، أمده ببعض الوظائف من خارج الدائرة الإسلامية: فهذا « هيغل » الذي يرى « أن للفن هدف أساسي يتمثل في تلطيف الهمجية بوجه عام، وفوق هذا الهدف يقع هدف تهذيب الأخلاق، بحيث يكمن في الكشف للنفس عن كل ما هو جوهري، وعظيم وسامٍ وجليل وحقيقي وكامن فيها، ومن ثم فإن أسمى مقصد للفن، هو ذاك المشترك بينه وبين الدين والفلسفة، فهو كهذين الأخيرين نمط تعبير عن الإلاهي عن أرفع حاجات الروح وأسمى مطالبه » (نفس المرجع السابق). وهذه المفكرة الأمريكية « سوزان لانجر » التي تذهب إلى « أن وظيفة الفن ليست هي تزويد المدرك بأية لذة كائنة ما كانت، بل هي إحاطته علما بشيء لم يعرفه من قبل (نفس المرجع).
أما من داخل الدائرة الإسلامية فسأكتفي بمثالين اثنين، وهما ممن يشمئز من سماع اسميهما، الأول هو محمد قطب الذي يقول: » والفن الإسلامي ليس بالضرورة هو الفن الذي يتحدث عن الإسلام…وإنما هو الفن الذي يرسم صورة الوجود من زاوية التصور الإسلامي لهذا الوجود »، ويضيف بأنه » هو التعبير الجميل عن الكون والحياة والإنسان من خلال تصور الإسلام للكون والحياة والإسلام » أما الثاني فهو الأستاذ محمد شمس الدين الذي يتحدث عن وظيفة الفن بقوله: » يجب أن يكون نقل أو إيصال أسمى وأفضل القيم والأفكار والمشاعر إلى الآخرين بأسلوب جميل مؤثر بحيث يوفر عنصر المتعة إضافة إلى التأثير في سلوكهم وإرشادهم إلى الصراط المستقيم ».
في الأخير أقول للأستاذ عصيد ومن معه، بأنكم لم ولن تكونوا باعتمادكم الفن مدخلا لتمرير الفساد وإشاعته في المجتمع، سوى بيادق على طاولة شطرنج العلمانية، التي تديرها الصهيونية العالمية، وأنكم لستم بدعا ممن سبقكم من البيادق علِمتم ذلك أم جهلتموه، وجدير بالذكر في هذا الصدد، التنويه بكتاب قيم للدكتورة زينب عبد العزيز تحت عنوان « لعبة الفن الحديث بين الصهيونية – الماسونية وأمريكا » الذي كشفت فيه خبايا الفن الحديث وتوجهاته المدمرة منذ بداية القرن العشرين، وأكتفي في هذا المقام بذكر بعض ما قدمت به للطبعة الثانية من الكتاب نفسه، حيث جاء فيها: » بأن الفن الحديث، بكل عبثياته المُعاشة، يمثل أداة تدمير متعمدة لاقتلاع الحضارة والتراث والثقافة الخاصة بكل بلد، كجزء لا يتجزأ من مخطط العولمة وعملية فرض النمط الواحد والتبعية الإجبارية وكل ما تحركه المصالح الصهيونية-الماسونية والدور الغاشم الذي تقوم به السياسة الأمريكية، ومؤسساتها في محاولتها المستميتة لا لتتجير الفن فحسب، وإنما لتتجير العالم برمته ولإخضاعه لسيطرتها العمياء الأنانية ولأنماطها الممسوخة الماجنة »
في الأخير لم أجد ما أختم به هذا المقال، خيرا مما اختتمت به الدكتورة تقديمها للطبعة الثانية حيث قالت: « ولا أجد ما يضاف إلى هذا البحث في طبعته الثانية سوى التأكيد والتكرار على ضرورة فهم وإدراك ما يحاك لنا وللعالم أجمع، وضرورة التصدي لهذا التيار الكاسح الذي لم يعد بحاجة إلى دليل على ما يفرضه من ضياع، وضرورة الحفاظ على هويتنا وعلى أصولنا الأخلاقية والحضارية والفنية المتميزة الممتدة عبر التاريخ…وعار علينا أن نتحول من مجرد أتباع… أتباع منصاعون بكل مهانة لما يفرض عليهم، ولو بكل المغريات والضغوط ». ولعل في هذا ما يكفي ليعلم الأستاذ عصيد ومن معه، بأن المحافظون لا يحاربون الفن، وإنما يحاربون الرذيلة والميوعة باسم الفن.
الحسن جرودي
Aucun commentaire