Home»Débats»عندما تُحوِّل نظَّارات الاستلاب مؤشراتُ تخلفٍ إلى مؤشراتِ تَحَضُّرٍ

عندما تُحوِّل نظَّارات الاستلاب مؤشراتُ تخلفٍ إلى مؤشراتِ تَحَضُّرٍ

0
Shares
PinterestGoogle+

بسم الله الرحمن الرحيم

الحسن جرودي

عندما تُحوِّل نظَّاراتُ الاستلاب مؤشراتُ تخلفٍ إلى مؤشراتِ تَحَضُّرٍ

كثيرا ما نستعمل مصطلحا التخلف والتحضر في حكمنا على الآخر، بحيث نصف فردا أو شعبا أو ثقافة أو …بكونه متحضرا أو متخلفا، وذلك دون أن نوضح المعايير والخلفيات التي تؤطر هذا الحكم أو ذاك، ويبدو أن الغالب على هذه المعايير أو المؤشرات هو الجانب المادي. وإذا انطلقنا من أبسط تعريف للحضارة كما جاء في موسوعة ويكيبيديا  بحيث هي « النتاج الفكري والثقافي والمادي المتراكم لأمةٍ من الأمم والتي تمنحها خاصيةً مميزة عن الأمم الأخرى » علمنا أن هذا الجانب لا يعدو أن يكون مؤشرا من بين مؤشرات عديدة بدونها لا يمكن للحكم إلا أن مبتورا، ومع ذلك فإننا نجد أنه النظارة الأكثر استعمالا لدى الشعوب المستلبة في رؤيتها للأمور ومن ثمة الحكم عليها، والنتيجة هي تمجيد كل ما يأتي من الغرب المتقدم ماديا وصناعيا  دون الأخذ بعين الاعتبار مدى ملاءمة كل ما يرافق هذا التقدم المادي من انحطاط في الجانب القيمي والأخلاقي  مع ثقافتنا وقيمنا العربية الإسلامية.

الدافع وراء هذا المقال هو الرغبة في لفت الانتباه إلى بعض المؤشرات التي تبدو عادية في أول وهلة، لكنه عند التدقيق فيها يتبين أن وراءها ما وراءها من أهداف قد تُلْحِقُ، إذا ما تحققت، بثقافتنا وممارستنا اليومية شروخا يصعب معالجتها إذا لم يتم الانتباه اليها ومعالجتها قبل فوات الأوان، ويتعلق الأمر بمجموعة ملاحظات استفزتني أثناء سفري من وجدة إلى إحدى المدن المغربية المحسوبة على المدن المتحضرة.

أول ما لفت انتباهي وأنا في بداية الطريق، هو التعميم التدريجي لحرف تيفيناغ في لوحات التشوير. فإذا كان الهدف المعلن هو ضرورة تعميم هذا الحرف لأن الأمر يتعلق باللغة الرسمية الثانية حسب الدستور، فإن التساؤل يبقى مطروحا بالنسبة للدور الوظيفي لهذه اللوحات، عدى الأرباح التي تجنيها الشركة أو الجهة التي تسوقها، في الوقت الذي لا يفهمها لا الأجانب الذين يُحتج بهم لتبرير استعمال الفرنسية، ولا المغاربة الذين أجزِم أن أكثر من 90% من الذين يتكلمون إحدى لهجاتها، وأنا منهم، لا يفهمون معاني حروفها، ذلك أنه على الرغم من وِراثتي للهجة بني يزناسن أبا عن جد وأتكلمها بطلاقة، لم أتمكن من التعرف على حرف واحد من حروفها على طول الطريق الذي امتد إلى ما يقارب 600 كلم، وحتى لا يساء فهمي، أكرر مرة أخرى بأن سؤالي يَنْصَبُّ على الجانب الوظيفي لا غير إن عاجلا أو آجلا، خاصة وأن السيد وزير التربية الوطنية قد صرح فيما سبق بأن » استعمال ثلاثة حروف لتعّلم اللغات المدّرسة في المدرسة المغربية، ُيعّد من الصعوبات التي تؤثر على تمكن التلاميذ المغاربة من اللغات ».

ثاني شيء لفت انتباهي هو تجهيز باحات الاستراحة بمراحيض على الطراز الغربي. وقد يقول قائل وما العيب في ذلك؟ خاصة وأنه يستجيب لحاجيات الأجانب الذين لا يحسنون استعمال المراحيض « البلدية »، والإجابة بسيطة هي أن المغاربة والمصلون منهم على الأخص يجدون النوع الأول غير وظيفي، لأنها غير صالحة للاستنجاء وإسباغ الوضوء، ومن ثم فما المانع من توفير نوعي المراحيض، مع العلم أنه من الناحية الصحية تُعتبر الثانية أكثر سلامة، فيما  تكون الأولى أكثر احتمالا لنقل الأمراض الجلدية على الخصوص، لكون مستعمليها يكونون في تماس مباشر معها أثناء قضاء الحاجة، وهو سبب كاف لنقل الأمراض، عكس المراحيض « البلدية » التي لا يقع فيها التماس أصلا. شيء آخر يبعث على التقزز، ذلك التبول بالوقوف في أوعية على شكل أقماع، أمام مرأى ومسمع المستعملين الآخرين، حتى يكاد يخيل إليك أنك في حضيرة حيوانات وليس في مرحاض يستعمله البشر يُفترض فيه حد أدنى من الحياء والخصوصية.

صادف وصولي إلى وجهتي صلاة العصر، مما سمح لي بأدائها في المسجد قبل الالتحاق بمقر إقامتي الذي لا يبعد عنها سوى بعشرات الأمتار، وأنا في الطريق أثار انتباهي الاستعمال الكلي للحرف اللاتيني على واجهات جميع المحلات، باستثناء البنك الشعبي وأحد الأبناك الأخرى اللذان استعمَلا اللغتين العربية والفرنسية كما هو معروف لديهما، مما قد يُخيل لزائر المدينة لأول مرة أن الأمر لا يتعلق بمدينة مغربية وإنما بمدينة أجنبية أو بإحدى المستعمرات الفرنسية، الأمر الذي يجعل من وجود المسجد حالة استثنائية، وما يعزز هذه الفكرة هو أنني عندما ذهبت لإحدى المقاهي لكتابة هذا المقال لم أسمع طوال مكوثي فيها ولو أغنية مغربية أو عربية واحدة وإنما كانت كلها غربية يغلب عليها الطابع الفرنسي.

أمر آخر لاحظته على مستوى العمارة التي أقمت فيها، هو انعدام مفهوم الجار بحيث لا تكاد تجد من يرد عليك تحية السلام وأنت تستقل المصعد إما هبوطا أو صعودا، وفي هذا السياق أثار انتباهي تعطير المصعد برائحة زكية، فلما استفسرت عن الأمر قيل لي بأن عددا من سكان العمارة يملكون كلابا تُخلِّف روائح كريهة داخل المصعد يتم التغطية عليها باستعمال المُعطر الذي بدونه يصبح الصعود إلى الطابق السادس عبر الدرج أهون من استنشاق رائحة الكلاب، علما أن أصحابها يُسكِنونها معهم  في نفس الشقة التي لا تتجاوز مساحتها في أحسن الأحوال ستون مترا مربعا.

ملاحظة أخيرة أود الإشارة إليها، ولو أنها لا تدخل ضمن موضوع المقال بكيفية مباشرة، ويتعلق الأمر بوجود لوحات عادية وأخرى ضوئية تُنبه إلى وجود مقاطع طرقية تكون عرضة إما للرياح القوية كما هو الشأن بالنسبة لقنطرة محمد السادس، وإما للأمطار، في الوقت الذي لم نصادف فيه لا رياح ولا أمطار. وحتى يكون التشوير أكثر دقة يبدو لي أنه يستحن تضمين هذه اللوحات كواشف إلكترونية لسرعة الرياح وأخرى لكمية الأمطار وثالثة لمستوى وضوح الرؤيا … يتم إعلان نتائجها بشكل آني مما يسمح للسائقين بالتقدير الحقيقي للخطر الذي تمثله هذه العوارض الطبيعية، وهذا من أسهل ما يمكن أن يقوم به المبتدئون في البرمجة الإعلاميائية، وكيف ونحن نتوفر على جامعة محمد السادس متعددة التخصصات.

ختاما أتمنى أن يأتي يوم غير بعيد نتخلى فيه على نظارات الاستلاب والاستغراب، ونستبدلها بنظاراتٍ تعطي الأولوية في إبصارنا لمحيطنا ولممارساتنا لمكونات ثقافتنا العربية الإسلامية التي من طبيعتها الانفتاح على الآخر، والأخذ بكل ما هو إيجابي دون تعارض مع القرآن والسنة النبوية الشريفة، عملا بالحديث الصحيح المعنى، حتى وإن لم يثبت مرفوعا إلى النبي صلى الله تليه وسلم « الحكمة ضالة المؤمن أين ما وجدها كان أحق بها ».

الحسن جرودي

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *