الهجرة القروية بمنظار الغلاء: أي تصور وأي مخرج؟

الحسن جرودي
الهجرة القروية بمنظار الغلاء: أي تصور وأي مخرج؟
بمجرد وُلُوجِكَ لسوق من الأسواق أو وُقُوفِك بباب متجر من المتاجر على مختلف مبيعاتها خُضرا كانت أو فواكه أو بقالة أو غيرها مما يُقتَنى، فإن كلمة غلاء الأسعار تثير انتباهك بسبب كثرة تداولها، ذلك أنه إذا كانت الكلمة إلى عهد غير بعيد من اختصاص قاموس مَنْ لا دخل قار لهم، وهم الذين يمكن أن يُطلق عليهم فقراء الأمس، فلقد أصبح مدلولها يكتسح وبسرعة قواميس الأوساط ذات الدخل القار، مع العلم أن مفهوم الدخل القار صار منذ مدة غير ذي معنى خاصة عند أولئك الذين أصبحوا عاجزين عن الوفاء بالحد الأدنى من الضروريات لأُسرهم وللأفراد الذين يدورون في فلكهم على الرغم من مدخولهم القار، قلت بالإضافة إلى هؤلاء أصبح الغلاء يَطال من كانوا بالأمس القريب يُعتبرون من علية القوم* مقارنة بفقراء الأمس.
ولا شك أن لهذا الغلاء أسباب، منها ما هو متداول في وسائل الإعلام والتواصل والذي تُحتَمل فيه الصحة كما الخطأ بسبب الأخبار التي تتضارب بتضارب المصالح، ومنها ما هو حِكْر على دوائر خاصة إما داخلية أو خارجية، وهذه من الصعب الخوض فيها دون معطيات دقيقة وموثوقة، لهذا سأتطرق للموضوع من زاوية خاصة تتعلق برصد أهم عَرَضٍ من الأعراض المرتبطة بداء الغلاء، ويتعلق الأمر بالهجرة وما تستتبعها من ممارسات ليست دون تأثير على المجتمع المغربي ككل، ثم مقارنتها بممارسات شبيهة خارج حدود الوطن.
وأنا أتجاذب أطراف الحديث مع جَزَّار الحي في الموضوع، لمَسْتُ لديه حساسية مُفرِطة تجاه النازحين من البوادي والقرى نحو المدن، لأنهم في نظره لا يُحسنون مزاولةَ أية مهنة خارج تلك التي يمارسونها في قُراهم وبواديهم، ومن ثم فَهُمْ لا يَصلحون لأي شيء في المدينة سوى أنهم سيتحولون إلى مُعْتَدين على ممتلكات الغير وأعراضهم، لذلك يجب أن يبقوا حيث هم. ويبدو لي أن هذا النوع من المنطق لا ينفرد به هذا الجزار وإنما يوجد لدى عدد لا يستهان به من المواطنين العاديين الذين استوطنوا المدن وربما لعهد قريب. وسوف لن أكون مجازفا إذا قلت بأنه متمكن حتى من بعض أصحاب القرار. لذا سأُلقي نظرة على الموضوع من هذا المنطلق الذي تُفترض معه طريقتان لمعالجته:
الأولى تتمثل في إبقائهم في البادية ومَنعهم من ولوج المدن بطريقة من الطرق، مع عدم تمكينهم من أسباب العيش الكريم، وهذا إجراء لا يمكن لعاقل أن يتصور بقاء هؤلاء مكتوفي الأيدي أمامه وأبناؤهم يتلظون جوعا، أليس هذا جدير بأن يدفع بهم إلى قطع الطرق المؤدية من وإلى المدن ومن ثم قطع كل الإمدادات التي تستفيد منها؟
والثانية هي أن تقوم الدولة بواجبها في مساعدتهم على إنعاش بعض الأنشطة الفلاحية التي تأزمت بسبب الجفاف مما يضمن لهم الحد الأدنى من العيش الكريم. والسؤال هو هل يُعتبر هذا سببا كافيا للحكم على شخص ما بالمكوث في البادية؟ ثم مَن المُخوَّل بإصدار هذا النوع من الحكم؟ أم أن الأنانية المقيتة تعمي أبصار هؤلاء وتَحصُر نظرتهم للبادية ضمن الصورة النمطية التي تتمثل في تزويدهم بالخضر والفواكه والألبان والدجاج وما إلى ذلك، في نفس الوقت الذي يُنظر فيه إلى أهلها نظرة ازدراء واحتقار مع اعتبار كرمهم وحيائهم تخلفا وبلادة، وما مقولة « هذاك العروبي » إلا دليلا على ما أقول. وفي هذا الصدد أتذكر قصة وقعت في الثمانينات من القرن الماضي لأحد الفلاحين مع أحد رجال الشرطة، حيث كان هذا الأخير يتردد هو وعائلته خلال أغلب العطل على عائلة هذا الفلاح ليأكل ما لذ وطاب، ويأخذ معه مِنْ كل ما توفر من الخضر والفواكه والدجاج والبيض…وذات يوم حدث أن دخل الفلاح المدينة بسيارته المحملة ببضاعةِ يبيعها بالسوق الأسبوعي، وإذا بالشرطي نفسه يوقفه في مدخل المدينة ويعزم على أن يحرر له مخالفة لكون أحد أضواء الفرامل لا يشتغل، وظنا من « العروبي » أنه يمزح معه طلب منه أن يسرحه حتى لا يتأخر في إدخال سلعته للسوق، إلا أن رد فعل الشرطي كان قاس عليه حيث قال له « شوف مع الشاف » غضب الفلاح وطلب منه الإسراع بتحرير المخالفة التي لم تكن تتجاوز آنذاك 30 درهما على أن لا يريه وجهه ما دام حيا.
وحتى لا ينسى هؤلاء الأنانيون أصولهم، نذكر بأن جل سكان المدن كانوا إلى عهد قريب قرويين، وهو ما يعبر عنه تطور نسبة سكان المدن، إِذْ لم تكن تزيد على 10% سنة 1926 لتبلغ 41% عام 1983 ثم 48.9% في عام 1996، ثم 55.1% سنة 2004 و60.3% سنة 2014.
فإذا كان هؤلاء أو ما يمكن أن نُطلق عليهم بحق نازحي الأمس، لا يقبلون بنزوح ذويهم إلى المدن، علما أنه لا يُطلب منهم لا إيواءهم ولا التكفل بهم على غرار ما قام به الأنصار تجاه المهاجرين، فكيف يقبلون بالمهاجرين الأفارقة وإخواننا ضحايا الثورات العربية الفاشلة؟ ثم أليس هذا هو التصرف الذي نعيبه على الغرب في تعامله مع المهاجرين؟ ثم ماذا سيكون رد فعل هؤلاء إذا طُلب منهم جدلا تبادل الأدوار مع أصحاب البادية؟
في الختام أقول بأن الهجرة والتنقل في أرض الله حق من حقوق الإنسان الأساسية التي رغَّب الإسلام فيها إذا كانت في سبيل الله، مع العلم أن كَدَّ المسلم لتحصيل قوت عائلته داخِلٌ لا محالة في هذا السياق. وفي هذا يقول جل من قائل: « وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا » (الآية 100 من سورة النساء) ومن ثم فلا حق لأي كان أن يَفرض على أي كان المكوث في مكان ما، فقط لأنه يخاف أن يُنَغِّص عليه عيشه. ويبقى الحل الأمثل لهذا المشكل الذي تعاني منه كل البشرية هو تحمل الدولة مسؤوليتها في توفير شروط العيش الكريم لمواطنيها بتطبيق العدالة الاجتماعية في نفس الوقت الذي يُطلب فيه من المواطنين الالتزام بأخلاق الدين الإسلامي الحنيف التي تستوجبها الأخوة « إنما المؤمنون إخوة » وعلى رأسها خلق التكافل المادي والمعنوي والذي بدونه يضيق الناس ببعضهم البعض رغم أن أرض الله واسعة تسع الجميع، وهو ما عبر عنه الشاعر عَمر بن الأهتم المِنقري السعدي بقوله:
لعمرك ما ضاقت بلادٌ بأهلــــها ولكن أخلاق الرجال تضيق
والشاعر بشار بن برد عندما أنشد:
وكنتُ إذا ضاقت عليَّ محلــــــة تَيَّمت أخرى ما علي تضيقُ
ولا ضاق فضل الله على مُتعفف ولكن أخلاق الرجال تضيق
* المقصودون هم الطبقة المتوسطة





Aucun commentaire