الهوية بين الضرورة والخطورة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحسن جرودي
الهوية بين الضرورة والخطورة
الهوية مفهوم فلسفي قبل أن يكون موضوعا لعلم النفس أو الاجتماع، وفي كلتا الحالتين يصعب التطرق إليه دون التمكن من الحد الأدنى من المعارف التي تؤطره. من هنا أوضح بأنني لا أرغب في الخوض في المتاهات الفلسفية التي تتعقد وتتنوع بتنوع المدارس الفلسفية، لكوني غير متخصص فيها من جهة، ولأن الخوض في الموضوع من هذه الزاوية لا يهمني بقدر ما تهمني تجليات المفهوم وانعكاسها على واقع الأمم والشعوب من جهة ثانية.
لأجل هذا سأكتفي بأحد أبسط تعاريف الهوية الذي يَعتبِر بأنها مُجملُ السِّمات التي تُميِّز شيئا عن غيره أو شخصا عن غيره أو مجموعة عن غيرها، وهو ما يُفترض معه أن يكون كل فرد على بينة من هويته. وعلى اعتبار صحة هذه الفرضية فإنه من الصعب الإلمام بجميع العناصر المكونة لهويته هاته في كثير من الأحيان، ذلك لأن الواقع يبرهن على أن إفصاح المعني عن السمات التي تميز شخصيته أو بعضا منها، يختلف باختلاف الزمان والمكان والسياق. فلنضرب لذلك بعض الأمثلة: فإذا سئلت شخصا عن هويته حين تواجده في بلد أجنبي، فلا شك أنه سيُعرِّفُها لك بانتسابه إلى « بلده الأصلي »، مع الاعتراف بصعوبة تعريف مدلول البلد الأصلي، وهي الصعوبة التي بدت واضحة من خلال تبني الهوية المغربية من قبل مجموعة من أفراد الفريق الوطني لكرة القدم رغم أنهم ازدادوا ببلاد الغرب، أما إذا كان متواجدا في « بلده » فغالبا ما تكون إجابته إما بانتسابه لِلِسانٍ معين كأن يقول بأنه عربي، أمازيغي، ريفي… وإما بانتسابه إلى جهة أو مدينة معينة، وإذا كان في مدينته فسيُرجع هويته إلى الدوار أو القبيلة التي ازداد بها، وهكذا دواليك، كما يمكن للإنسان أن يُعرِّف نفسه انطلاقا من مهنته أو حرفته، أو انتمائه العائلي، كونه من أسرة غنية، أو من أسرة عالمة، وقد يلجأ إلى القول بأنه ابن أو حفيد فلان الذي سَجَن فلانا أو أطاح بفلان أو قتل فلانا ليبدو بمظهر الذي لا يمكن التجاسر عليه وعلى مصالحة. وما يُستنتج من هذا هو أن تعريف الإنسان لهويته غالبا ما يخضع لاعتبارات ذاتية وأخرى موضوعية، ليبقى السؤال عن مدى تطابق هذه « الهُويات » مع الهُوية الحقيقية للفرد علما أنه يتم اللجوء إلى إخفاء أهم عنصر في الهوية وإبراز عنصر أقل أهمية أو العكس. فعلى سبيل المثال يمكن لشخص أن يُخفي هويته العربية أو الإسلامية حتى يبدو وكأنه غير مسلم، كما وقع مع محاكم التفتيش في الأندلس، وكما هو واقع الآن ببلاد الغرب وفرنسا على الخصوص بالإضافة إلى الهند والصين… تفاديا للمشاكل التي قد تنتج عن ذلك، وهو في ذلك يدخل ضمن قوله تعالى في الآية 106 من سورة النحل: « مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ… » كما يمكن لشخص آخر أن يصرح بهويته الإسلامية بهدف الدفاع عنها وتبرئتها من التهم التي تنسب إليها، في الوقت الذي يمكن لآخر غير مسلم أن يتقمص هوية مسلم أو حتى مسلم متطرف لاستغلالها في قضايا سياسية تسيء إلى الإسلام والمسلمين.
وإذا كانت مشيئة الله قد اقتضت من جهة أن يكون الناس مختلفين من حيث التوجُّهات الفكرية والعقدية التي تؤدي إما إلى الجنة وإما إلى النار، مصداقا لقوله تعالى في سورة هود: « وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ » فإنها من جهة أخرى قد اقتضت أن يكونوا مختلفين من حيث ألسنتهم وألوانهم وطبائعهم ومواهبهم واستعداداتهم… من أجل التعارف مصداقا لقوله تعالى في الآية 13 من سورة الحجرات: « يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ »
في تفسير هذه الآية الأخيرة، ورد في ظلال القرآن أن « الغاية من الاختلاف ليست التناحر والخصام، وإنما هي التعارف والوئام، فالتنوع لا يقتضي النزاع والشقاق وإنما يقتضي التعاون للنهوض بجميع التكاليف والوفاء بجميع الحاجات »، وهو ما يستنتج معه أن اقتران الهوية بعنصر من عناصر الاختلاف ضرورية للتعارف مصداقا لقوله تعالى في الآية 32 من سورة الزخرف »… نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا… »
إذا كان هذا هو منظور الإسلام للتعامل مع اختلاف الهويات، فإن لِلْغَرب عموما نظرة مخالفة لنظرة الإسلام، تتمثل في أولوية هويتها ونفي باقي الهويات، وهو ما عبر عنه القرآن الكريم في الآية 120 من سورة البقرة حيث قال: « وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ » على اعتبار المعنى اللغوي للملة التي تعني السنة والطريقة، والتي تلخصها العبارة الشهيرة المنسوبة لبوش الابن » من لم يكن معنا فهو ضدنا » وهو ما تجسده مختلف الحروب الهوياتية أو ما يطلق عليه بالحروب الحضارية، على الرغم من الأهمية التي يكتسيها الجانب الاقتصادي الذي يُمكن بشيء من التجاوز اعتباره هوياتيا كذلك، هذا من جانب، من جانب آخر يلاحظ في العالم والإسلامي إنبات مجموعة من الهويات من مثل القومية والوطنية والعلمانية والسنة والشيعة والعرب والأكراد والأتراك لتُستُحدث داخل كل هوية هويات تنبني كلها على الصراع والتطاحن فيما بينها، ولنا فيما يقع بين المغرب والجزائر وداخل العراق وسوريا ولبنان … أمثلة حية على الخطورة التي يمكن أن تنجم عنها إذا ما تم تسييسها كما يحرص على ذلك بعض العملاء عندنا فيما يتعلق بالعربية والأمازيغية اللتان تساكنتا لمدة طويلة في إطار الهوية الإسلامية، إلى أن تفطن الاستعمار إلى إمكانية استغلالها في سياسة فرق تسد، ويجند لها من أبناء جلدتنا من يقوم مقامه، ومما يزيد الطين بلة هو محاولة استنبات هويات هجينة كالعلمانية والمثلية، والرضائية، والنسوية…
ختاما أقول، بقدر ما يُعتبر اختلاف الهويات ضرورة للتعارف بالمفهوم القرآني الوارد في الآية 13 من سورة الحجرات المشار إليها أعلاه، لأنها سنة من سنن الله، بقدر ما يمثل خطورة على الأمم والشعوب فيما بينها وضمنها عندما يتم تسييسها واستغلالها خارج الإطار الذي حدده الله جل جلاله لها.
الحسن جرودي
Aucun commentaire