عندما لا يُكتَفى بابن خلدون والمتنبي ويَتمُّ استدعاء مقولة تشرشل لذم العرب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحسن جرودي
عندما لا يُكتَفى بابن خلدون والمتنبي ويَتمُّ استدعاء مقولة تشرشل لذم العرب
في خضم الزوبعة التي أثيرت حول تصريح العلامة الشيخ الريسوني بخصوص الصحراء المغربية والوضع التاريخي لموريتانيا وتندوف، كتب أحدهم مقالا تحت عنوان « تصريح الريسوني » قال فيه كلاما كثيرا ومتداخلا يصف فيه كلام الريسوني بأنه مستوحى من إغراقه في الماضوية السياسية، ويستصغر فيه بمكانة الإفتاء ويستهين بها بحيث يقول « ولو أنها أحالت « قضيته » على « مجلس استفتاء » لأصدر أمرا بإباحة « إهدار دمه »! (يعني بالقضية قضية الريسوني).
إن ما يلاحظ في المقال هو تذبذبه بين مدح الريسوني وذمه، وهذا أمر لا يهمني بقدر ما يهمني تركيزه على بعض الردود التي تنطلق من خلفيات معينة واستغلاله لها، لذم العرب من خلال استحضار مقولات لا تفي بالغرض إلا إذا تم إخراجها من سياقها. وفيما يلي بعضا مما قاله في هذا الشأن بالحرف، في الفقرة التي عنونها « كان واردا »: « كان واردا جدا أن تتهافت على تصريح الرجل كل القبائل العربية، لخُلة راسخة فيها قديما، مثلما نعتهم بها ابن خلدون « لا يتغلبون إلا على البسائط.. »، أو حينما ناداهم المتنبي بيائه التعجبية « يا أمة ضحكت من جهلها الأمم« ، أو مثلما استوعبهم تشرشل من بين الشعوب فقال قولته الرنانة « … إذا مات الإنجليز تموت السياسة وإذا مات الروس يموت السلام وإذا مات الأمريكان يموت الغنى وإذا مات الطليان يموت الإيمان وإذا مات الفرنسيون يموت الذوق وإذا مات العرب تموت الخيانة… »؛
وللرد على صاحبنا أقول:
فيما يتعلق بمقولة ابن خلدون فقد جاءت لتوصيف واقع معين في ظرف معين، من الصعب إسقاطه على الواقع الحالي للعرب، ذلك أنه عندما يتم الاطلاع على الفقرة التي وردت فيها المقولة، يُستنتج أن الفائدة التي يمكن الخروج بها، تكمُن في اكتشاف ابن خلدون علم العمران البشري الذي يُلخص حياة الدوّل وما تصل إليه من ازدهارٍ ثم اضمحلالٍ، وإذا كان ما لاحظه من ممارسات التغلب على البسائط عبارة عن مؤشرات لاضمحلال الحكم العربي في وقت معين، فإن ذلك يصدق اليوم على عدد كبير من الدول، فلا فرنسا ولا الولايات المتحدة ولا روسيا تتجرأ لتتغلب على دول عظمى أو التي تكافؤها في القوة، وإنما تطمع في الدول الضعيفة أو البسائط حسب تعبير ابن خلدون، وما التغلب على العراق وسوريا وليبيا وأفغانستان و… إلا عينة من الأمثلة الكثيرة التي تعج بها الكرة الأرضية. وإذا صدقت مقولة ابن خلدون، فإنها تُنبِؤ بقرب زوال مجموعة من الدول المتجبرة التي تتغلب على البسائط.
أما فيما يتعلق بشعر المتنبي، فالاستدلال بشطر من بيت، يشبه إلى حد بعيد الاستدلال بويل للمصلين، إذ لابد من وضع البيت الشعري في سياق علاقة المتنبي بكافور الإخشيدي الذي كان حاكما لمصر آنذاك، ذلك أنه بعد مرحلة المدح التي كان يهدف أثناءها إلى الظفر بمنصب من مناصب الحكم، وهو ما يمكن أن يُستشف على سبيل المثال من البيت التالي:
يا أَيُّها المَلِكُ الغاني بِتَسمِيَةٍ في الشَرقِ وَالغَربِ عَن وَصفٍ وَتَلقيــبِ
أَنتَ الحَبيبُ وَلَكِنّي أَعــــوذُ بِهِ مِن أَن أَكـــونَ مُحِبّـــًا غَيرَ مَحبـــوبِ
قلت بعد مرحلة المدح ويأسِه من الظفر بما كان يطمع فيه، بدأت مرحلة الهجو التي يمكن تمييزها بالبيت التالي.
الــــعَبْــــدُ لَيْسَ لِـــــحُرٍّ صَــــالِحٍ بــــــأخٍ لَـــــوْ أنّـَـــهُ في ثِيَـــــــــابِ الــــحُرّ مَوْلُود
لا تَشْـــتَرِ الـــعَـــبْــــدَ إلاّ وَالــــعَــــصَــــا مَعَهُ إنّ العَبيدَ لأنْجَــاسٌ مَنَـــــاكِــــيـــــــدُ
وفي هذا السياق جاء البيت الذي أخذ منه صاحبنا شطره الثاني وهو كالتالي:
أغايةُ الدِّينِ أن تُحْفوا شواربكـم
يا أمةً ضحكتْ من جهلها الأمم
وهو يتوجه به لشعب مصر-وهو المقصود بالأمة حسب مجموعة من المراجع-حتى يجاريه في هجاءه لكافور والثورة عليه، علما أن حفو شوارب أهل مصر لم يكن مرئيا لديه عندما كان يمدحه بالأمس. ومما يدل على أن قصده من البيت الشعري هو تأليب أهل مصر على كافور بالأساس، هو أن القول بأن الأمم ضحكت من جهلهم غير دقيق، وربما غير صحيح إذا ما علما أن العصر الذي عاش فيه الإخشيدي-القرن العاشر-لم يكن للأمم الأخرى سبق على الأمة الإسلامية لا في مجال العلوم بصفة عامة، ولا في مجال العلم الشرعي (الدين) بصفة خاصة، لأنه هو المستهدف في الشطر الأول من البيت في أغلب الظن. ثم إذا تصورنا جدلا أن المتنبي قد ظفر بما كان يطمع فيه عند كافور، فهل سيكون لهذا البيت الشعري وجود؟ ما أعتقد ذلك، ومن ثم، وأنا لست لا شاعرا ولا ناقدا للشعر، أعتبر أن هذا البيت كان ردة فعل أكثر منه وصفا موضوعيا للواقع الذي عاش فيه المتنبي، لذلك أعتقد أن الاستشهاد بهذا البيت في هذا الوقت بالذات، لا يعدو أن يكون جلدا للذات ومثبطا للهمم في الوقت الذي يرجى التحفيز على الانعتاق من ربق التبعية الثقافية التي لا تزيدها مثل هذه الاستشهادات المغالِطة إلا تعميقا وتجدرا.
والأخطر من الاستشهادين السابقين هو الاستشهاد بمقولة تشرشل التي وصف فيها مجموعة من الشعوب بما يَعتقد أنها أحسن الصفات التي تُميزها، في الوقت الذي وصف فيه العرب بأذم خصلة يمكن أن تُذم بها أمة أو شعب أو عرق أو…فلنحمل هذه المقولة على محمل الجد، ولنحاول أن نناقشها انطلاقا من معطيات التاريخ والواقع معا ونقول:
بالنسبة لموت السياسة بموت الإنجليز، أتساءل أي سياسة هذه التي جعلتهم يعيثون فسادا في القارة الهندية ويستعبدوا سكانها وينهبوا خيراتها، وهي نفسها التي كانت سببا في إبادة السكان الأصليين لأمريكا الشمالية، كما أن الاستعباد للعباد والاستغلال للخيرات كان دائما هو ديدنهم في كل البلاد التي تطأ أقدامهم أرضها دون أي وازع إنساني ولا أخلاقي باعتماد السياسة نفسها.
أما فيما يتعلق بموت السلام بموت الروس، فالسؤال المطروح هو هل كان الروس أحياء أم أمواتا عندما أعلنوا الحرب على أفغانستان في الثمانينات من القرن الماضي، والسؤال لا يزال مطروحا وهم يعلنونها اليوم في سوريا وليبيا وأوكرانيا…
وفيما يخص غنى الأمريكان فأي الأمريكان يقصد؟ فهل يقصد أولئك الذين يمتلكون 32.3% من ثروة البلاد و53.9% من الأسهم الفردية حتى نهاية عام 2021 وهم لا يمثلون سوى نسبة 1%، أم أن الأمر يتعلق بسواد الشعب الأمريكي الذي يعاني من الفقر المدقع.
وماذا عن إيمان الطليان الذين يموت الإيمان بموتهم، ورائحة تحرش رهبان الفاتيكان بالأطفال لا زالت تزكم الأنوف.
أما مسألة الذوق الذي يموت بموت الفرنسيين، فأي ذوق هذا الذي يمكن الافتخار به وهم الذين إلى عهد قريب كانوا يقضون حاجاتهم في الشوارع، وهم الذي يُروى عن ملكهم لويس الرابع عشر، المعروف بـ « ملك الشمس » أنه لم يستحم في حياته إلا مرة واحدة أو مرتين، وكان قصر « فرساي » في عهده أكثر مكان قذر في فرنسا لأن الملك والأمراء والأميرات كانوا يتخلصون من حاجاتهم الخاصة حيثما اتفق داخل دهاليز القصر وتحت سلاليمه وفوق شرفاته وفي حدائقه، وكان يتم ذلك بدون استحياء، حتى شاع بين الفرنسيين مثل عن القذارة كان يقول للإنسان القذر « أنتن من فرساي ». وللتخفيف من الروائح النتنة كان الملك والنبلاء يكثرون من استعمال العطور التي ازدهرت صناعاتها آنذاك. ولولا العرب لبقي الأوروبيون عامة، والفرنسيون خاصة على ما كانوا عليه من قذارة واتساخ، ولا أَدَل على ذلك ما قاله المؤرخ الفرنسي دريبار: « نحن الأوروبيون مدينون للعرب بالحصول على أسباب الرفاهية في حياتنا العامة، فالمسلمون علمونا كيف نحافظ على نظافة أجسادنا، فإنهم كانوا عكس الأوروبيين الذين لا يغيرون ثيابهم إلا بعد أن تتسخ وتفوح منها روائح كريهة، فقد بدأنا نقلدهم في خلع ثيابنا وغسلها، وكان المسلمون يلبسون الملابس النظيفة الزاهية حتى أن بعضهم كان يزينها بالأحجار الكريمة كالزمرد والياقوت والمرجان ».
في الأخير نأتي على مقولة موت الخيانة بموت العرب لنقول لصاحبنا، إذا كانت الخيانة لا تخلو من شعب من شعوب المعمورة، فإنه لا يمكن بحال من الأحوال جعلها مميزة للعرب، ذلك أن من مميزاتهم الأساسية الكرم والعفة بينما الغدر والخيانة مرتبطان بغيرهم من الشعوب والأمم، أليس الإنجليز هم الذين وعدوا الشريف حسين بدولة لجميع عرب المشرق مقابل انتفاضه ضد العثمانيين، ثم بمجرد انتصارهم في الحرب أخلفوا وعدهم له وغدروا به، أليس ساركوزي من أقام خيمة للقذافي قرب قصر الإليزيه لينقلب عليه ويقتله شر قتلة، أليس الأمريكان هم الذين أعطوا الضوء الأخضر لصدام حسين لغزو الكويت والقصة بعد ذلك معروفة، أليست إسرائيل هي من التزمت بمئات الوعود للفلسطينيين وفي كل مرة تخون وتخلف وعدها و…
انطلاقا مما سبق أقول لصاحبنا لو أن هذه الاستشهادات جاءت على لسان عامة الناس لهان الأمر، ولكن أن تأتي على لسان رجل محسوب على الطبقة المثقفة، فهذا أمر غير مقبول مهما كانت التبريرات والأعذار، لأن المفترض في المثقف هو العمل على محاربة كل تلك المقولات والتصورات التي تغذي انبهارنا بالآخر وازدراء ديننا وثقافتنا وتاريخنا، وإحياء كل الجوانب المشرقة التي لها علاقة بشخصيتنا عملا على إعادة الثقة بالنفس والاعتماد عليها للنهوض بمجتمعاتنا إلى ما ترنو إليه من حرية وانعتاق من ربقة الغرب الذي لا يتوانى عن استغلال أية فرصة متاحة للإبقاء على تبعيتنا له، في الوقت الذي أصبح باديا للعيان مستوى الانهيار الذي وصلت إليه ثقافته، قلت بأن هذا هو الذي يُفترض في المثقف وليس العكس، ولنا الإسوة الحسنة في الأستاذ عبد العالي الودغيري الذي دحض بالحجج الدامغة مقولة كاتب ياسين التي قال فيها بأن الفرنسية كانت غنيمة بالنسبة إليه في الوقت الذي كانت فيه وسيلة تطبيع ناعمة مع الفرنكوفونية والثقافة الفرنسية.
الحسن جرودي
Aucun commentaire