Home»Débats»عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم

عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم

1
Shares
PinterestGoogle+
 

بسم الله الرحمن الرحيم

عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم

الحسن جرودي

سوف لن أدخل في الجدال الفلسفي حول الإقرار بالغيب أو إنكاره، لأنطلق من المسلمة التي مفادها أن المؤمن متيقن بأن الإيمان بالغيب ركن من أركان الإيمان.

من هذا المنطلق يتبين أن كل ما يصيب المؤمن مما يحبه أو يكرهه بمنظاره البشري، قد يكون كذلك أو عكسه بمنظار علام الغيوب، مصداقا لقوله تعالى: « وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ » (الآية 216 من سورة البقرة). لذا وجب الاحتراز من إطلاق الأحكام على الأحداث التي يمر بها الإنسان فردا كان أو جماعة، كما هو الشأن بالنسبة للأحكام الصادرة في حق هذا الوباء الذي أصاب العالم كله، ذلك أنه بِغَض النظر عن مسبباته التي تَفرق الناس فيها إلى طوائف وشيعا، نجد أن البعض يعتبره عقابا من الله، والبعض الآخر يعتبره ظاهرة طبيعية، مع عدم الخوض في مفهوم الظاهرة الطبيعية، فيما ترى فئة ثالثة بأنه لم يكن ليقع لولا إذن الله ومشيئته، علما أن تصنيفه إلى غضب أو رحمة منه أو غير ذلك، ليس من اختصاص البشر الذي ينطلق في أحكامه من المعطيات الدنيوية التي تبقى قاصرة مهما توفرت، ليبقى الحكم النهائي من اختصاص الله سبحانه وتعالى الذي ينفرد بالمعطيات الغيبية ويعلم السر وأخفى.

وبما أن الأمر كذلك فالواجب أن نتعاطى مع الواقع بالإيجابية اللازمة لتحويل النقمة إلى نعمة، والغم والهم إلى استبشار والجزع إلى طمأنينة والخوف إلى أمان، ذلك أنه إذا كان الإنسان السَّلبي يرى في الحَجر سجنا من نوع خاص، يجعله يعيش الإجهاد والإرهاق والقلق، مما يدفع به إلى الاجتهاد في ابتكار وسائل قتل الوقت، فإن الإنسان الإيجابي بصفة عامة والمؤمن بصفة خاصة، يَعْتبر هذا الحجر فرصة ومِنحة من الله تعالى لإعادة ترتيب أفكاره، من خلال التدبر في  قدرة الله التي قلبت كل الموازين بين عشية وضحاها، عسى أن يمكنه ذلك من إعادة ترتيب سلم أولوياته، طبقا للحديث النبوي الشريف الذي يقول فيه  » اغتنِمْ خمسًا قبل خمسٍ: شبابَك قبل هِرَمِك، وصِحَّتَك قبل سِقَمِك، وغناك قبل فقرِك، وفراغَك قبل شُغلِك، وحياتَك قبل موتِك » والذي يُلاحظ أن له ارتباط وثيق بالزمن، أي أن كل مرحلة من المراحل الخمس التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم تأخذ وقتا معينا يتعين استثماره إلى أقصى مدى ممكن وفق ما تتيحه معطيات كل مرحلة على حذة، ووفق متطلبات الشريعة السمحة.

 ولعل الوضعية التي وُجد فيها معظم الناس اليوم هي « الفراغ قبل الشغل »، مع العلم أن هذا الفراغ كان موجودا منذ مدة لدى شريحة كبيرة من أفراد المجتمع في صورة شغل مقنع، ذلك أن الارتياد المبالغ فيه للأسواق والمقاهي وعدد من الأماكن التي لا مجال لذكرها لا يمكن إلا أن يكون كذلك، ومن ثم لا بد من العمل على ملء هذا الفراغ بما يفيد المؤمن في عاجله وآجله، استعدادا لمرحلة ما بعد الجائحة، حيث سيكون الشغل لا محالة شاقا ومكثفا ومكلِّفا لا مجال للعودة فيه لتلك العادات السيئة والاستمرار في العبث والاستهتار، لذا فإن الفرصة سانحة للأوْبَةِ إلى الله عز وجل، وذلك بالصلاة والصيام والقيام وتلاوة القرآن والنظر في التفاسير قصد استيعاب معانيه وتيسير تدبره، مع الحرص على قراءة الكتب الجادة لتحصين معرفته بالدين وتاريخ الأمم وثقافاتها بالقدر الذي يقوي مناعته أمام تيارات التغريب والاستلاب، كما أن الفرصة سانحة للجلوس مع أفراد العائلة والتعرف أكثر على اهتماماتهم، ومناقشتهم فيها وفي رؤيتهم للأحداث وللحياة بصفة عامة، بهدف تثمينها وتشجيعها إن كانت صائبة، وتصحيحها بكل اللياقة الممكنة إن هي انزاحت عن الثوابت التي يتعين الالتزام بها من قبل الجميع، والتي من المفروض أن تكون قد حُددت مسبقا إما عَلنا أو ضمنا، وإلا فإن الوقت جد مناسب لتحديدها.

إنها لفرصة ثمينة للإقلاع من جديد على أسس متينة، تنبني على قيم الدين الحنيف، الذي يحث على العمل الجاد وإتقانه، وعلى التحلي بالصدق والصبر والإيثار، ونبذ الخلافات الهامشية والقيل والقال والتنابز بالألقاب، وكل ما من شأنه أن يسمم العلاقات بين أفراد المجتمع، ويتسبب في انعدام الثقة بينهم، وتفشى الأنانية وغياب عقلية الجماعة التي تحصِّن الأفراد ضد كيد الكائدين، مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم « عليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية » مع العلم أن الجماعة المتماسكة من خلال نسج شبكة من العلاقات الاجتماعية السليمة تؤدي إلى تقوية إحساس الأفراد ببعضهم البعض حتى ينطبق عليهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم  » مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ».

ختاما أتمنى أن يكون الحَجر فرصة لنا جميعا لمراجعة حسابتنا وتحديد مواقفنا بدقة تجاه بعضنا البعض، وتجاه الآخر الذي كان العديد منا يعتقد أن له من القوة ما يسمح له بحل كل مشاكلنا مقابل السير وراءه، والائتمار بأوامره، في الوقت الذي أظهر فيه الوباء عورته وأصبح عاجزا حتى عن مساعدة أقرب مقربيه الذين قيل بأنه تجمعهم به اتفاقيات الوحدة !!! كما أتمنى أن لا نُفِّوت الفرصة لنبذ كل القيم السلبية من تواكل وتهاون وعدم الالتزام بالوقت، والتشجيع على الغش، لنعمل في المقابل على تثبيت قيم الجد والإخلاص في العمل والحزم في جعل أبنائنا يحبون العلم ويكِدُّون من أجل التفوق في تحصيله عسى الله أن يأتي بالفتح من عنده على أيديهم، ويخلصنا من التبعية والهوان الذي نعاني منه. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

الحسن جرودي

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée.