نافذة على رمضان : الإعجاز القرآني وشعرية النص القصصي

قصة سيدنا نوح والطوفان نموذجا
الجزء الأول
1- السياق القصصي:
تعتبر قصة نوح عليه السلام قصة مفصلة، فقد ورد ذكرها في سورة نوح المكية ،وترتيبها 71 بعدد آيات 28، ودققت بجزئيات وتفصيلات في عشر سور هي: الأعراف:59-64، ويونس :71-75 ،وهود : 47-49 ،والأنبياء : 76-77 ،والمؤمنون: 23-31،و الفرقان : 37، و الشعراء : 105-122 ، والصافات :79-82 ،والقمر :9-15 ، والذاريات :46 . والعنكبوت :14-15
تعرض القصة محكيا رئيسيا، يتمثل في تكليف الله لسيدنا نوح عليه السلام وهو شيخ الأنبياء ومن أهل العزم من الرسل ، بتبليغ رسالة التوحيد لكل أهل الأرض ، كما يرى القرطبي ،بعد انحراف أحفاد آدم عليه السلام، وتقديسهم لأوليائهم الصالحين ، و سعيه الدؤوب وبكافة صيغ التبليغ لنقل دعوته العجيبة لقومه ،خلال الف سنة إلا خمسين عاما ، وتحذيرهم من وعيده وعقابه .مما ينم عن تجلد وصبر وحلم ورأفة بالقوم ، وإصرار على الإصلاح والإنقاذ . وتقوم تفصيلات القصة في باقي السور، بتلحيمه بمحكيات ثانوية : كرد فعل القوم الرافض للدعوة ،ومحاولة الإقناع وتسفيه الادعاءات ،و السخرية من التحول إلى نجار وصنع الفلك بدون بحر، و استعجال العذاب بعد فقدان الأمل، وتبريره للطوفان والنجاة منه ».
لتكشف البنية المعقدة للقصة المفصلة في سورة نوح ،باعتبارها البنية الإطار لمتن الوقائع ،والتي تتمفصل عنها بنى مؤطرة لسجل لأحداث في باقي السور العشر، عن تعدد التكوينات النصية داخل القصة ،حيث نميز بين البنية الإخبارية ،والبنية الحوارية ،والبنية الحجاجية.
2- القراءة الإيمانية:
تتسم البنية النصية للقصة بتنوع التكوينات، التي تساهم في انفتاح المعنى القرآني، وإحالته على هوامش مفصلة. وتتولى البنية الإخبارية ،إخبار الرسول /ص/ عن تجربة الدعوة العجيبة، التي كلف بتبليغها نوح عليه السلام، الذي اقترن اسمه بالسورة ، إذ تردد ثلاث مرات ليشعر بتخصيص تام للسورة ،لقصته مع قومه .ومؤدى الدعوة : تذكير القوم بدين أبيهم آدم لتوحيد الله وعبادته وحده، دون شريكـ، أووسيط ،ليغفر ذنوبهم ،ويطيل في عمرهم ،فهو الخالق سبحانه ،والمحيي والمميت، ويسبغ عليهم نعمه وأفضاله وآثار رحمته. وقد برع سيدنا نوح بعد هذا النذير زمنا وطريقة، في استمالة عدد قليل منهم، بتليين قلوب لاتلين ، كصخرة المحال وثقب رخام الدوام ، لاحتضان دين التوحيد، فقد سعى دون كلل ولاملل ،خلال أطول مدة في تاريخ الدعوة 950 سنة إلى إقناع قومه ،بركوب أسلوب الترغيب بواسطة الإغراء بالتوبة مقابل المغفرة ، وبالإيمان مقابل المطر والمال والبنين والجنان والمزارع والأنهار وأسلوب الترهيب بالتركيز على الحجج النصية: » من قبل أن يأتيهم عذاب أليم » نوح : 1 : »مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا » نوح : 25 و »قوله : » وقال نوح رب لاتذرعلى الأرض من الكافرين ديارا » نوح : 26 ومحاولة الإقناع بالحجج العقلية ، من خلال التذكير بقدرة الله على الخلق المتدرج للإنسان ، وإنشاء السماوات ذات الطبقات المسقوفة ، المزينة بضوء الشمس المحقق لآية النهار، ونور القمر الصانع لآية الليل ،وتصميم البشر من تراب الأرض الذي ينبتون منه ، ثم يعودون إليه ، بعد ما مهده لهم ليمشوا في مناكبها ، ويأكلوا من رزقها ، ويسيروا في طرقها ،ومسالكها ومعابرها في الليل والنهار، في السر والعلن، تحقيقا لآية التكوين.
أما البنية الحوارية فتعرض على المصطفى /ص/ جدلا عقيما طويلا ، لم يفض إلى هداية سوى نفر قليل من القوم ،بالقياس إلى مدة الدعوة ،وما استعمل فيها من وسائل مختلفة، فيه يقر سيدنا نوح لربه الكريم برفض قومه الاستجابة لدعوته ، واتباعهم للأعيان والأشراف والأثرياء ممن يملكون مقاليد الأمر، ومركز صناعة القرار ،والحل والعقد، في مجتمع طبقي. ولم تزدهم دعوتي إلا عنادا، وتمسكا بديانة الشرك، وعبادة أصنام صنعوها بأيديهم، كود وسواع ويعوق …واحتيالا وتنصلا عن تعهداتهم، فضلوا وأضلوا معهم أقواما وأجيالا، خلال ردح من الزمن .وبعد هذا التقرير المفصل يدعو سيدنا نوح على قومه، ويفوض أمرهم لله ،ويتمنى أن يستأصل شأفتهم ليقتلع جذور الكفر من أعماق الأرض، وينقي الفطرة البشرية من موروث الكفر، الذي صير الخلف على شاكلة السلف .ويرجو من الله إنقاذ أتباعه المؤمنين، وتسليط عذابه على المشككين، والجاحدين لدعوته.
يكشف التناغم بين مكونات النص القصصي، عن عدة حقائق منها :
– أن جوهر الإنسان واحد ،على مر العصور، في التعامل مع فكرة الصراع الوجودي، بين الهداية والضلال، بين العقل الحسي النفعي والوحي، بين الخير والشر.فغالبا ما يفرز فريقين متعارضين: فريق الحوار والحلم والتفهم ،وفريق الجدل العقيم والتعصب، والقسوة والغلظة.
– وهذا الوضع البشري، يستدعي تكثيف التواصل بين السماء والأرض، وبعث الرسل والأنبياء، لتجديد الإيمان بالله وحده.
– ثمن إصلاح الفساد بأنواعه ، العقدي، والاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي… باهض يتطلب الوقت والصبر، ونفسا طويلا ،وتحسين الظن في الخالق والمخلوق، وطاقة للتحمل والتجدد ،بسبب تحجر المناوئين ،وتكلس عقلياتهم، وتصلب مواقفهم، عبر الزمن .
– إن الطبقية تنخر مجتمع الشرك والأعيان والأشراف ،والوحي الكريم قدم لسيدنا نوح عليه السلام العلاج بتفريغ الصراع من محتواه المادي، بين السادة والعبيد ،لأن الأفضلية للأتقى، بعدما رفض إخراج الفئات الدنيا من الأتباع من دائرة الإيمان، لإرضاء الملأ ،وحسم موقفه إزاء المعتنقين، بأنه لايقدم لهم مالا، ولا يتقاضى على دعوته أجرا.
3- القراءة التاريخية:
يضفي قانون التنجيم ،على النص القصصي القرآني، حيوية تاريخية، وحركية روحية ،تبعد عنه صفة الوثيقة ،والفكرة الميتة .وفي هذا الإطار تحقق قصة نوح انكشافا نصيا، وجلالا لولوج المعنى المقاصدي، المحيل على » أن من يخالف أمر الله، يستعجل له العذاب في الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد. وأن تطهير الأرض من المفسدين آية للأقوام اللاحقة ،ونعمة مضافة توفر عيشا أرغد ، يتحقق بوسيلة العقاب المستعملة. فمثلا الطوفان نظرا لتفجر الماء من باطن الأرض، ونزوله عذبا من السماء، أحدث ثورة جغرافية، في شبه الجزيرة العربية ،والمناطق المجاورة التي شملها الطوفان ،مدة أربعين يوما. حيث تغير سطح الأرض، ووقعت انزلاقات للتربة ،وتجمعات لطمي السيول حول الشواطئ، محدثة رصيفا ممهدا، لانفصال أجزاء الأرض وتكون القارات، على سبيل الافتراض. ثم كان الأمر الإلهي للأرض لتبتلع ماعليها من ماء ،ومواد عضوية ، فيتحول باطنها إلى خزانات للمياه، وآبارا لاتنضب للبترول، تنعم بهذه الثروات وغيرها، الأمم اللاحقة في منطقة الطوفان خاصة . كما تقدم القصة إشارة تاريخية لبداية تأسيس صناعة السفن ،التي حولت أنظار البشر إلى الجزء المائي من الكوكب، وجعلتهم ينفتحون على عالم الأنهار والبحار والمحيطات، بعدما كان نشاطهم محصورا في اليابسة ،من خلال صناعة سيدنا نوح عليه السلام بوحي من الله جل وعلا لأول سفينة، لنجاة النوع البشري والحيواني، سماها القرآن فلكا لشكلها المستدير، وارتفاعها عن الأرض ،وتدبب مقدمتها لتقشر الماء،
أو فلكا مشحونا يحمل زوجا من الحيوانات ،والطيور، والأتباع من المؤمنين ،فكانت لها غرف، ومسالك ،وثلاث طبقات، انطلقت في اليوم الموعود المؤشر عليه « بفار التنور » ويعني عند الجوهري نوعا من الكوانين التي يخبز فيها، وحسب الإمام علي كرم الله وجهه و ابن عباس ،هو نبوع الماء من تنور الأرض، أي سطحها ووجهها. وقيل هو اسم جبل، شهد بركانا في اليوم الرهيب. وصفت سفينة نوح عليه السلام بالجارية ، أي التي تمخر الماء ، وبذات ألواح ودسر،من الدساروهو في لسان العرب : « خيط ليف يشد به ألواحها من خشب الشجر » إذ لم يسبق للبشر من قبل نبي الله داوود ،أن صنعوا المسامير على الأرجح. وصنعها كان من إلهام الله ووحي منه لنبيه، لتكون آية للعالمين على عقاب المكذبين ،وعلى آثار الصنعة الإلهية . والعجيب أن لفظ السفينة ، استعملت مرة واحدة في القرآن في سورة العنكبوت، التي تكشف حقائق مثيرة تدخل في الإعجاز العددي، يكشف عنه العالم اليمني عارف صلاح التوي، انطلاقا من معطيات رقمية يستهلها برقم 950 كإطار زمني لدعوة سيدنا نوح، و الذي يتطابق مع مجموع حروف السورة، ثم يسترسل في عرض معطيات عددية من سورة العنكبوت، التي يحيل اسمها على الشكل الهندسي المعروف ،المشابه لخطوط الطول ودوائر العرض في الكرة الأرضية ،حيث اكتشف أن رقم الآية : « ولقد تركناها آية فهل من مدكر. » القمر15 يتطابق مع رقم الاية : »فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين » العنكبوت : 15. ثم يضيف إليه أرقاما تخص
ترتيب السورة ،وعدد الكلمات ،وعدد الحروف، ليكتشف الحقيقة المذهلة نفس الأرقام التي تحدد الآيتين الكريمتين ، تدل بشكل متجانس على إحداثيات خط الطول والعرض ،التي تنطبق تماما بعد المسح الجيولوجي الثلاثي الأبعاد ،مع منطقة وادي حضرموت، إذ تتجانس أوصافه تماما مع الوصف القرآني. يقول تعالى : »والله جعل لكم الأرض بساطا لتسلكوا منها سبلا فجاجا » :نوح :20 .مما يرجح فرضية كونه ،هو موقع الطوفان، ومكان عيش قوم نوح عليه السلام.
كما تحمل القصة إشارة علمية قوية ،لما سيسمى فيما بعد بالثورة الجينية ،عندما يخبر الوحي سيدنا نوحا عليه السلام بأن نور الإيمان قد انقطع، وأنه قد آمن بك غير عدد قليل. يقول تعالى : »وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون. » هود :36
وتقدم الآية:27 من سورة نوح «
« إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا » الدليل القاطع على إعجاز علمي ، يعرض فيها الله حقيقة لا غبار عليها، تتعلق بقوم نوح الذين لن يلدوا إلا فجارا كافرين كآبائهم وأجدادهم ، انطلاقا من دور الصمغيات وعوامل الوراثة؟ إنه كلام الله الذي لايأتيه الباطل المصدق لرسالة رسله عليهم السلام حيث التطابق التام بين الآيات النصية وآيات الكون والآفاق.





Aucun commentaire