من الحــــولــيـــات إلى شعر اللحظـــات

عُرفت القصيدة الجاهلية بأنها قصيدة شفوية يتناقلها الرواة ويلقونها في أسواق الشعر فيتلقفها
المتلقي ، ويتذوق حلاوتها ، ويصبح راوية لها يلقيها بدوره في المجالس الأدبية المختلفة الرسمية منها وغير الرسمية ،وللإلقاء طقوسه المختلفة ، إما بواسطة الشاعر نفسه إن كان يتقن فن الإلقاء وإما بواسطة راوية تتوفر فيه الشروط المطلوبة في فن الإلقاء وبعد مرحلة التدوين عرفت القصيدة تطورا وتحولا إذ أصبح المتلقي يلعب دور الراوية ، فيقرأ القصيدة الموثقة بنفسه ، وقد يصل إلى درجة الراوي في القراءة وقد لاينجح لأسباب عديدة ومتنوعة ، وبفضل الكتابة أتيح للقارىء التعامل مع القصيدة مرات ومرات ، وبعد ظهور الدواوين أصبح ممكنا التعرف إلى الشاعر وفنه ، ومقارنته بشعراء آخرين والحكم على أشعاره ، وكان من نتائج هذا التطور أن دونت فقط القصائد الراقية، أما القصائد المهلهلة بقيت عند أصحابها ولم تنل من الشهرة مانالته القصيدة النموذج ، كما أن التدوين شمل الشعر الذي كان يغزو الأسواق وما دون ذلك لم يعتد به وأصبح هشيما تذروه الرياح، أما اليوم فالطفرة السريعة التي تشهدها الساحة العربية في مجال المعلوميات أدت بالقصيدة إلى تحولات لم تشهدها من قبل حيث دخلت مرحلة الأدب التفاعلي الذي فرضه العصر بواسطة وسائل الأتصال المتطورة مما انعكس على الإبداع شكلا ومضمونا ، إن المقارنة البسيطة بين الشعر القديم والشعر المعاصر من حيث الكم واضحة وجلية للعيان ، بسبب وجود أشعار مختلفة المستويات غث وسمين ومهلهل وجيد ماكانت قديما تصل إلى المتلقي بالشكل الذي نراه اليوم ، فإذا كان الشاعر الجاهلي يرغب في قول الشعر فإنه يحسب ليوم الإلقاء ألف حساب ، ويسهر الليالي ، ويعاني معاناة لايتصورها أحد من أجل مفردة أو مقدمة شحت بها القريحة ، فإذا استوت القصيدة وجد أن السنة قد انتهت وحلت محلها سنة أخرى جديدة ، لذلك كانت تلك الأشعار تسمى بالحوليات ، وهذا لايعني أنه لم يكن هناك شعراء يبدعون في ظرف وجيز ، لأن هذا الشعر لم يصل إلينا ، أما اليوم وبفضل وسائل الأتصال الحديثة أصبحنا أمام كم هائل من المنتوج الشعري المكتوب في مقهى أو قطار أو أثناء زيارة أماكن سياحة … إن الناقد اليوم أصبح حائرا أمام هذا الفيضان الشعري ، في حلته العربية
والغربية ، وفي تفاعل الشاعر مع المتلقي الذي أصبح يشاركه في بناء القصيدة بفضل التواصل وكأن الشعر أصبح بهذا الصنيع وسيلة لتزجية الأوقات وملء الفراغ كما هو الحال بالنسبة لشعر القبعة حيث يلقى بمجموعة من الحروف داخل القبعة ، حيث يتم إخراج بعضها واستغلالها في كتابة الشعر.
إن الشعر المغيب منذ زمان أصبح يكتسح الساحة ، ويدفع بالقصيدة النموذج خارج الأسوار ، ولا بأس أن تصبح القصيدة المكتملة وزنا وقافية وشكلا ومضمونا ، من الماضي بحجة أن الشعر الراقي كان مصدرا ومرجعا للنقاد والأدباء في عصور خلت، أما اليوم فالمرجعية تعود إلى ما يزخر به السوق حاليا من الكلام الموزون وغير الموزون في حلته الجديدة وفي شكله الحالي بالإضافة إلى الزجل فعلى المؤسسات الثقافية التدخل وإنشاء مواقع رسمية أو جامعية تصون ذاكرة الأمة وتحمي الشعر والشعراء المبدعين ، لما لرسالة الشعر من دور في الحفاظ على هويتنا الحضارية.والرقي بالذوق الفني للمجتمع إلى أعلى الدرجات .
والشاعر واع بما يحصل في المسيرة الشعرية من انهيارعفوي أو متعمد، لذلك نجد الشعراء يشيرون في أشعارهم إلى هذه المأساة ومن بينهم شاعر التيار الإسلامي محمد السعدي ،يقول في ديوانه الصوار:
هل لي أن أهمس في أذنيك قبيل خسوف الأقمار
… كفر الشعراء فعزي دفتر أشعاري
واختاري غب الأطوار
ملكوت الأخيار
أو قبوا تحت العار
غيري يزهو بين الأوتار
وأنا أطوي آلاف الأفكار
أقضي دنياي على وجع الأشطار
وفي ديوانه أنباء الموجة العظمى يقول في قصيدة الإسراء:
وشعري نزيف الدماء.ص20 فأنت تلاحظ أن الشاعر يعترف بمعاناته أثناء كتابة القصيدة لأتها مسؤولية جسيمة ولأن القارئ ينتظر من الشاعر شعرا تام الأركان شكلا ومضمونا ،
إنها مهمة صعبة ،وشاقة فالشعراء الفطاحل كالمتنبي كانوا يدركون ما لصناعة الشعر من إجهاد فكري وروحي ، ولذلك بقي الشعر خالدا لم يستطع سيف الزمان أن ينال منه يقول:
أنام ملء جفوني عن شواردها ****ويسهر الخلق جراها ويختصم
فالشعر عند محمد السعدي غوص في أعماق الوجدان ، وتفكير عميق وتأمل تعبدي وثورة على القيم الفاسدة:
فنحن نقـــود ملـــحمة البقاء*** وتعرفـــنا لآلئ في الغـــشاء
ونحن ذووا الوجاهة والجلاء*** نحارب في الحياة بلا انحناء
والمتصفح لديوان الشهيد ، يجد أن الشاعر يصرخ بأعلى صوته قائلا:
سأعلن خاتمتي وانقراضي ص49
عبثا أصيح وحولي الأشباح
اقرأ كتابك يا أخي
احرق قصيدك يا أخي
تنهار بيروت الشهيدة والعروبة والدمى
والشعر أنهار
غير طريقك يا أخي
دعوة إلى التغيير نادى بها الشاعر تغيير الأوضاع في الفن والحياة بعدما أصبح السواد لون الحياة يقول:
( وأسري بجرحي وشعري
إلى سدرة المرتضى ومقام الجهاد)
ويقول في موضع آخر من نفس الديوان:
لو قطعت الشرايين لأكتب بالدم…فالقلب
شرده الشعر…
إن الشاعر يحس بالقهر وسط مجتمع يعبث بالقيم الأصيلة وينقاد وراء الشهوات والتيارات الغربية الجارفة لذلك كانت دواوين الشاعر كلها حريق في الحشا وصرخة نابعة من الأعماق ودعوة إلى التمسك بحبل الله وسنة نبيه دعوة يشوبها التمرد والسخط والغضب على المجتمع المنقاد إلى الدرك الأسفل من الرذائل ، وكل ذلك بأسلوب يرقى إلى كبار الشعراء الذين منحوا القصيدة جمالا أخاذا وحلة رائعة مزخرفة بما تجودبه قرائحهم من ألوان بلاغية لاينضب معينها
إنه شعر المعاناة شعر الحزن شعر العاطفة الصادقة سواء كانت القصيدة عمودية أم غير عمودية فاقرأ هذه القصيدة في الرثاء المأخوذة من ديوان الشاعر ( أنباء الموجة العظمى) حينئذ
تتأكد أن الشعر المكتوب بالدم شعر باق مابقي الإنسان على وجه البسيطة:
قضى الباري
وفي الله العزاء على مدى الزمن
أيا أبت رحلت وفي الحشا شوق إليك
يجيش بالحَــــزَن
لئن غادرتني فلدى الفؤاد شهادة المحن
وأظلمت الثرى في مقلتي حتى غدوت
أسير في الظلـَـم
بلا عين ولا أذن
…………
سجا الليل الذي أسلمت فيه الروح
للقدوس ذي المنن
لك الرحمات ما سطعت نجوم في السماء
وما ارعوى عدل عن الفتن
دعائي دائم وتحيتي…. وهداي ما تهجد مقرئ
في هدأة الدمن….
…….
أيا أبت سلام من رحيم غافر الوهَــن
دعوت الله في سري وفي العلن
دعوت الله أن يجزيك بالحَسن
فإني أشهد القيوم أنك صاحب الكرم
وخلاصة القول إن المتصفح لدواوين محمد السعدي يتمتع في حدائقه بعبق عطرها كما أنه
سيتعرف إلى شاعر مناضل بالكلمة الحرة الأمينة ، صادق مع نفسه ، محب لعقيدته مدافع عنها
مؤمن بالقيم الجمالية في فن القول يكره سفساف القريض والجعجعة
والجعجعة بلاطحين.




Aucun commentaire