الإنسان الحر مقيد بالحرية ؟

سوف نبدأ حديثنا بافتراض ان الإنسان يتمتع بحرية كاملة في أخذ قراراته
واختياراته الشخصية، وسنلاحظ أن تلك الرغبات التي هي انعكاس للقرارات الشخصية هي بالضبط
ما يتحكم بهذا الإنسان الذي يفترض به أن يكون حرا، بمعنى صريح، فإن قولنا بأن
الإنسان حر هو كقولنا بأنه إنسان مقيد بالحرية .
إذن مادام هناك قيد يتحكم بالإنسان الذي نتعامل معه – الإنسان الحر – فإنه
ليس حراً، لأن الحرية التي افترضنا وجودها تعني عدم الخضوع لأي شيء، إذن ما الحرية
الحقيقية ؟ هل هي موجودة على أساس نسبي أو مطلق ؟
لقد تحدث أحد الفلاسفة عن الحرية معتبراً إياها الأصل والأساس التي تنبى
عليه كل الأنشطة الإجتماعية والحياة الإنسانية على وجه الخصوص، لكن دون إهمال
الشروط التي تمارس داخلها هذه الحرية، بمعنى ان نتقبل تلك الشروط ثم نجعل منها
عامل انطلاق وقوة، لان الحرية لا تتقدم إلا بوجود الحواجز والتضحية. وبما أنه ليس
كل شيء في الوجود ممكنا، فإنها هناك شيئا يسمى المستحيل، وبالتالي هناك أيضا رغبة
في تحدي المستحيل، مما يعني أن قيمة الحرية الحقيقية تكمن في كونها موجهة، أي
خاضعة لشروط تحكمها. لكن ما محل الإبداع من كل هذا ؟
إن الإبداع من وجهة نظري هو مجموع الأنشطة والأعمال الفكرية أو المادية
التي يمكن لإنسان أن ينتجها، شرط ان تكون نابعة من وعي داخلي بالحرية، إضافة إلى
أن مصدرها يجب ان يكون هو ذات الفرد ووعيه وتفكيره الخاص.
إنني أسمي فكرة أنتجتها إبداعاً شخصياً لأنها صادرة عن ذاتي الواعية،
ولأنها تعبر عن شيء ما قد يكون مختلفا أو مشابها لما عبر عنه آخرون، وأسمي لوحة
فنية أرسمها بريشتي الخاصة إبداعاً، لأني رسمتها عن ثقة كاملة بأنها تعبر عما أريد
إيصاله للآخر، وأيضا أسمي معزوفة موسيقية أعزفها إبداعاً، لأنها بالنسبة لي أكثر
من موسيقى قد تكون جميلة وقد لا تكون بالنسبة للآخر، لأنه لا يهمني الإنطباع الذي
ستخلفه لدى الآخر ما دمت أملك قناعة ذاتية بأنها هي نفسها المعزوفة التي تعبر عن
حالتي النفسية لحظتئذٍ، وتعبر عن شيء ما بداخلي يريد ان ينفجر بأية طريقة.
هكذا إذن يكون الإبداع ميزة خاصة يملك أي شخص قابلية إدراكها، لكنها فئة
نادرة تلك التي تستطيع الإيمان بأن إبداعاتها قد تكون إحدى الخطوات الأساسية نحو
النجاح. لأن المبدعين وحدهم أنتجوا العالم الذي نعيشه الآن، أقصد العالم المتحضر
والعلم المتطور بعيداً عن كل نظرة تشاؤمية.
لكن الإبداع لا يمكن أن تنتجه مجتمعات أو أفراد محرومون من الحرية، فلكي
تبدع عليك أولا أن تشعر بأنك إنسان حر، وبأن أحداً لن يستطيع تقييدك باغلال تمنعك
من فعل ما تريد، فالإنسان طاقات متجددة باستمرار، هذا الجسد الذي نراه من الخارج
مجرد هيكل يخفي بداخله أسراراً وعجائب أهمها الفكر والروح. فلكي نفهم بعضنا البعض
علينا أولاً أن نشعر بتلك الحرية التي نحظى بها أمام الآخرين، ثم بعد ذلك سنتمكن
من حبهم، وهذا ما سيجعلنا نفهمهم أكثر فأكثر..
إذن، الإبداع يستلزم بالضرورة أرضية تسمى الحرية، فبدون حرية لا يمكن أن
نعبر بوضوح عما نرغب به، وبالتالي لن يفهم الآخر أننا نريد أن نعبر عن شيء محدد،
مما يخلق حاجزاً أمام كل إمكانية للحوار البناء، سواء عن طريق الكتابة أو الرسم أو
الموسيقى…إلخ.
وأخيراًـ يمكننا القول إن الإنسان المبدع هو بالضرورة إنسان حر، أي أننا
إذا أردنا البحث عن الحرية، فلن نذهب بعيداً جدا، كل ما علينا فعله هو البحث عنها
في إبداعات الآخرين، هناك حيث تتجلى الحرية في أبهى صورها، بعيدا عن جدران وأسقف
المنازل، وأبعد بكثير عن اكتظاظ المدينة والفوضى العارمة في أسواقها، لأن الحرية
لا توجد هناك حيث لا أحد يهتم لها، إنها في الطبيعة موطن الإنسان الأول الذي أبدع
حينما قاد الحياة القديمة نحو التطور الذي نراه الآن باعيننا، وتلك هي الحرية التي
نطمح إلى العودة إليها، حيث كان الإنسان الأول صديق الشمس والقمر والنجوم المضيئة
في السماء، ورفيق الأنهار والوديان والجبال والحيوانات. فإذا كنت ترغب في الشعور
بالحرية، فلترحل بعيداً عن مكانك الذي اعتدت المكوث فيه، أبعد بكثر عن صخب الحياة الإجتماعية
الآسرة، هناك حيث ولدت الحرية وحيث ستموت في يوم ما، لكي تبدأ حرية من نوع آخر،
فلترحل إذن إلى الطبيعة موطنك الأصلي، وكن متأكداُ من أن الحرية ستكون هناك ..
بانتظارك .




3 Comments
أهنئك على هذا المقال، الذي إن دل فإنما يدل على قلم يافع سلس الأسلوب، و بسيط الأفكار، و قوي المعاني..في مقالك هذا حاولت الربط بين الحرية و الحتمية من جهة، و بين الحرية و الإبداع من جهة أخرى…ما فهمته من الجانب الأول من مقالك، أن الإنسان لا يكون حرا إلا إذا تأتت له ميزة العقل، بمعنى أن الذي يقيد الحرية إنما العقل، على اعتبار أن الإنسان تحكمه مجموعة من الشروط و الضوابط و القوانين التي لا يجيز لنفسه أن يتعداها، كما لا يجوز له أن يتخطاها، و لنا في ذلك كمثال نظرية العقد الإجتماعي التي بموجبها تم الانتقال من حالة الطبيعة إلى حالة الثقافة، أو من حالة التمتع بحق طبيعي كامل، يبيح للإنسان فعل كل شيء يحلو له، إلى حالة تقييد هذا الحق نحو حق وضعي يتيح للناس كافة العيش بسلام و طمأنينة دونما أن تتجاوز حدود تمتع البعض بحقه حدود تمتع البعض الآخر بحقهم، و هكذا فقد كان الاتفاق بين الناس على أساس تعاقد اجتماعي يحتكم فيه الكل لسلطة العقل، و بالتالي يمكننا القول أن الإنسان العاقل هو بالضرورة إنسان حر، و الإنسان الحر هو بالضرورة إنسان عاقل، و من ثمة، إذا سمحت لي أن أغير عنوان مقالك من الإنسان الحر مقيد بالحرية نحو الإنسان الحر مقيد بالإبداع. أما في الجانب الثاني، فالإبداع هو نتيجة للحرية، بمعنى أن فعل الإبداع هو ناتج عن فعل الحرية، و بالتالي فقد يستقيم تعريف الحرية من خلال الإبداع، على اعتبار أن الإبداع هو في نهاية المطاف، إختيار إنساني، فكما يقول ابن باجة في كتابه تدبير المتوحد : »…فكل فعل إنساني هو فعل باختيار. و أعني بالاختيار الإرادة الكائنة عن روية.. »، و هكذا فالحديث عن مسألة الحرية في علاقتها بالإبداع هو حديث عن الحرية في علاقتها بالاختيار و الفعل و الإرادة، و الحديث عن الحرية في علاقتها بالحتمية هو حديث عن الحرية في علاقتها بالضرورة و القانون و العقل، و من ثمة فمسألة الحرية هي من المسائل التي تتشابك فيها جل المفاهيم المتعلقة بالإنسان، فالحديث عنها يستدعي الحديث عن الإنسان كذات و كأنا، الحديث عن الإنسان كآخر و كغير، الحديث عن الإنسان ككائن عاقل و مفكر، الحديث عن الحق في علاقته بالقانون ، الحديث عن العدالة في علاقتها بالمساواة و الإنصاف، و هكذا دواليك …و أخيرا أهنئك مرة أخرى على هذا المقال الجميل، و أتمنى أن تواصلي السير على الكتابة، حتى لا تحرمينا من قلمك الشقي…
oui iman c’est vrai tbark lah 3lik ntmana lik tawfi9 nchalah
أسلوب بسيط ومتميز في الكتابة، أفكار واضحة ومنظمة. أنت مشروع كاتبة ناجحة. إستمري والله المعين.