Home»International»انتفاضة تونس الخضراء ورسالة الشابي الخالدة

انتفاضة تونس الخضراء ورسالة الشابي الخالدة

0
Shares
PinterestGoogle+

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وصحبه أجمعين

انتفاضة تونس الخضراء ورسالة الشابي الخالدة
بقلم: عبد المجيد بنمسعود
لقد كانت انتفاضة تونس الخضراء الشتوية حدثا رائعا بجميع المقاييس، كانت غيثا وصيبا نافعا سيخرج ريعه بعد حين بإذن الله، ، فهاهو ذا ينزل صافيا مدرارا محملا بعناصر الخصب والنماء، بعد أن تشققت الشفاه، وغارت العيون، وجرت المآقي بالدمع الهتون، ها هو ذا ينزل بعد مخاض عسير، وجدب عز فيه الزرع وجف الضرع، ها هي ذي الأرض تهتز وتربو، وقد التقت الدماء، وحبات السماء، على أمر قد قدر، إنها تونس البهيجة الخضراء، تبعث من جديد من بين ركام القهر ، وبين يديها نخل وزيتون ورمان، وبساتين شاسعة فيحاء.
وهل تخلف تونس الخضراء موعدها مع التاريخ، وهي الأبية الشماء، التي ماكانت لتهدر شحنات الغضب الهادر الوضاء، وهي الأصيلة العريقة النسب، التي سقيت بماء الزيتونة المبارك الميمون، فانبثق من بين عروقها وبين ثنايا أغصانها الغناء، إيمانا لا ينضب له معين، ويقينا في الله لا يلين.

ها هي ذي سليلة بن نافع ترفع هامتها في السماء، بعد أن كنست من أفيائها رموز الشؤم ،أولي الغدر والإجرام، من باعوا أنفسهم للشيطان، وراحوا يسومون الأحرار بسياط الظلم والطغيان. هاهي ذي تونس البهيجة الخضراء تربح الرهان، وتقدم ألف برهان وبرهان، على أن أباة الشعوب تتأبى على الموت والاندثار، ولئن خمدت جذوتها برهة من الزمان، فلا بد لها من نهوض من تحت الرماد، لأخذ الثأر، ومعانقة الانتصار، تلك هي سنة العزيز الجبار، التي تسري في الكون والتاريخ سريان الدماء الطاهرة الفوارة في عروق الأشاوس الأحرار.

لا يغرن قوى الاستكبار أن يصمت البركان، فوراء الصمت صوت هائل عظيم، وفي الأعماق تفاعل لحمم اللظى التي لا يخبو لها استعار، ففي لحظة من ليل أو نهار، ينهض البركان، وترفع للحق عماد وأركان.
كم كانت مريعة مشاهد البغي وهي تهصر أغصانك ياخضراء، وتطأ ثمارك اليانعة بأحذية البغي والعدوان، ولكن إن هي إلا جولة في ميدان التلاحم والنزال، حتى يسفر الصبح للعيان، وتينع آلاف بل ملايين الأغصان، وعلى كل غصن منها عصفور يشدو بأغاني الحب والحياة، وكف وضيئة تحمل صحائف القرآن.
وكم كانت رائعة مشاهد الالتحام بين الحشد الشعبي الهادر المقدام، متوجا بإكليل العزة والفخار، وبين كتائب الجيش المبارك التي أبت إلا أن تعصم أيديها الطاهرة من أن تتلطخ بدماء الشرفاء الأبرار، وأن تتلفع بسربال النذالة والعار، ما أروعك أيها الجندي الباسل، وأنت تعطي أروع مثال، في معانقة المظلومين الثائرين لكرامتهم المثلومة، وأرواحهم المكلومة، فتضع يدك النقية في أيدي الجماهير الأبية، وتنتصب ببزتك الخضراء البهية وسط الإعصار، مثبتا للعالم بهمة وثبات، أن رسالة الجيش أسمى من أن تمرغ في أحضان الفراعنة الأقذار، إنه درع الشعب التي تذود عن حمى الشعب كل أذى وسوء، وتشكل طليعته المباركة في صنع الحياة، وحماية أطرافها من المنغصات والأكدار. فلو لم تثبت رجولتك وشهامتك برفضك تصويب سلاحك إلى صدور الشعب المقهور، لسالت الدماء أنهارا، ولبؤت بالخسران، ولكن موقفك الرائد قد انبثق من ينبوع العقل والحكمة، فكنت فارس الميدان، وكتبت اسمك في سجل الخلود، وبثثت صوتك في سمع الزمان.
وكم كنت بائسا منكودا مدحورا يا حاكم السوء، وأنت تذيع الخطاب تلو الخطاب، وقد أخطأتك الحكمة والبيان، وأنى للبيان أن يسعف الخائن الجبان؟ وبدأت تتنازل من خطاب لخطاب، إلى أن انهارت فرائصك، ولم يجدك الاستجداء، لأن ربع قرن من التمادي في الفساد صنفك في خانة عتاة المجرمين بامتياز، الذين لا عهد لهم ولا ذمة، ولذت أخيرا بالفرار تحت جنح الظلام كما يفعل اللصوص، حاملا معك أوزارا بوزن الجبال، وبؤت بالخزي المبين، ولولا نفاسة معدن تونس الخضراء، لتركتها قاعا صفصفا وخرابا بلقعا، ولكن أثبتت هبة الشعب النبيل نبل محتده وعراقة أصله، وقدرته على حفظ الميراث مهما جلت الخطوب، ولخسة معدنك وصغر نفسك، أوعزت لفلول الكلاب المسعورة التي مردت على النهش والافتراس، أن تمارس العض إلى آخر رمق، إمعانا في الفساد والانتقام.
ولكم كانت بشعة تلك الخدعة الكبرى التي نسج خيوطها فراعنة الغرب الماكر، والتي خيلت للمغفلين أن تونس في عهدك المنحوس كانت واحة خضراء، تزدهي بألوان التقدم والرخاء، وأنها لذلك جديرة بالمحاكاة والاحتذاء، ولم يكن ذلك الوسام الكاذب على صدرك المنخور إلا ثمنا زائفا ومقابلا وسخا لما تطوعت به من تطبيق لمخطط تجفيف منابع الدين في بلد الزيتونة وأرض القيروان، وطمس لروحه وقيمه في نفوس أهلنا في تونس الأبية، مقتفيا في ذلك خطى سلفك المفتون، الذي أزحته بموجب لعبة الأمم التي تصطاد الأغبياء الأشقياء وتوكل إليهم القيام بأبشع الأدوار في حق شعوبهم، ومضيفا إليه من الحماقات وألوان الفجور والفساد ما جعلت عيون الغرب وآل صهيون، تقر بك وتلمع صورتك وتحسن رتبتك في سلم التنمية العالمي، رغم أنف الواقع الذي تزكم روائحه الأنوف،ورغم مر المعاناة التي تجرع علقمها الشعب المغبون.
سيذكر التاريخ من فصول هذا التحول الاجتماعي الحاسم وهذا المنعطف الحضاري الكبير، أن عربة صغيرة ذات ألواح ودسر، تدفع باليد، يملكها مجاز عاطل، كانت وراء الغضبة الشعبية العارمة التي طوحت بواحد من أبشع الحكام المستبدين في الوطن العربي في العصر الحديث، بلغ حدا لا مزيد عليه من استخفاف قومه وتسلطه عليهم بغير حق، ومن استهتاره بحقوقهم وأقدارهم، وقع ذلك عندما طفح الكيل بصاحب العربة المهضوم، وأهين في كرامته ومس في قوت عياله، فلم يشعر إلا والنار تلهب جسده بعد أن ألهبت نار الغضب دمه وفؤاده، فكان أن امتدت ألسنة اللهب لتحرق الاخضر واليابس، وتقوض دعائم نظام منكود بلغ الحد في الفجور وانتهاك الأعراض،

فاللهم اشمل بغفرانك ورحمتك محمدا البوعزيزي الذي كان جسمه المكلوم وقودا في محرقة الطاغية الجبار وهو لا يدري، وشرارة الانطلاق في مسيرة التحرر الكبرى التي لن يهدأ لها أوار إلا وقد تحررت أوطان الأمة المستباحة كافة، واستنقذت مقدساتها من براثن الأعداء، وفي مقدمتها القدس الشريف بمسجده الأقصى المبارك، وسائر أرض فلسطين، مهد الرسل والأنبياء، عليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام.
وسيذكر التاريخ أن الشاعر العبقري الخالد، أبا القاسم الشابي رحمه الله كان حاضرا بثقله الكبير، في انتفاضة شعب أراد الحياة صافية مبرأة من نكد الطغاة، مضمخة بعطور المحبة والوئام، مسيجة بسياج العدالة والسلام، مشحونة بقيم الحق والخير والجمال، كان صوته النافذ المبهر يجلجل في الآفاق، ويجوب المدن والمداشر والقرى، وتتجاوب معه الجبال والبحار، والسهول والآكام، ينثر الورود على رفات الشهداء، ويبشر بالنصر القريب، وبالتحرر والانعتاق:
ولا بد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر
ومن لم يحب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر
كذلك قالت لي الكائنات وحدثني روحها المستتر
لقد كان يوم رحيل الطاغية يوما أغر في حياة شعب تونس الخضراء التي استعادت خضرتها بدماء الشهداء وتضحيات المقهورين، وفي حياة الأمة المسلمة، وإن هذا المكسب لأمانة غالية ينبغي أن تصان من عبث العابثين وفلول المأجورين والمتسللين. تلك كانت البداية في طريق مفروش بالأشواك محفوف بالمخاطر والتحديات، وإنها لأمانة عظمى على كاهل الشرفاء الأتقياء، أن يواصلوا السرى، فعند الصباح يحمد القوم السرى.

وجدة في 17 يناير2011

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *