دروس من ركن الحج: المساواة بين الخلق والتذكير بالحشر

مع بزوغ هلال ذي الحجة، يلتهب شوق المسلم والمسلمة إلى زيارة بيت الله الحرام والوقوف بعرفات، ويتمنى أن يكتبه الله من حجاج بيته وزوار المشاعر المقدسة في منى وعرفات ومزدلفة، ويحدوه أمل كبير في أن يغفر الله له مع هؤلاء الذين يُشهد الله ملائكته أنه قد غفر لهم، وللذين استغفروا لهم، وعادوا من أداء مناسك الفريضة كيوم ولدتهم أمهاتهم بلا ذنب، «من حج فلم يرفث ولم يفسق، عاد من ذنوبه كيوم ولدته أمه».
وفي فريضة الحج دروس وعبر وعظات، لو تأملها المسلم لوجد فيها زاداً لمسيرته في الحياة، ونبراساً يضيء له طريق العمل للإسلام، وليت إخواننا وأخواتنا الحجاج، زوّار بيت الله وقاصدي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقفون مع أنفسهم طوال أيام المناسك وقبلها وبعدها، خاصة في أيام التشريق بمنى لمدارسة تلك الدروس، والتأمل فيها، والاستفادة منها.
1
– مظهر وحدة أمة الإسلام
لقد حرص الإسلام على إعلاء قيمة وحدة المسلمين، وارتباطهم ببعضهم البعض في كل الصور، لذلك ربط معظم العبادات بذلك الرباط الذي يجمع المسلمين معاً، فهم يتجهون إلى قبلة واحدة مهما تعددت أماكن إقامتهم، وهي الكعبة المشرفة بمكة المكرمة، وهم يعبدون إلهاً واحداً، وينبذون غيره من الأنداد والشركاء، ويشهدون له بالوحدانية كل يومٍ عدة مرات، وهم يصومون شهراً واحداً في مظهر بديع، ولكنهم في الحج يجتمعون معاً في يوم واحد على صعيد واحد (عرفات)، يهتفون بهتاف واحد مهما تعددت اللغات واللهجات، يقصدون ربّاً واحداً، يطلبون طلباً مشتركاً هو مغفرة الذنوب ورضوانه قبل أي مطالب أخرى، ويعيشون معاً في صحراء منى، ويرجمون نصب الشيطان معاً لإظهار العداوة له والبراءة منه.
هذا كله عمل مشترك لملايين المسلمين باختلاف ألوانهم وأشكالهم وتعدد لغاتهم ولهجاتهم وتنوع طبقاتهم وثرواتهم وهمومهم، يجسّد معنى وحدة أمة الإسلام، وهو أعلى أنواع الدروس أثراً في النفوس، فهل استفاد المسلمون من فريضة الحج لاستعادة هذه الوحدة على أرض الواقع؟
إن النفس لتحزن وإن العين لتدمع على تفرّق المسلمين وتشرذمهم وانقسامهم، رغم تكرار ذلك الدرس عاماً بعد عام، ويزداد التفكك والانقسام حتى يصل إلى البلد الواحد كالعراق والسودان واليمن والصومال، وفي حين نرى العالم كله يحرص على الوحدة والاجتماع، ودول كالصين تسعى لاستعادة أجزاء انفصلت عنها بعوامل الاستعمار والتاريخ مثل «هونغ كونغ»، و«تايوان»، وترفض دعاوى الانفصال أو التفرق في «التبت» و»تركستان الشرقية»، إذا بنا نغترّ بأهواء الساسة ودسائس الأعداء، نتفرق ونمزق أرضنا وديارنا إلى «كانتونات» وممالك وإمارات.
2- مظهر المساواة بين المسلمين
في الحج كما في الصلاة، نرى حرص الإسلام على إعلاء قيمة المساواة بين البشر، فالكل لآدم وآدم من تراب، ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى والعمل الصالح.
نجد مظاهر المساواة في الحج عديدة، فالرجال جميعاً يتجرّدون من ملابسهم العادية، ويلبسون ثوبين إزاراً ورداءً، غالباً ما تكون بيضاء، والكل عاري الرأس، يلهج بالذكر والدعاء فقيراً إلى الله، تجرد من جاهه ونسبه وثروته ومكانته، لا حرس ولا حماية ولا منصب ولا استعلاء.
والكل يطوف بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة، ويصعد إلى عرفات، ويرمي الجمار، ويبيت في منى بمساواة تامة في المناسك.
والحد الأدنى لأداء الفريضة المقدسة هو القدرة والاستطاعة، فلا فضل لغني هنا على فقير.
والكل يشعر بحاجته إلى مغفرة الله ورضوانه، ويتمنى أن يصدق أحد الحجاج في تقواه ودعواته ليشمل الله الجميع بالرحمة والقبول.
هل أدركنا قيمة تلك المساواة، وأن التفاضل بين البشر يوم القيامة سيكون كما في الحج بالتقوى والعمل الصالح، وليس بالمال والجاه والنسب!
فالكل أمام شريعة الله متساوون، والكل أمام الله يوم الحشر متساوون، يظل سبحانه في ظل عرشه من استجاب له بطاعته، ويذل يوم الحشر الذين تكبروا على عباده الضعفاء، فيكونون مثل الذر من الصّغار.
3- التذكير بالموت والحشر
في الحج لو يعلم الناس تذكرة بليغة بالموت والحساب.
يتجرد الحاج من ثيابه كما يتجرد الميّت عند تغسيله، والرداء والإزار اللذان يلبسهما الحاج أشبه ما يكون بأكفان الموتى حتى في اللون، والافتقار إلى رحمة الله ومغفرته ورضوانه وفضله وكرمه الذي يدفع الناس إلى بذل الجهد والتعب، واحتمال المشقة والنّصب في أداء المناسك أشبه ما يكون بافتقار العبد الميّت المتجرد من الدنيا إلى رحمة الله، وعفوه عند دخول قبره.
والحاج يعود من ذنوبه كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم كيوم ولدته أمه، بصفحة جديدة مثل الميّت الذي طويت صحيفته، ويتمنى لو رجع إلى الدنيا ليملأ صحيفة أخرى بعمل صالح ينفعه يوم القيامة، فتأمل أيها المسلم قبل أن تتمنى الرجوع فلا يستجاب لك {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} المؤمنون 99.
وأخيراً: كم في الحج من دروس، وكم في العبادات من تربية وتزكية، ولكنه الاعتياد والتكرار الذي جعل المسلمين أو غالبيتهم لا يستفيدون من تلك الدروس، لذلك وجب التذكير بها في الخطب والدروس والمقالات والمحاضرات حتى نبرِّئ ذمتنا أمام الله.
نسأل اللهَ تعالى أن يتقبل من الحجاج والمعتمرين، وأن ييسر لهم أداء المناسك، وأن يحفظهم من كل سوء وضرّ وفتنة، وأن يغفر لهم أجمعين، وأن يكتب لنا المغفرة والرحمة بدعائهم، ويجعلنا بمشيئة الله وقدرته من حجاج بيته الحرام في قابل الأيام.. آمين.




Aucun commentaire