حديث الجمعة : (( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسنُ تأويلا ))

حديث الجمعة : (( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسنُ تأويلا ))
محمد شركي
ما زال حديثنا متواصلا بخصوص صفات وأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم الواردة في كتاب الله عز وجل والتي تنضوي تحت وصف الله تعالى له (( وإنك لعلى خلق عظيم )) ، ويتعلق الأمر في حديث هذه الجمعة بثلاث صفات وأحوال انطلاقا من قوله تعالى في الآية الكريمة التاسعة والخمسين من سورة النساء : (( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا )) . والوقوف على تلك الصفات والأحوال يقتضي الإشارة إلى الآية السابقة لهذه الآية وهي قوله تعالى : (( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نِعمّا يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا )) فالملاحظ أن الأمر بأداة الأمانة وبالعدل في هذه الآية له صلة بالأمر بطاعة الله والرسول وأولي الأمر في الآية السابقة عليها.
ومعلوم أنه لا تقوم الحياة في المجتمعات البشرية إلا بأمرين في غاية الأهمية هما أداء الأمانات على اختلاف أنواعها ، والحكم بالعدل . وكل إخلال بهذين الأمرين يترتب عنه فساد الحياة ، وسيادة الفوضى، وانهيارالمجتمعات وزوال الحضارات . ولما كانا على هذا القدر من الأهمية، اقتضت إرادة الله عز وجل أن يشرع للبشر شريعته من أجل إقرارهما ويكلف المرسلين بتبليغها لهم تنظيرا وتطبيقا.
ولما ختم الله تعالى المرسلين بخاتمهم عليه الصلاة والسلام ، وختم برسالته العالمية الرسالات شرع سبحانه وتعالى فيها صون الأمانات والحكم بالعدل وبيّن كيف يكون ذلك عن طريق طاعته فيما شرع في الرسالة الخاتمة ، وطاعة من كلفه بتبليغها عنه تنظيرا وتطبيقا ثم طاعة من يتولون النيابة عنه في رعاية الأمانات على اختلافها وإقامة العدل من ذوي الأمر أو أهل الحل والعقد وهم ورثته من العلماء الذين ورثهم العلم بعده ، وولاة وحكام يدبرون شؤون الأمة المؤمنة بما شرع الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم في تناغم وتفاهم تامين مع ورثة النبوة .
ومعلوم أن الله تبارك وتعالى قد أمر بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وهو حي في فترة رسالته ،كما أمر بذلك بعد رحيله عن هذه الدنيا طاعة لا تنقطع حتى تقوم الساعة . أما طاعته وهو حي فقد التزم بها صحابته الكرام الذين كان يتحرون ما شرع الله تعالى ويسألونه عن كل أمر يواجههم أو يشكل أو يلتبس عليهم كما فعل الصحابي الذي سأله عليه الصلاة والسلام عن اختياره موضع نزول الجيش في غزوة بدر هل كان من وحي الله تعالى أم اجتهادا منه عليه الصلاة والسلام .ولقد كان ذلك حرصا منهم على طاعته لعلمهم أنه مبلغ شريعة الله عز وجل . و حين التحق عليه الصلاة والسلام بالرفيق الأعلى لزم كل من جاءوا بعد الذين صاحبوه طاعته كأنه حي بينهم ، وذلك باعتماد سنته أقوالا وأفعالا وتقريرات لا يحيدون عنها قد أنملة وذلك بتوجيه ممن ورثهم عليه الصلاة والسلام العلم ممن تتوفر فيهم شروط النيابة عنه في تبليغ الشريعة علما واستقامة وعدالة .
وبالعودة إلى الآية موضوع هذا الحديث نشير إلى أن سبب نزولها هو نزاع وقع بين أمير أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على سرية، وأمر من كانوا فيها بطاعته لكنهم لم يلزموا بذلك، فغضب منهم ،وبلغ به الغضب حد أمرهم بجمع الحطب وإضرام النار فيه واقتحامها إلا أنهم لم يفعلوا حتى خمدت النار النار و قد سكت عنه غضبه. ولما بلغ أمرهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال : » لو دخلوها لم يخرجوا منها إلى يوم القيامة ، الطاعة في المعروف » وكان في قوله هذا عليه الصلاة والسلام تنبيها وتأديبا لهم ولأميرهم على حد سواء ،وذلك بالإشارة من جهة إلى وجوب طاعة أولي الأمر، ومن جهة أخرى تكون هذه الطاعة في معروف أي فيما شرع الله عز وجل ورسوله .
ولما كانت الطبيعة البشرية مجبولة على الخلاف والنزاع بين الناس فقد طوقهما الله تعالى بشريعته التي بلغها عنه رسوله صلى الله عليه وسلم ، وذلك بقوله عز من قائل : (( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا )) .
ومعلوم أن النزاع بين الناس حكاما ومحكومين في أمور الحياة وارد ولا مفر منه ، وذلك لاختلاف أحوالهم ، وتضارب مصالحهم ،واختلاف طباعهم وأمزجة، واختلاف مستويات علمهم ومعرفتهم ، واختلاف درجات إيمانهم ، واختلاف مستويات التزامهم بشريعة الله عز وجل. ولا يقضي على ما يتنازعون فيه سوى عرضه على شرع الله تعالى كما بلغه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم فهو الفيصل . ولقد رغب الله تعالى في رد التنازع بينهم إليه وإلى رسوله لأن في ذلك رجوع إلى الحق وإلى الصواب ، وقد ذكرهم سبحانه وتعالى بالإيمان باليوم الآخر من أجل لفت انتباههم إلى أنه يوم مساءلة وحساب وفي هذا تحذير لهم من مخالفة شرعه ،كما أن الإيمان به سبحانه وتعالى حافز لهم على الرضى بشرعه وتحكيمه في نزاعاتهم . و لقد أعقب الترغيب والترهيب تنويه الله عز وجل بالخير الذي يحصّل عندما يرد النزاع إلى شرعه وهو رجوع إلى الحق والصواب والعدل ، كما أنه دليل على حسن الإيمان .
ولما كانت العبرة بعموم لفظ كلام الله عز وجل لا بخصوص أسباب نزوله ، فإن ما شرع الله تعالى وبلغه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم ملزم للمؤمنين إلى قيام الساعة . ومما يلزمهم طاعته سبحانه وتعالى في ما أمر به وما نهى عنه، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وطاعة أولي الأمر طاعة يقيدها شرط المعروف .ومما يلزمهم أيضا عرض نزاعاتهم مهما كانت على كتاب الله عز وجل وعلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم عرضا يتولى أمره من ورثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم العلم .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو أولا تذكير المؤمنين بصفتين من صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما صفة مبلغ الشرع مباشرة عن رب العزة جل جلاله الواجبة طاعته ، وصفة الفاض للتنازع بين أمته الواجب الرضا بحكمه ، وثانيا تذكيرهم بواجب أداء الأمانات على اختلافها مادية ومعنوية وهي كثيرة لا حصر لها ، وبواجب لزوم العدل في كل أمورهم ، ولا يمكن حصول ذلك إلا بطاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهما طاعتان غير مشروطتين بشرط ، وطاعة أولي الأمر المشروطة بشرط المعروف لقوله صلى الله عليه وسلم « لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق » .
و معلوم أن كل فرد مؤمن بحكم موقعه في المجتمع وبحكم مهامه ومسؤولياته الخاصة والعامة، يتعين عليه أداء كل ما أوكل الله تعالى إليه من أمانات أقوالا وأفعالا، ماديات ومعنوبات، وهو مسؤول عنها كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : » كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ، فالأمير الذي على الناس راع عليهم وهو مسؤول عنهم ، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم ، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم ، وعبد الرجل راع على بيت سيده وهو مسؤول عنه ، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته « فهذا الحديث الشريف أشار إلى مختلف الأمانات من أعلاها إلى أدناها وما بينها ،وقد ربط بين رعايتها و بين المساءلة عنها يوم الوقوف بين يدي الله عز وجل ، ولهذا لا يستخفن أحد بأمانة من الأمانات المكولة إليه شرعا ولو كانت مجرد كلمة أو عبارة تلزمه في معاملته للناس أقارب أو أباعد ، بل حتى مجرد شعور يخامره تجاههم وهو يخيه عنهم وهم لا يشعرون ولا يعلمون، والله تعالى أعلم به .
والمؤمن ملزم أيضا بالعدل في أقواله وفي أفعال لا يجور ولا يطغى ، ولا تمنعه عزة النفس من الانصياع للعدل ولو عليها لقول الله تعالى في الآية الكريمة الخامسة والثلاثين بعد المائة من سورة النساء : (( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين )) .وليس من قبيل الصدفة أن ترد هذه الآية الكريمة في نفس السورة التي وردت فيها آية الأمر برد الأمانات إلى أهلها والحكم بين الناس بالعدل ، وآية الأمر بطاعة الله عز وجل وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وأولي الأمر ، فالآيات الثلاث مترابطة فيما بينها وهي تؤدي نفس الغرض .
اللهم بصرنا بعيوبنا وأعنا على إكراه النفس على الاعتراف بها والتخلي عنها وأعنا يا مولانا على رد كل الأمانات التي تطوق أعناقنا ، وتثقل كواهلنا وأد اللهم عنا ما عجزنا عن أدائه منها ، وحبب اللهم إلينا العدل في الأقوال والأفعال ، وأعنا على طاعتك سبحانه وطاعة رسولك عليه الصلاة والسلام وطاعة من وليتهم أمرنا في كل معروف يرضيك ، اللهم جنبنا التنازع ، فإن قدّر علينا شيء منه فوفقنا اللهم لرده إليك سبحانك وإلى رسولك عليه الصلاة والسلام .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .





Aucun commentaire