حديث الجمعة : (( فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصيحوا على ما أسروا في انفسهم نادمين ))

حديث الجمعة : (( فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصيحوا على ما أسروا في انفسهم نادمين ))
محمد شركي
لا زلنا مع آيات الذكر الحكيم التي تناولت صفات وأحوال مرضى القلوب من فئة المنافقين ، وقد عددها الله عز وجل من أجل تنبيه الفئة المؤمنين إلى كيدها وشرورها خصوصا وهي التي تضمر الكفر والشرك ، وتظهر الإيمان الكاذب الذي تروم من ورائه الخداع .
ومن صفات وأحوال المنافقين ما جاء في الآية الكريمة الثانية والخمسين من سورة المائدة، والتي يقول فيها الله عز وجل في سياق الحديث عنهم : (( فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين )) . ومن أجل بيان ما تضمنته هذه الآية الكريمة ،لا بد من استعراض مضمون الآية الكريمة السابقة لها، وهي قوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين )) ، والتي تضمنت نهيا قويا وصارما موجها إلى المؤمنين يمنعهم ويحذرهم من موالاة أهل الكتاب من يهود ونصارى بسبب ما أحدثوا من تحريف فيما أوحي به الله تعالى إلى النبيّين الكريمين موسى وعيسى عليهما السلام ، وقد ترتب عن ذلك التحريف انحراف في العقائد وفي الشرائع كما اخبر بذلك الله عز وجل في أكثر من موضع في الذكر الحكيم .
ومعلوم أن الموالاة التي يفرضها اختلاط المؤمنين بأهل الكتاب تقتضي علاقة وصلة، ووئاما ،ووفاقا بينهم ، وهو ما لا يجب أن يحصل بسبب اختلاف العقائد والشرائع، والأخلاق والمعاملات بينهم ، فضلا عن كون الله عز وجل قد كشف عما يضمره اليهود والنصارى من كره، وحقد، وكيد مرده هذا إلى الاختلاف ، مع اشتداد ذلك عند اليهود خاصة ،ولم يستثن منهم سبحانه إلا القلة القليلة من النصارى التي أقرت بنبوة ورسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .
ولقد كانت التركيبة البشرية زمن النبوة في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم عبارة عن مؤمنين ،وأهل كتاب يهود ونصارى ، ومنافقين ممن يضمرون الكفر والشرك ويظهرون الإيمان الكاذب ، وكان هؤلاء يلتقون مع الكفار والمشركين ومع اليهود في عدائهم للمؤمنين ، وفي الكيد الخبيث بهم كما وصف ذلك القرآن الكريم ، وكما بينا ذلك في الأحاديث السابقة المتسلسلة .
و لقد كانت الموالاة بين اليهود والنصارى كما بيّن ذلك الله عز في الآية السالفة فضلا عن موالاة المنافقين لهؤلاء ، علما بأن الموالاة بين اليهود والنصارى سببها كما سبق تقارب العقائد والشرائع بينهم إلى درجة أنهم جمعوها في سفر واحد مكون من عهد قديم خاص باليهود ، وعهد جديد خاص بالنصارى ، في حين أن المنافقين كانت لهم دوافع أخرى للانخراط في تلك الموالاة ، ويتعلق الأمر بمصالح بعضها مادي وبعضها الآخر معنوي لأنهم كانوا يتابعون غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم مع الكفار والمشركين ، وهم يتمنون في قرارة أنفسهم أن تكون الغلبة للكفر والشرك، ومع ذلك كانوا لا يأمنون على أنفسهم من افتضاح ما كانوا يضمرون من موالاة للكفار المشركين في حال غلبة المسلمين ، لهذا كانوا يحتاطون من ذلك بموالاة اليهود والنصارى الذين كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم معاهدات تقتضي منع العدوان بينه وبينهم ،وهو ما يجعل من يوالونهم مشمولين بمقتضيات تلك المعاهدات .
ولقد اعتبر الله تعالى موالاة المؤمنين لليهود والنصارى إذا ما وقع منهم ذلك منزلقا خطيرا يوقع في الانحشار معهم ، ولذلك حذرهم منه ، وهو ما وقع فيه المنافقون بالفعل الذين كانوا يسرون في أنفسهم تبريرا لموالاتهم ،وقد كشف عنه الله تعالى على لسانهم فقال: (( يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة )) ، والدائرة إنما قصدوا بها تحول الحال من خير إلى شر، وهي دوائر أو نوائب ، وقد نسب المفسرون هذا القول إلى رأس المنافقين عبد الله بن أبيّ بن سلول . وسوء الحال الذي كان يخشاه هو وأمثاله من المنافقين هو أن يعدموا من يجيرهم، لذلك كانوا يسارعون في إظهار الموالاة لليهود والنصارى أي يعجلون بإظهارها .
ولقد عقب الله تعالى على ما كان يسره المنافقون في أنفسهم وهم يبررون استعجالهم موالاة اليهود والنصارى، فقال تبكيتا لهم : (( فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين )) ، كما أخبر سبحانه وتعالى بما دار على ألسنة المؤمنين ،وقد انكشف لهم ما كان المنافقون يخفونه من كره لهم، ومن حقد عليهم لا يختلف عن حقد اليهود والنصارى، فقال : (( ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين )) ، ففي هذا القول ما يؤكد صفة من صفات المنافقين، وهي القسم بالأيمان الغليظة وهم كاذبون، وظالمون بسبب موالاتهم لليهود والنصارى مصداقا لقوله تعالى : (( ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين )) .
ولما كان نزول القرآن الكريم في مناسبات معلومة ، وهو رسالة موجهة إلى العالمين حتى قيام الساعة ، فإن العبرة بعموم لفظه، لا بخصوص أسباب نزوله ، وعليه فإن ما أنزل الله تعالى من نهي في الآية أعلاه يلزم المؤمنين إلى أن يرث سبحانه الأرض ومن عليها .
مناسبة حديث هذه الجمعة هي تحذير المؤمنين مما حذر منه الله تعالى من موالاة اليهود والنصارى لأنه يوقع في النفاق والعياذ بالله ، ولا يقبل الله تعالى في ذلك ذريعة ، ولامبررا ، ولاعذرا ، وهو عنده ظلم . ويأتي هذا التحذير في هذا الظرف بالذات الذي يتعرض فيه المؤمنون في أرض الإسراء والمعراج إلى جرائم إبادة جماعية فظيعة على يد اليهود الصهاينة يرتكبونها بتقتيلهم، وتجويعهم، وحصارهم ، ويريدون بذلك تهجيرهم قسرا عن وطنهم . وكفى بهذا الذي يصدر عن هؤلاء المجرمين القتلة أن يكون مقنعا ، ومانعا لكل مؤمن من أن يسعى بشكل أو بآخر إلى موالاتهم مهما كانت الذريعة التي يتذرع بها، وذلك إنصافا للمؤمنين المضطهدين، وقد أوجب الله تعالى نصرتهم ، وذم خذلانهم .
ومن المؤسف جدا أن يتبرأ غير المؤمنين في العالم بأسره من موالاة هؤلاء الظالمين ، وذلك من خلال تسيير مسيرات مليونية منددة بهم ، ومن خلال مقاطعتهم اقتصاديا، بينما يتلكأ بعض المؤمنين في القيام بما أوجب الله تعالى من الامتناع عن موالاتهم ، ومن وجوب نصرة ضحاياهم من المؤمنين المضطهدين.
اللهم إنا نشهدك أن ولاءنا إنما هو لك سبحانه، ولرسولك، وللمؤمنين . اللهم إنا نوالي من والاك ،ورسولك، والمؤمنين ، وتعادي من عاداك ،ورسولك، والمؤمنين.
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .





Aucun commentaire