خطب الجمعة في وطننا بين التنظير والتنزيل

خطب الجمعة في وطننا بين التنظير والتنزيل
محمد شركي
من المعلوم أن الله عز وجل شرع لنا عبادة الجمعة ، فدعانا لنسعى إلى ذكره ،ونذر البيع . ولقد جاء في كتب التفسير أن المقصود بالذكر هو خطبتي الجمعة استنادا إلى ما ورد في الموطأ بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في سياق حديثه عن عبادة الجمعة : » فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر » ، ويؤكد هذا قول الله تعالى : (( فإذا قضيت الصلاة …. الآية )) ، وهي الركعتان بعد ذكر الخطبتين.
ولقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه شرع للمسلمين عبادة الجمعة من أول أيام الهجرة ، وقيل في اليوم الخامس منها ، وقد أطال في خطبته التي ألقها في يوم جمعة كانت له ببطن واد لبني سالم بن عوف ، وكان لهم به مسجد، ثم صلى الجمعة الموالية بمسجده بالمدينة المنورة فيما صح من الأخبار .
ولقد كانت خطبه منذ ذلك الحين تجمع بين ركنين اساسين لها ، وهما : التنظير ، والتنزيل . أما التنظير، فقوامه الوحي المنزل من عند الله عز وجل قرآنا كريما ، وسنة مشرفة ، وأما التنزيل فهو ملابسة ، ومعالجة الوحي لواقع الناس المعيش ، وهو ما وجد إلا لهذا القصد ،ولهذه الغاية من أجل استقامة أحوالهم بتنزيله في حياتهم ،وبقائهم على الفطرة السوية التي فطرهم الله تعالى عليها .
ومعلوم أنه بين التنظير والتنزيل تناغم بحيث نزل الوحي كلاما ،كي يتحول على أرض الواقع إلى أفعال، ومواقف، وسلوكات، ومعاملات ملموسة ، ومشهودة تشهد على آثار الوحي في نفوس الناس بما يتضمنه من هدي قوامه أوامر ونواه .
ولقد كانت خطب النبي متناغمة مع ما كان يومئذ سائدا من أحوال فرضها ظرف الدعوة الإسلامية ، و ظرف بناء دولة الإسلام أول أمرها ، وكان ذلك تحديدا منه صلى الله عليه وسلم لوظيفة خطبة الجمعة التي وجب على المؤمنين التقيد بها إلى قيام الساعة بحيث يساير التنظير التنزيل في مختلف الظروف والبيئات، حيث يكون التنزيل بالضرورة متحولا، بينما يظل التنظير ثابتا ، ودليلا وحجة على أن الوحي يغطي جميع الأحوال التي يمر بها البشر تشريعا وتنظيما إلى يوم القيامة شريطة أن يوفقوا في كل عصر ، و في كل بيئة إلى حسن تنزبل التنظير في واقعهم المعيش .
ولقد سار الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم بعد ذلك على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في المحافظة على تناغم التنظير مع التنزيل ، وتابعهم في ذلك التابعون لهم، ومن تبعهم ، وسارت الأمة المسلمة على ذلك النهج لعصور في كل المجتمعات المسلمة حتى أتى على الناس هذا العصر الذي غُيِّب فيه التناغم بين التنظير والتنزيل إلا في حالات قليلة ، و غلب الاقتصار في خطب الجمعة على التنظير في وقت ضار واقعهم المعيش يعج بالمشاكل ، وبالآفات التي يضرب عنها الخطاب الديني صفحا ، وبذلك حدثت قطيعة بين التنظير والتنزيل ، وضاعت فرصة الربط العملي أو الإجرائي بين الوحي قرآنا وسنة وبين الواقع المعيش ، و معلوم أنه لا يمكن أن يتأتى هذا الربط إلا بالترجمة العملية والإجرائية للوحي من خلال أفعال، وسلوكات ، ومواقف ملموسة ، قوامها التزام الناس أوامره ونواهيه .
ولا بد هنا من وقفة مع ظاهرة غياب أو تغييب التناغم بين التنظير والتنزيل في خطب الجمعة ببلادنا مؤخرا ، وأول ما يجب الوقوف عنده هو علاقة التنزيل بالبيئة الطبيعية ، والبشرية أو الاجتماعية ، وكلتاهما يحكمها التنوع مع التناسق . فبلادنا حباها الله تعالى وله الثناء والحمد الكثير بطبيعة خلابة بتنوع تضاريسها المتناسقة ، وهو تنوع يسم التجمعات البشرية فيها بسمات التنوع أيضا بحيث يجمع بينها المشترك العام من شمال البلاد إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها، حواضرها ، وقراها ، وأريافها ، وإلى جانب ذلك يميزها الخاص المتنوع في كل جهة . وهذا التنوع يؤثر في طبيعة أحوال الناس ، وعاداتهم وتقاليدهم ، وأنماط عيشهم ، وطبيعة ذهنياتهم ، وطبيعة سلوكهم، ومواقفهم … إلى غير ذلك من المميزات التي تميز بينهم لكن في إطار قواسم مشتركة تجمع بينهم ويلتقون عندها، و يلعب الوحي باعتباره تنظيرا دورا رئيسيا من أجل تحقيق التناغم المطلوب بينه وبين التنزيل في الواقع المعيش .
ولقد ظلت خطب الجمعة في بلادنا زمنا طويلا تراعي إلى حد ما خصوصيات التنوع البيئي والاجتماعي ، وكان التنوع يطبعها بحيث تتلاءم مع واقع الناس المعيش ، وهو واقع مختلف، ومتنوع ذلك أن واقع الحواضر ليس كواقع البوادي والأرياف ، وليست مشاكل هذه كمشاكل الأخرى ، ولا معضلات هذه كمعضلات تلك ، الشيء الذي يفرض تنوع خطب الجمعة بالضرورة ، ولزوما، وليس اختيارا.
ولما عمدت الوزارة الوصية على الشأن الديني عندنا إلى تنزيل ما سمته خطة تسديد التبليغ بناء على قناعة انطلقت فيها من مسلمة لديها ، بلا برهان مقنع عليها مفادها وجود هوة بين الدين وتدين المغاربة ، وارتأت بناء على هذا أن توحد خطب الجمعة لتحقيق التسديد الذي تبنته في تبليغ الدين لهم ، وذلك في ظل تغييب الفوارق بين جهات البلاد ،حواضرها، وقراها ،وأريافها من حيث تنوع النسيج الاجتماعي، و من حيث تباين مستويات التلقي بين أفراده ، و اختلاف لهجات التلقي إلى جانب لغة الوحي ، واختلاف مشاكل حياتهم اليومية، وهمومهم، وانشغالاتهم ، واختلاف حاجاتهم من التوجيه أو التسديد … إلى غير من الاختلافات التي لا يمكن القفز عليها باعتبار المتلقين نسيجا اجتماعيا واحدا لا تنوع فيه فيوجه بناء على ذلك إليه خطاب ديني موحد على الصعيد الوطني ، وفي هذا خروج عن مقصد أو الغاية من خطبة الجمعة كما شرعها الله عز وجل ، وكما بيّنها للمؤمنين رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولا يمكن أيضا إغفال أن الفرد المسلم في بلادنا تربطه آصرة الدين مع كل المسلمين في كل أصقاع المعمور ، وأنه مأمور شرعا بالتفاعل الوجداني معهم باعتبار الأمة المسلمة جسدا واحدا كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تتداعى فيه الأعضاء بالسهر والحمى لشكاة العضو الواحد المتضرر . وهذا مما يوسع بالضرورة دائرة انشغال الأمة بأحوالها وهمومها، الشيء الذي لا يمكن معه للخطاب الديني الموحد على الصعيد القطري أن يلبي هذه الحاجة أو يحقق هذا المطلب .
ولقد كان من المفروض والوزارة الوصية تعتمد هيكلة المجالس العلمية الجهوية والمحلية أن تعطيها استقلاليتها ، وصلاحيتها في اعتماد الخطاب الديني الذي يناسب حاجيات واهتمامات الأفراد في نطاق نفوذها الجغرافي تماشيا مع اعتماد البلاد خيار سياسىة اللامركزية واللاتمركز في الميدان الديني كما هو الحال في باقي الميادين مع توحيد هذا الخطاب بطبيعة الحال في المناسبات المقتضية لتوحيده سواء كانت وطنية أو كانت متعلقة بشؤون الأمة الإسلامية ، كما كان الأمر قبل اعتماد قرار توحيد خطب الجمعة على خلفية اعتماد خطة تسديد التبليغ .
وعلى الوزارة الوصية أن تعي جيدا أنه مما يفقد خطب الجمعة الموحدة تأثيرها الفعلي في متلقيها أنها تغرد بعيدا عن همومهم ،وانشغالاتهم المحلية، والجهوية ،والوطنية ، بل وتلك التي يقتضيها الانتماء إلى الأمة المسلمة، والانشغال بها ، وهو ما يطرح مشكل انعدام التناغم بين التنظير والتنزيل . وكدليل على ذلك نسجل غياب قضية القدس، والمسجد الأقصى من خطب الجمعة الموحدة ، وهي القضية الدينية التي يجعلها المسلمون في كل أرجاء المعمور على رأس اهتماماتهم وانشغالاتهم بحيث لم تخصص ولو خطبة واحدة موحدة لهذه القضية ، بل أكثر من ذلك غاب فيها حتى مجرد الدعاء مع الضحايا الفلسطينيين الذي يتعرضون إلى إبادة جماعية في غاية الوحشية الفظاعة على أيدي الصهاينة المحتلين ، وهم تحت الحصار، والتجويع ، والقصف ليل نهار . فكيف سيتفاعل الناس عندنا مع خطب موحدة والحالة هذه ، وهم الذين يخرجون في مسيرات مليونية كل أسبوع تقريبا للتعبير عن انشغالهم بالقضية الفلسطينية، وتأييدهم لإخوانهم المضطهدين في أرض الإسراء والمعراج ، وهم يعاينون يوميا مسيرات مليونية في كل أقطار العالم عبر وسائل الإعلام ، ووسائل التواصل الاجتماعي تنظموها شعوب مسلمة وغير مسلمة أيضا ؟ وعلى الوزارة الوصية على الشأن الديني أن تعي جيدا أنها أول من يتحمل مسؤولية إفراغ خطبة الجمعة مما يجعل القلوب ترتبط بها ، وتهفو إليها ، وتقبل عليها برغبة وشغف ، ولا تقبل على غيرها مما تعج به وسائل التواصل الاجتماعي من أنواع الخطاب الديني الذي يتحقق فيه التناغم بين التنظير والتنزيل، وذلك في ظرف ثورة رقمية صيّرت العالم قرية صغيرة .
وأخيرا لعل الأمل يعلق على حكمة السادة علماء المجلس العلمي الأعلى ، وهم المعول عليهم من أجل تدارك التداعيات السلبية لما آلت إليه خطبة الجمعة في بلادنا إثر اعتماد خطة تسديد التبليغ التي هم من اقترحها حسب تصريح الوزير . ولا شك أن هذا التدراك منهم ، سيكون بالفعل تسديدا موفقا للتبليغ إذا ما تحقق بالفعل التناغم بين التنظير والتنزيل إن شاء الله تعالى.





Aucun commentaire