Home»Débats»من مؤشرات استدامة المرض: معالجة الأعراض عوض الأسباب.

من مؤشرات استدامة المرض: معالجة الأعراض عوض الأسباب.

0
Shares
PinterestGoogle+

بسم الله الرحمن الرحيم

الحسن جرودي

من مؤشرات استدامة المرض: معالجة الأعراض عوض الأسباب.

من مظاهر تخلف مجتمع ما، شيوع مجموعة من الأعراض الدالة عليه، ومن مظاهر تخلف مسؤولي هذا المجتمع، اكتفاؤهم في أحسن الأحوال بمعالجة عدد من هذه الأعراض، دون الاهتمام بالأسباب الحقيقية التي تُنتجها، ولعل هذا مما ينطبق على المجتمع المغربي، بحيث تتعدد فيه الأمثلة البارزة التي يُكتَفى فيها بمعالجة الأعراض باعتماد مسكنات، بحيث لا يزيد المرض الأصلي إلا استفحالا بمجرد انتهاء مفعولها، لتظهر بعد ذلك أعراض جديدة، وهكذا دواليك إلى أن يعم المرض وتصبح معالجته شبه مستحيلة. من بين هذه الأعراض أذكر على سبيل المثال لا الحصر: تشغيل الأطفال، الكلاب الضالة، الانفلات الأخلاقي بجميع ألوانه…والمتأمل في هذه الأعراض وغيرها سيجد أنها من المؤشرات الرئيسية المعبرة عن تخلف المجتمع المغربي. كما أن المتأمل في الإجراءات المتخذة من قبل المسؤولين، يجد أنها لا تتجاوز الاهتمام بالأعراض دون الأسباب، حتى أصبح التخلف ظاهرة بنوية لا تسمح لهذه الإجراءات بالتضييق من دائرته بقدر ما تعمل على توسيعها، لتشمل عددا من المجالات التي يمكن اعتبارها مجازا خارج دائرة التخلف، أقول مجازا لأن المجتمع المريض شأنه شأن الجسم الواحد، لا يمكن الجزم بسلامته مع وجود عضو أو أعضاء مريضة. فكم من إنسان يُعطي الانطباع بأنه معافا، بينما هو مصاب بعدة أمراض يمكن أن تعصف بحياته في كل وقت وحين.

فبخصوص ظاهرة تشغيل الأطفال مثلا، يتعين أولا وقبل كل شيء التمييز بين استغلالهم وتشغيلهم، فأما الاستغلال فهو مرفوض بالنسبة للطفل ولغيره من بني البشر وحتى بالنسبة للحيوان، لكن التشغيل فيه نظر، إذ يتعين تحقيق المناط من حكم تجريمه قبل الهرولة نحو ابتداع الصيغة التي تُجرمه جملة وتفصيلا، وهو ما يتطلب تعريف كل من الطفل والشغل والنظر بعد ذلك في مختلف الوضعيات والسياقات التي تختلف باختلاف طبيعة المجتمعات وثقافتها، بالإضافة إلى إمكاناتها المادية والمعنوية.

 وبما أن تحقيق المناط لا يمكن أن يتم إلا في إطار مرجعية واضحة، فتعريف مفهومي الطفولة والشغل عندنا يبقى صعب المنال ما دامت تتجاذبه مرجعيتين مختلفتين، إن لم أقل عقيديتين مختلفتين، المرجعية العلمانية التي يعتمد المنتمون إليها تعريف منظمة اليونسيف التابعة للأمم المتحدة، والمرجعية الإسلامية التي يتقيد أصحابها بالتعريف المستمد من الشرع، ذلك أن التعريف الأول يَعتبِر طفلا كل من لم يتمم 18 سنة شمسية، ومن ثم فهو ذو طبيعة ميكانيكية يمكن أن توافق البعض دون البعض الآخر، فيما ينطلق التعريف الثاني من خصوصيات الأفراد – علما بأنها تختلف باختلاف البيئة والظروف- التي غالبا ما تُحدَّد بظهور علامات فيزيولوجية على كل من الذكر والأنثى يتم اعتمادها مؤشرا على بلوغ سن الرشد، الذي هو مدار التكليف، لتبقى مسألة السن ثانوية ضمن مجال زمني محدد، علما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم  ينتظر بلوغ أسامة بن زيد ولا ابن عمر سن 18 سنة ليجيزهما حضور معركة الخندق، وهما لم يجاوزا سن الخامسة عشرة، وما كان  ليسمح لأسامة بالمشاركة في غزوة مؤتة وهو دون سن 18، وما كان ليختاره قائدا على جيش المسلمين لغزو الروم، وفيهم  كبار الصحابة بمن فيهم أبو بكر، وعمره 18 سنة.

أما بخصوص تعريف الشغل فإنه يدخل بصفة عامة ضمن النشاط الإنساني الذي يتكون من عنصرين أساسين هما: النشاط العقلي والنشاط الجسدي. وهما عنصران يرافقان الإنسان منذ ولادته إلى موته، ومن ثم فإنجاز شغل معين يحتاج إلى العنصرين معا، مع إمكانية غلبة أحدهما على الآخر، حسب القدرات العقلية والجسدية للمعني، وحسب طبيعة الشغل الذي يبقى مرتبطا ارتباطا وثيقا بالأهداف المتوخاة منه وبمدى ملاءمة كل منهما (الشغل والأهداف) للعنصرين، أكثر منه ارتباطا بسن معينة.

من هذا المنطلق، وفي حالة سماح القدرات العقلية والجسدية لفرد ما بمزاولة شغل ذو هدف واضح، دون أن يكون فيه استغلال أو استعباد، يُطرح سؤال الجدوى من المنع، خاصة إذا كان الهدف هو تنمية شخصية الفرد على تحمل المسؤولية والاستقلال في قراراته، وإلا أين يُمكِن تصنيف اشتغال التلاميذ بدراستهم التي تكون شاقة -ولا يمكن إلا أن تكون كذلك-مع اختلاف في حدة المشقة التي تكون أكثر وضوحا بالنسبة لأطفال القرى والطبقات المعوزة. وإذا كانت الدراسة في حد ذاتها تتغيا تكوين الفرد للمساهمة في النشاط الإنساني، فلا يمكن أن نعزل التكوين الفكري عن التكوين الجسدي، ومن ثم فلا بد من المزج بين التكوين الفكري والعملي، وهو ما يُعمل به في البلدان المتقدمة، من مثل الدول الإسكندنافية، وهو ما كان معمولا به عندنا إلى عهد قريب على الطريقة المغربية، بحيث يَعمل الطفل منذ نعومة أظافره بجانب والده تاجرا كان أو فلاحا أو حرفيا… ليكون قادرا في آخر المطاف على مواصلة عمله، إما في حالة عدم نجاحه في الدراسة، أو في حالة نجاحه ولم يتمكن من الحصول على شغل، بل هناك من آثر استثمار دراسته التي تفوق فيها في تطوير مهنة أبيه.

 وإذا كان تطور المجتمع في غير صالح عمل الابن بجانب الأب أو الولي، بسبب تغيُّر طبيعة العمل الذي أخذ منحى الوظيفة، فعلى المدرسة أن تلعب هذا الدور بملاءمة مناهجها، وبرامجها، وطرق التدريس، مع ما يتطلبه تكوين الفرد القادر على تحمل المسؤولية المنوطة به طفلا وشابا وكهلا ولِمَ لا حتى شيخا، حتى وإن اقتضى الأمر اشتغال الطفل في الحقل أو التجارة أو المعمل شريطة أن يتم تأطير العمل من قبل جهات مختصة، وأما الدعوة إلى التجريم المطلق لتشغيل كل من لم يتمم 18 سنة، إضافة إلى تقزيم ذاكرة الأطفال منذ المراحل الأولى لتكوين شخصيتهم وقناعاتهم، من خلال الدعوة إلى عدم تحفيظهم للنصوص الطويلة التي لا يفهمونها – بدعوى أنها غير مفيدة تربويا- في الوقت الذي لا تعدو أن تكون وسيلة ماكرة لمحاربة تحفيظ القرآن الكريم، فالنتيجة معروفة مسبقا وملامحها أصبحت معايَنة في تصرفات عدد غير قليل من الشباب، حيث أصبح الغش في الامتحانات، وعدم احترام الأساتذة، وقلة الحياء، وانتشار الفاحشة …أمور تكاد تكون عادية، ومما زاد الطين بلة هو تبني مجموعة من جمعيات – ما يطلق عليه بالمجتمع المدني- وهيئات بعضها ذات صبغة رسمية كما هو الشأن بالنسبة للمجلس الوطني لحقوق الإنسان على سبيل المثال، الدفاع عن ما يسمى بالحقوق الكونية، التي تتضمن من بين ما تتضمنه، الحق في المثلية، والإفطار العلني في رمضان، والاستهلاك العلني للخمور بالإضافة إلى الحق في الإجهاض…وهي بهذا كله تحاول إيهامنا بأن الإقرار بهذه « الحقوق » يندرج ضمن معالجة ظاهرة التخلف التي يعاني منها مجتمعنا، والواقع أن تخلفنا يزداد يوما عن يوم، ليس على المستوى المادي فحسب، بل على المستوى المعنوي والأخلاقي الذي كان يُميزنا عن الأمم التي يريدون لنا الارتماء في أحضانها.

أخيرا أهمس في آذان المسؤولين، وأقول لهم بأن الخروج من دائرة التخلف لا ولن يكون بشعار « بغاتها الوقت » ولا بشعار « عندنا الحق » ولا بالحرية المطلقة، وإنما بمعالجة الأسباب الحقيقية، بحيث القضاء على ظاهرة أطفال الشوارع لا تتم بعدم تجريم الإجهاض، وإنما بالتجسيد العملي لتحريم الزنا، ومعالجة ظاهرة الكلاب الضالة لا تتم بتعقيمها وإعادة إطلاقها في الشوارع، بقدر ما تكمن في القضاء عليها بما يتناسب مع مقتضيات الشرع، كما أن القضاء على استغلال الأطفال لا يتم باستصدار القوانين بقدر ما يتعين تمكينهم من حقهم في العيش الكريم من خلال الشغل المناسب وإعادة إدماجهم في المدرسة والمجتمع… وهذا لن يتأتى ما داموا يأتمرون بأوامر الغرب الذي ينوب عنهم في عملية تشخيص الأدواء، ليُتبعها بفرض الدواء الذي يراه مناسبا لبلوغ أهدافه التي سطرها منذ زمن طويل.

وختاما أود أن أعترف بأني أحبذ أن يشتغل طفلي، حتى وإن كان الشغل شاقا، ويتجاوز قدراته الفيزيولوجية والعقلية، على أن يعيش عالة على غيره في إطار قيم الغرب التي فشلت في عقر دارها، وإلا فماذا يُنتظر من فتى قارب سن 18 وهو لا زال لم يَعرف معنى للشغل ولا للتعب، مع افتراض أن وسطه الاجتماعي يسمح له بذلك غير العربذة، والإفساد، وهو ما عبر عن ذلك أبو العتاهية في بيته المعروف: إن الشباب والفراغ والجيدة      مفسدة للمرء أي مفسدة

الحسن جرودي

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *