ذوي الحقوق بين العدل والإنصاف، والتمييز الإيجابي

بسم الله الرحمن الرحيم
ذوي الحقوق بين العدل والإنصاف، والتمييز الإيجابي
مما لا شك فيه أن الحق والواجب متلازمان في كل الشرائع السماوية وفي القوانين الوضعية، وإذا كان الأصل أن جميع أفراد المجتمع معنيون بهما، أي أن كل فرد ملزم بأداء واجب مقابل حق، فإنه على المستوى العملي يصعب تجسيد هذا المبدأ وتنزيله على الجميع بسبب الاختلافات التي ميز الله بها الناس بعضهم على بعض مصداقا لقوله تعالى « وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ » ذلك أنه يصعب، وقد يستحيل على عدد منهم أداء بعض الواجبات مما ينتج عنه بالضرورة حرمانهم من الاستفادة من الحقوق المقابلة لها بشكل مباشر. وهنا تكمن أهمية العدل الذي يحدد الواجبات المفروضة والحقوق المستحقة بالنسبة لكل فرد من أفراد المجتمع حسب مؤهلاته الخِلقية والخُلقية والجسمية والمعرفية…ومن هذا المنطلق وجب التفكير في الآليات التي يتعين اعتمادها للفصل في هذه الثنائية بشكل عادل.
ولأن التمييز ظاهرة واكبت تطور المجتمعات، فلقد سادت في المجتمعات الغربية، مختلفُ أنواع التمييز سواء ما تعلق منها باللون، أو الدين، أو الجنس، أو العرق أو النسب… قبل أن يُفكر ساستها في التخلص من مُخلَّفاته، وذلك من خلال الإقرار بمبدأ المساوات بين الجميع، لكن سرعان ما وجدوا أنفسهم في تناقض صارخ مع هذا المبدأ سواء داخل الحدود الجغرافية لبلدانهم، بسبب تعدد الثقافات التي نتجت عن ظاهرة الهجرة، أو خارجها عندما صدَّق البعض من الذين يعانون من التمييز مقولة عالمية بعض المبادئ كما هو الشأن بالنسبة لمبدأ المساواة، وأرادوا أن يُسَوُّوا بين بلدان الشمال وبلدان الجنوب وبين مواطني كل منهما، وهو الأمر الذي لا يخدم مصالح الغرب، والذي لو طُبِّق لحرمه من عدد من الامتيازات التي يستأثر بها على حساب الدول الفقيرة. ومن ثم وحتى يحافظ على هذه الامتيازات ويضمن لنفسه حق التدخل لضمان مصالحه، عمد كما هي عادته، إلى أسلوب الدهاء الذي تدخل من خلاله في العراق وليبيا وسوريا و…تحت شعار تخليص شعوب هذه البلدان من ديكتاتورية الحكام، عمد إلى مفهوم التمييز ووصمه بصفة الإيجابي حتى ينزع عنه الحمولة القدحية التي تميزه. فما هو التمييز الإيجابي؟ وما هي حيثيات نشوئه؟ وما هي تجلياته في العالم الغربي؟ وما هي انعكاساته على المجتمع المغربي في غياب استحضار ثوابت الأمة؟
ورد في لسان العرب أن التمييز يعني معرفة الضارّ من النافع، والتفرقة بين المشروع وغير المشروع، وأن التَّمييز العنصريّ يعني التفرقة بين الناس في حقوقهم وواجباتهم لاختلاف أجناسهم وألوانهم، وجاء في الذكر الحكيم: » لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ »[1]. من هنا نلاحظ أن مجرد كلمة تمييز تعني الفصل بين خاصيتين متقابلتين، فمثلا عندما نميز بين الجنس السامي وغير السامي، فإنه حسب تموقعنا فإننا نريد أن نبرز أحقية جنس على آخر، وعندما نميز بين الدول الكبرى ودول العالم الثالث فذلك لا يحتاج إلى عناء في الفهم بأن الأولى لها أحقية على الثانية…
وحتى نتأكد بأن التمييز يبقى تمييزا وأن تخصيصه بصفة الإيجابي لا يعدو أن يكون ذرا للرماد في الأعين وشباكا لاصطياد المغفلين، حتى إذا عملوا به وقعوا في فخه الذي لا يمكن الانفكاك منه على غرار ما وقع بالنسبة لمفاهيم الحرية وتحرير المرأة والمناصفة، واحترام حقوق الأقليات… وحتى نتأكد من هذا سنحاول التعرف على تعريف ونشأة هذا المفهوم.
من خلال تعاريف متعددة ومتقاربة يمكن أن نُرَكِّب التعريف التالي: « إنه سياسة أو إجراء أو قانون يَعتمد تعاملا تفضيليا لصالح مجموعة بشرية تعاني من تمييز بسبب جذورها المجتمعية، أو العرقية أو الدينية أو بسبب جنسها، أو سنها، أو إعاقتها، من خلال جهاز لامساواتي ومؤقت يهدف إلى استعادة تكافؤ الفرص بين أفراد المجتمع.
وقد نشأ مفهوم التمييز الإيجابي سنة 1961 في الولايات المتحدة الأمريكية تحت غطاء تمييز أبناء الزنوج من خلال حث المشغِّلين على اعتماد إجراءات إيجابية في تشغيلهم والتعامل معهم، ليتم تحت الضغط توسيعُ هذه الإجراءات على مجموعات أخرى كالمثليين، وذوي الجذور الإسبانية والنساء…أما في فرنسا فقد تم ابتداءً من سنة 1990 النظر إلى التمييز الإيجابي كوسيلة لإدماج المهاجرين وأبنائهم. ونظرا لعدم كونها محل إجماع فإنها لم تأخذ صبغة عرقية.
يبدو أن الحيثيات تختلف بين هذين المثالين، إلا أن الأصل واحد، ألا وهو محاولة احتواء نتائج التمييز « السلبي » الذي عانت منه مختلف هذه الفئات، حيث أصبح العنف من بَيْن أهم مميزاتها، ومن ثم وجب اعتماد القوة الناعمة المتمثلة في هذه الحالة في استغلال مفهوم التمييز الإيجابي، قبل اللجوء إلى القوة الخشنة التي تم اعتمادها كلما عجزت الأولى عن أداء الدور المنوط بها.
وإذا كان لهذا المفهوم بعض الإيجابيات كشأن باقي المفاهيم التي تؤطرها نفس الخلفيات، فإن المهتمين بالموضوع عددوا له مجموعة من السلبيات يمكن تلخيصها في التالي:
سمعة المستفيدين من التمييز الإيجابي تصبح أكثر تشويها، مما يجعله عبارة عن هدية مسمومة.
أداء المؤسسات التي تُشغِّل هذه الفئات يَضعُف بسبب عدم تشغيل الأشخاص الأكفاء.
ثم إن التمييز كما أشرت إليه سابقا يبقى تمييزا كان إيجابيا أم غير ذلك، لأنه سيجد دائما في الطرف الأخر من يتضرر منه.
وإذا كان لهذا التمييز تجليات متعددة في الغرب من بينها منح « كوتا » معينة لبعض الفئات مثل الطلبة السود في الولايات المتحدة وأخرى للمعاقين بالنسبة للشغل، وأخرى بالنسبة للتمثيل البرلماني والحقائب الوزارية في مجموعة من الدول الغربية، وهو الأمر الذي لا يخلو من مساوئ رغم الإيجابيات المتعددة والتي لها علاقة بخصوصيات المجتمعات الغربية سواء تعلق الأمر بالمعتقد الديني والجانب القيمي، أو بالمستوى المادي والاقتصادي، فإن الأخذ بهذا المفهوم في بلادنا ستكون له انعكاسات خطيرة تصعب معالجة مضاعفاتها الجانبية والإفلات منها، خاصة فيما يتعلق بالهوية والجانب القيمي. فعندما نأخذ بمبدأ التمييز الإيجابي لصالح المرأة لأننا نرغب في تحسين وضعيتها أو لأنه فُرِضً علينا فرضا، ونعتمد الكوتا لتجسيده في مختلف تجليات الواقع، نتساءل هل يتم أخذ مردودية هذه الأخيرة بعين الاعتبار، أم فقط لأنها امرأة، أم لأنه مبدأ يتعين العمل به مع جميع الفئات التي تُصوَّر على أنها مهضومة الحقوق؟
فإذا انطلقنا من معطى المردودية، فإن مفهوم « الكوتا » سيُصبح خادما للتمييز السلبي، ذلك أنه في حالة ما إذا كانت المرأة ذات مردودية أعلى من مردودية الرجل فإن الكوتا ستحرمها من منصب أو مهمة هي أولى بها، أما إذا كان الرجل هو المؤهل لذلك العمل أو المنصب فإن ذلك سينعكس لا محالة سلبا على المردودية، وفي كلتا الحالتين فالمجتمع هو الخاسر.
وإذا كان المنطلق هو تمييز المرأة لكونها امرأة، فإن الله قد ميزها بخصائص ومميزات لا يمكن للرجل أن يحصل عليها مهما فعل، فمِيزة الأمومة مثلا تفرض عليها أن تكون حاملا ثم مرضعة، ثم مربية ثم… فعوض إقحامها في مجالات تستعصي عليها، لا لشي سوى تنفيذُ التعليمات المرتبطة « بمبدأ المساواة »، كان من الأولى إنصافها وتمكينها من ظروف الحمل والرضاع على سبيل المثال، على أن تلج العمل والمهام التي تتناسب مع خصوصيتها دون الدخول في التناقض الصارخ المتمثل في مساواتها بالرجل، ثم البحث بعد ذلك لتمييزها إيجابيا عنه، إنه العبث بعينه، إنه العبث الذي يؤدي إلى نتائج تقلب الموازين حيث يُعاب على المرأة أن تشتغل في بيتها وتربي أبناءها، بينما يُشاد بالمرأة التي تشتغل في المقاهي والحانات.
أما إذا كان المنطلق هو أن التمييز الإيجابي مبدأ يتعين العمل به لصالح كل الفئات الضعيفة بما فيها المعاقين بمختلف أصنافهم وكذا الأقليات التي لا تستطيع أن تفرض ممارساتها على المجتمع بحكم طبيعة الديموقراطية التي تعطي الكلمة للأغلبية؛ وبما أن المنظمات الحقوقية والدولية هي التي أصبحت تفرض تصورها لكيفية التعامل مع مختلف أطياف المجتمع، حتى أن الأمين العام للمجلس « الوطني » لحقوق الإنسان أصبح يطالب بالمساوات في الإرث ضدا على الدستور واستجابة للقوانين والمعاهدات الدولية، فما الذي سيمنعه وسيمنع غيره من هذه المنظمات بالمطالبة بإعطاء « كوتا » للمثليين في البرلمان وأخرى للمُفطرين في رمضان وأخرى للسحاقيات؟ خاصة وأن الوزير المكلف بحقوق الإنسان صرح في اللقاء الذي نظمته المؤسسة الدبلوماسية بالمغرب مع سفراء أجانب معتمدين في المغرب، أنه يتم اعتماد التمييز الإيجابي لصالح النساء بالنسبة للبرلمان وبالنسبة للانتخابات على الصعيد الترابي، بالإضافة إلى فرض قانون الأحزاب السياسية ضرورة توفر كل حزب على هيئة للمناصفة، والغريب في الأمر هو أنه صرح أن انتخابات نقباء المحامين لم تفرز أية امرأة كنقيبة لكون النساء المحاميات أنفسهن لم ينتخبن على أية امرأة !!!! هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن مشروع قانون رقم 79.14 يتعلق بهيئة المناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز[2]، يعطي للهيئة مجموعة من الصلاحيات تمت صياغتها بشكل فضفاض، كما هو الشأن بالنسبة للصلاحية رقم 4 حيث ورد ما يلي: » التشجيع على إعمال مبادئ المساواة والمناصفة وعدم التمييز في مختلف مناحي الحياة العامة، والعمل على رصد كل إخلال بها، واقتراح جميع التدابير التي تراها مناسبة للسهر على احترامها » مما يسمح للهيئة بتأويلها حسب قناعة أعضائها، ومن ثم فإن استغلال التمييز الإيجابي لفرض ممارساتِ ومعتقداتِ بعض المجموعات المزروعة في المجتمع والتي تتنافى مع المقومات الأصيلة للأمة، أصبح لا يُؤمَن جانبُه.
في الأخير أتساءل، ألا يجدر بأمة مسلمة أن يُغنيها مفهوما العدل والإنصاف عن كل ما سواهما من المفاهيم والمصطلحات الدخيلة التي تجر عليها من البلايا ما لا تطيقه، وتحشر بها نَفْسَها في الزاوية الضيقة التي يصعب الانفكاك منها، ذلك أن تمكين المرأة مما أعطاها الله كفيل بأن يغنينا عن هذا التقابل الفج بين الرجل والمرأة، لأن الله خلقهما ليتكاملا لا ليتصادما مصداقا لقوله تعالى « وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ » [3]، كما أن إنصاف المعاقين بكل أصنافهم طبقا للشريعة الإسلامية[4] كفيل بأن يُمكِّنهم من حقوقهم كاملة في إطار تكليفهم بالواجبات التي تتلاءم مع مؤهلات كل فرد منهم دون المَنِّ عليهم بوظيفة أو منصب لا يستطيع أن يفي بمستلزماته تجاهها ليكون ذلك وبالا عليه وعلى مردودية المؤسسة المعنية.
وختاما أرجو من المسؤولين عدم الانسياق وراء الشعارات البراقة التي سترهن مستقبل الأجيال المقبلة إلى غير رجعة، وألا ينسوا أن سيحاسبون على ما قدموا وآثارهم مصداقا لقوله تعالى « إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِين »[5] ومن ثم العمل على جعل هذه الآثار خادمة للمصالح المستقبلية للأمة من خلال المساهمة الجادة في تربية أجيال المستقبل على قيم العدل والإنصاف والإيثار المتجذرة في ثقافتنا العربية الإسلامية، كما عبر عن ذلك الشاعر حين قال: ربوا على الإِنصافِ فتيانَ الحِمى … تجدوهمُ كهفَ[6] الحقوقِ كهولا، عوض الترحيب غير المحسوب العواقب بكل ما يأتي من الغرب.
الحسن جرودي
[1] الآية 37 من سورة الأنفال.
[2] انظر المشروع على الرابط التالي: http://www.chambredesrepresentants.ma/sites/default/files/loi/79.14.pdf
[3] الآية 21 من سورة الروم.
[4] انظر كتاب حقوق المعوقين في الإسلام للأستاذ مصطفى بنحمزة.
[5] الآية 12 من سورة يس.
[6] والكَهْفُ الملجأ، يقال: هو كهْفُ قومهِ.




Aucun commentaire