بين الوظيفية والعبثية

بسم الله الرحمن الرحيم
بين الوظيفية والعبثية
إذا كان تحديد الأهداف بالنسبة لذوي العقول السليمة أمر ضروري يسبق كل العمليات الحياتية من أبسطها لأعقدها، وهو فعل تتميز به المجتمعات المتحضرة التي تسلك طريق القَصْدية وتنأى عن طريق العبثية في أدق أمورها المادية والمعنوية على السواء، وهذا أمر ينسحب على الأفراد كما ينسحب على المجموعات البشرية من جمعيات وهيئات سياسية ونقابية ودينية و… بحيث تصبح الغائية والوظيفية من أهم العناصر التي تنبني عليها مختلف التصرفات والإجراءات التي يقومون بها.
سبب هذا التقديم هو ملاحظتي لأول مرة وأنا في الطريق السيار بين الرباط والمحمدية لإشارات للمرور كتبت باللغتين العربية والأمازيغية، دون اللغة الأجنبية، وذلك بعد عبور قنطرة محمد السادس. ولا أخفي أنني شعرت في البداية بنوع من الفخر والاعتزاز، بسبب استبدال لغة أجنبية بلغة وطنية، إلا أن هذا الشعور لم يدم طويلا، لكوني لم أفهم حرفا مما كتب بالأمازيغية على الرغم من أني أمازيغي أبا عن جد، ثم تساءلت: ما الذي تغير بعد عبور قنطرة محمد السادس؟ ما الهدف من وراء هذا الاستبدال المفاجئ؟ مع العلم أنه من وجدة إلى الرباط كل الإشارات مكتوبة باللغتين العربية والفرنسية. أهي الوظيفية أم هو تأثير اللوبي المتعصب للأمازيغية على المسؤولين لكتابة هذه الإشارات تمهيدا لتعميم الحرف الأمازيغي على جميع إشارات المرور، وهو ما سَيُدر أموالا كثيرة على المستفيدين من هذه العملية. وبعد التفكير في الموضوع لم أجد تفسيرا يمت للوظيفية بصلة، ذلك أن كتابة اللوحات بالعربية ضروري لكون كل المغاربة المستعملين للطريق يُفترض فيهم قراءتها لسبب بسيط هو أن رخصة السياقة تُسلم على هذا الأساس، كما أن استعمال اللغة الأجنبية مفهوم إذا ما استحضرنا توافد الأجانب على بلادنا، أما استعمال لغة لا يفهمها لا الأجنبي ولا المقيم فهذا أمر غامض يصعب استيعابه.
وإذا كان الغموض يكتنف الهدف المتوخى من كتابة إشارات للمرور يُفترض فيها توخي الوظيفية لا غير، فإن مجموعة من الممارسات والتصرفات التي أصبحت مألوفة في مجتمعنا بحكم العادة تصبح أكثر غموضا إذا ما أردنا أن نستبين الأهداف المتوخاة منها من جهة، وأن نستجلي وظيفتها في الارتقاء في سلم القيم والثوابت التي يفترض أنها تؤطر هذه الممارسات والتصرفات من جهة ثانية.
ولعل تفشي ظاهرتي الأنانية والتبذير لدى فئة من أفراد المجتمع، قد تنحصر وقد تتوسع حسب السياق، من بين الأمثلة التي أصبحت تطبع تصرفات وممارسات هذه الفئة، والتي تلتقي كلها في ضبابية الهدف، وانعدام الوظيفية. ولنتساءل جميعا عن الأهداف والوظائف المتوخاة من بعض تمظهرات هاتين الآفتين في المجتمع من خلال الأمثلة التالية:
ما الهدف من وراء اقتناء مغربي لسيارة قُدرت قيمتها بأربعة ملايير، وما الوظيفة الأساسية التي لا يمكن لسيارة أقل ثمنا أن تؤديها؟
ما الهدف من اقتناء هواتف نقالة بأثمنة خيالية وتمكينها للأطفال في حالات متعددة؟ وما وظيفتها في الوقت الذي ينحصر استعمالها في عمليات متوفرة في أرخص الهواتف تكلفة؟
ما الهدف من توفر جل العائلات المغربية إن لم تكن كلها على صالون يكلف الكثير على حساب نفقات ذات أولوية؟ وما هي وظيفته إن كان استعماله ينحصر في مناسبات جد معدودة إن وجدت، في الوقت الذي تفتقر فيه جل العائلات إلى مكتبة إذا ما تم استثناء الكتب المدرسية؟
ما الهدف من اقتناء كل ما ظهر من ثياب « جديدة » منها ما يحمل من الجدة إلا الاسم لكونه مفتوقا من كل جهة، ومنها ما يحمل من الإشهار ما يتطلب من شركات الإشهار أموالا طائلة لتغطية تكلفته لو اكتفى الناس بثياب وظيفية دون الإخلال طبعا بالجانب الجمالي فيها، ثم ما وظيفة المخزون من الثياب دون استعمال لدى كثير من شرائح المجتمع؟
ما الهدف من الإسراف في الإنفاق بصفة عامة وفي المأكولات بصفة خاصة، مع العلم أن ذلك يكون سببا في كثير من الأمراض المزمنة؟ وما وظيفة تلك المأكولات التي غالبا ما تنتهي بالقمامة؟
لو اكتفى كل منا بالتدقيق في محيطه القريب فقط، لتمكن من جرد عشرات الممارسات والتصرفات المتعلقة بالإنفاق والتي لا يضبطها هدف معقول يندرج في إطار قيم ديننا الحنيف، ولا تفرضها وظيفتها التي ينبغي أن تتجنب مظاهر العبثية من إسراف وتقتير وغيرهما. وما كان لهذه الممارسات أن تنتشر في مجتمع مسلم يُتلى فيه كتاب الله الذي يميز بين المبذرين الذي قال الله عز وجل في شأنهم « إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا » الآية 27 من سورة الإسراء، وبين عباد الرحمن الذين من بين صفاتهم حسن الإنفاق، حيث ورد في شأنهم « وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا » الآية 67 من سورة الفرقان.
والسؤال المطروح هو ما السبيل إلى الخروج من هذا النفق؟ الذي يمكن أن نُشبِّه دخوله بالدخول في مستنقع للرمال المتحركة بسبب العلاقة الجدلية إن صح التعبير بين الأنانية والتبذير، حيث كلما تم الانغماس في الأولى ارتفع منسوب الثاني والعكس بالعكس. أليس من واجب أولي الأمر تكليف ذوي الاختصاص بالقيام بدراسات جادة للكشف عن أسباب هذه الممارسات واقتراح كيفية استئصالها واستبدالها بممارسات تحمل قيم الإيثار وحب الآخر من خلال تجنيد كل الوسائل المتاحة من وسائط سمعية بصرية ووسائل التواصل الاجتماعي والمدرسة والمسجد و…
ثم أليس من واجب ومصلحة كل منا تحديد الأهداف التي يتوخاها من ممارساته ونفقاته والتحقق من وظيفتها قبل الإقدام عليها حتى نتجنب التبذير والعبثية ونكون مِنْ عِبَادِ الرَّحْمنِ الَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا. والحمد لله رب العالمين.
الحسن جرودي




Aucun commentaire