دفنت الجدة الحاجة,وقام الاهل والاحباب بالواجب في استقبال المعزين,وبعد مضي بضعة ايام كان لزاما علينا مغادرة الدواركل الى وجهته,وكنت من بين المغادرين نحو مدينة زايو حيث مقر عملي بمدرسة ابن بسام الابتدائية,كنت احمل بين جوانحي لوعة اشد واكبر,لوعة الابتعاد عن منبت نبعتي ,ولوعة فراق جدة كنت اعتبرها اما ثانية لما كانت تحمله في قلبها من حب دافق تجاهي وتجاه اخوتي,واعتقد ان هذا الحب الدافق كان نتيجة شوقها  الى من كان سببا في حجها,فزاد ببعده في ديار المهجر حرقة لا تطاق عبرت عنها وهي تكابد سكرات الموت.

غادر الاهل والاحباب,تاركين الدوار الذي ترعرعوا فيه,ورسموا فيه لوحات رائعة بالعاب الصبا,العاب الفروسية,والخذروف,وسريلو مابان,وبوعيزة.غادر الاهل ولعلهم يحملون بين جوانحهم نفس الاحساس والحرقة التي احسهما.

ورغم الاحاسيس المرة التي كانت تراودني,وجدت في الاصحاب بمدينة زايو من الحب والصدق ما كان ينسيني تلك الايام الخالدة التي قضيتها بمدينة تويسيت ومدينة وجدة,ومنهم السيد ميعاد بنعمرو الشاعر الزجال المعروف جهويا,والسيد بلكنش ,والسيد الحاج كريمي ,والسيد كريمي يحي,والمرحوم الحسين كديري وغيرهم من الاخوة,حيث كونا هناك فرقة مسرحية وكنا نتنقل بين القرى والمدن القريبة من مدينة زايو لعرضها في اطار جمعية كونها السيد ميعاد بنعمرو حيث كان يشرف على الجمعية وفي نفس يكتب النصوص المسرحية ويخرجها,ولا زلت اذكر انني لعبت دورا مهما في مسرحية عرضت بسينما اكليم تحت عنوان للا سوسو,وقمت بدور الاسكافي فيها حيث لقيت تشجيعا منقطع النظير من طرف المتفرجين.كما كونت شخصيا فرقة للموسيقى حيث كنت اعزف على الة البانجو,ونردد في المناسبات اغاني ناس الغيوان والمشاهب وجيل جيلالة

كانت هذه الانشطة وعلاقات الاصدقاء الاوفياء بهاته المدينة الجميلة,متنفسا لنا من اجل الاندماج في حياة اخرى غير تلك التي صاحبتنا في ايام الطفولة والدراسة,ورغم ذلك كنت اتوق الى قريتي ومنبت نبعتي,وموطن اجدادي واهلي,ككل شخص يتوق الى مسقط راسه ,وكنت اشارك في الحركة الانتقالية حتى سخر الله لي في العودة الى قرية تيولي المحاذية لقرية تويسيت,في سنة 1986.

هناك وجدت كل ماكان جميلا في ايام الصبا قد تحول الى سراب,لم اعد اشاهد تدفق المياه العذبة بوادي سيدي لخضر,لم اعد اشاهد كلتة سيدي لخضرالمغمورة بالمياه العذبة,ولم اعد اسمع بقربها نقيق الضفادع ,وتنقل السلاحف فيها,كل شيء اندثر واصبحت الكلتة عبارة عن حفرة بها اخاديد يابسة,وزادت يد الانسان من تغيير معالم الدوار,فاقتلعت اشجار البلوط البري,وارتحلت العصافير الى وجهة حيث يطيب لها العيش والتغريد,وعزفت مروج الدوار عن انبات نبتات التالمة والجرجير والتافغة وكانها تريد ان تبين حزنها الحارق,على تلك الايام الخالدة.

ورغم الحسرة على معالم الدوار المندثرة,كانت تترااى لدي تلك اللوحات الجميلة التي رسمت في دوار اجدادي ,وكنت كلما مررت جيئة وذهاب نحو المؤسسة ومنها نحو منزلي بقرية سيدي بوبكر,اتذكر وجبات الشاي البارد وارغفة الخبز اليابس على جبل النفايات الذي بقي شامخا ,وكانه يحرس القرية التي انجبت الرجال الذين اخرجوه من العدم بسواعدهم المفتولة,وصدورهم التي تلقفت غبار المعادن في غياهب المناجم,فغادروا الدنيا بلا رجعة تحت تاثير مرض السيليكوز الذي يفتك بالجهاز التنفسي.

رحمهم الله جميعا,وجزاؤهم عند ربهم على ما اسدوه لهذا الوطن من خير جزيل,وقد تركوا من بعدهم ذرية,لا زالت تخوض في المهمات الصعبة خدمة للوطن,.

تركوا ذرية لا زالت تعترف بجميل قريتها الجميلة,يشدهم اليها شوق ابدي,ولن تستطيع المدن الكبرى بزخاريفها واحيائها الراقية,ان تنزع هذا الحب الابدي من قلوبهم,بل هم ابناء احياء منسية ولكنها خالدة في قلوبهم,كحي طوطو ودوار العبيد والحي القديم والحي الجديد والحي الاوروبي,هو حنين ابدي وارتباط عاطفي,لانه يرسم الصور الخالدة للطفولة البريئة.

لك الله يا قريتي,ومنبت نبعتي,فحبك في قلوب ابنائك ابدي لا يحيد,ولن ينساك الا جاحد لخيرك وخير رجالاتك ونسوتك.  .