Home»International»القرآن الكريم :البنية الإعجازية بين منهج الوجوه وتحليل الحقائق الجزء1 .

القرآن الكريم :البنية الإعجازية بين منهج الوجوه وتحليل الحقائق الجزء1 .

0
Shares
PinterestGoogle+

 

 *-سياق فكري عام:

يتميز النص القرآني الكريم، بتنوع تكويناته النصية ،وبالانسجام التام بين البنية الإطار، وهي سورة الفاتحة ،والبنى المؤطرة المتمفصلة عنها ،وهي السور 113 ،مما يضفي على الخطاب القرآني الحكيم، سمات نصية مسوغة للتفسير البياني، أو التفسير العلمي ،أوالتفسير اللساني، من قبيل تعقد البنية ،وتداخل البنى اللغوية والأسلوبية، والحجاجية ،والحوارية، والإخبارية ،والتاريخية ،والتشريعية، والعلمية ،والعددية… ناهيك عن التزاوج الاندماجي، بين الوجود القائم الذات للرسول الكريم محمد (ص)، والوجود الحكائي داخل الفهرسة القرآنية .مما يسمح بانفتاح المعنى ،واستيعابه لاختلاف عقول المتلقين، وتباين أصولهم، ومذاهبهم ،وعصورهم ،ويحقق جلال الولوج، ولامتناهية الانكشفات النصية ،رغم خضوع النص لمنطق داخلي واحد ،ولمجال لغوي واحد، ونمط أسلوبي واحد ،يقدم تعبيرا واحدا عن حدث قرآني مقدس، ضمن متوالية قرآنية مركبة، تفجر المعنى القرآني، من داخل الجملة القرآنية النواة، ثم تدققه من خلال الجملة القرآنية التفصيلية ،الخاضعة لبنية زمنية خطية، أو ارتدادية ،أو دائرية ،والمتحركة داخل بنية مكانية ،متسمة بالانفتاح أو الانغلاق ،بالاختيار أو الإجبار ،بالقدسية أو الأرضية. مما يشكل دليلا نصيا قويا ،ومستمرا ،على الإعجاز البياني ،ينضاف إلى باقي وجوه الإعجاز الأخرى، كالإعجاز العلمي ،والنبوي ،والعددي…ليخلق التمامية التناغمية بين الآيات الكونية ،والآيات التكوينية ،والآيات النصية.

 ترى ما الفرق بين الإعجاز، والمعجزة ،والمدهش الغريب؟ وكيف تعامل شيوخنا ،وعلماؤنا القدماء ،مع ظاهرة الإعجاز، من وجوه متعددة؟ وما هي الامتدادات الإضافية للمحدثين، في رصد الظاهرة القرآنية، وتحديدا المسألة الإعجازية، في أفق بلورة رؤية جديدة ،لتلقي النص القرآني، وإنجاز قراءة إيمانية، وقراءة تاريخية ،وقراءة لسانية ،تحافظ على قدسية النص القرآني، وبنيته الإعجازية الداخلية ،المتميزة باللاتناهي؟

قبل فحص الإشكالية المركزية ،والإجابة عن التساؤلات الكبرى ،نبادر إلى الضبط المفاهيمي، لثلاثة مصطلحات وهي:

1- المعجزة:

ورد في لسان العرب مادة عجز، أن المعجزة هي : »واحدة معجزات الأنبياء ، عليهم السلام. وأعجاز الأمور أواخرها.والتعجيز هو التثبيط، وذهب ولم يصل إليه.ص691 المجلد الثاني دار لسان العرب بيروت.

بينما الشريف الجرجاني في التعريفات ص184 في المادة 1730 باب الميم مع العين يعتبر المعجزة هي : » أمر خارق للعادة، داعية إلى الخير والسعادة ، مقرونة بدعوى النبوة ،قصد به إظهار صدق من ادعى أنه رسول من الله ».

 

وهكذا يجمع جل الدارسين للظاهرة القرآنية ،على أن المعجزة هي » الأمر المادي الخارق، لنواميس الكون المقرون بالتحدي ،والسالم من المعارضة. » محمد شاهين أبو منتصرأبحاث في علوم القرآن.  يبرهن بها الله على أن الوحي، والرسائل السماوية من عنده، وحده سبحانه .و يثبت بأدلة محسوسة، صدق نبوة رسله وأنبيائه ،عليهم الصلاة والسلام ،في مسعى يروم تقديم تأييد رباني  ،لتبليغ دعوتهم المقررة لمبدأ التوحيد ، وكذا لإفحام الجاحدين، وإقناع المشككين.

 وهكذا أيد الحق سبحانه سيدنا محمدا (ص) بمعجزات حسية  ،تلزم من شاهدها، ويصدق بها كل مؤمن ،مثل السحابة المظللة ،وتفجر الماء، وبركة الطعام ،وانشقاق القمر ،والإسراء والمعراج…كما أيده بمعجزة عقلية كلامية كبرى، وهي القرآن العظيم الذي تحدى الفصاحة العربية ،وبهرها ببيانه، ونظمه، وتأليفه المعجز.

2-الإعجاز:

يفيد مصطلح الإعجاز في لسان العرب ،انطلاقا من الجذر اللغوي « عجز » : « جعل من يقع عليه أمر التحدي بالشيء عاجزا عن الإتيان به، ونسبته إلى العجز، وإتيانه له ، فالإعجاز بالنسبة للمعجز هو الفوت ،والسبق ، يقال أعجزني فلان أي : فاتني ،وبالنسبة للعاجز عدم القدرة على الطلب والإدراك وقال الليث :أعجزني فلان إذا عجزت عن طلبه وإدراكه » .لسان العرب جزء5 ص370 .

 أما الإعجاز في الكلام، فهو عند الشريف الجرجاني » أن يؤدى المعنى بطريق هو أبلغ، من جميع ما عداه من الطرق. » باب الألف المادة 170 ص11 .

أما عبد القاهر الجرجاني ،الناقد الأدبي وصاحب المنهج البياني التذوقي، فيناظر بين مصطلح الإعجاز ،ومفهوم النظم الذي هو » تأليف الكلمات والجمل ،مترتبة المعاني ،متناسبة الدلالات ،على حسب مايقتضيه العقل. » .يقول الجرجاني: »إن الوجه الذي وقع به الإعجاز ،وتحدوا به  العرب، هو الإتيان بمثل القرآن ».ص81 دلائل الإعجاز تحقيق محمود شاكر.

 من هنا فالإعجاز هو التفسير البلاغي، أوالغيبي ،أو العلمي، أو العددي…للآيات النصية ،ومطابقتها مع الحقائق المؤكدة، خارج الخطاب القرآني،  ضمن المجالات العلمية، أو التاريخية، أو التشريعية في أفق كشف دلائل قدرة الخالق ،على إتيان كل ما يعجز عنه المخلوق.

3- العجيب المندهش:

بينما  مصطلح العجيب المدهش، ينفرد به الباحث محمد أركون ،في دراسته العلمية للفكر الإسلامي، حيث يسعى إلى إبراز اهتمامات العقل الإسلامي، وانشغاله بالوحي ،تفسيرا، وقراءة …مما حوله إلى مبحث للإسلام الكلاسيكي ،الذي خاض في قضايا الدين، والنص ،والحقيقة، ثم انشغاله بتأويل مسعى العقلانية الحديثة، في إطار الإسلام التطبيقي، إلى إحداث القطيعة ،وإرساء الأنسنة ،و هدم أسس الإيمان، ورفع القدسية عن النص القرآني، في اتجاه تسوية كلام الله ،بكلام البشر ،من خلال إنجاز قراءة لسانية سيميائية، كان منطلقها الحكاية الشعبية ،وهدفها » دراسة التعبيرات الشفوية، والمعاش ،والمحكي غير المقال، وغير المكتوب ،وغير اللغوي ،المشكل للحقل الإسلامي. » مما يجعلها مغامرة كبيرة ،تنطلق من فرضية خاطئة ،مؤداها أن النص القرآني أسطوري، يتعين قراءته بمعايير الحكاية، ومنهج السرد السيميائي لكريماص، يقول أركون : » الدهش ذهول ،وحيرة من عموم أمر، مفاجئ غير متوقع، أو آسر كالجمال، أو مشكل أو مخيف … » ثم يستطرد: »المدهش، هو الساحر الخلاب، داخل دائرة العقائد الخرافية، والأدب الشعبي ». كتاب الفكر الإسلامي قراءة علمية.

 بيد أن هذا المنهج اللساني السيميائي ،تفتقد إسقاطاته على النص القرآني، للبناء الفكري ،نظرا لاعتقاده بحتمية الانتقال ،من « مرحلة الإنتاج الأسطوري ،والاستهلاك المخيالي للمعنى، إلى مرحلة الربط بين المعاني، وتسييد الذات التاريخية. »   فيتهاوى بتنقيصه من قيمة القراءة الإيمانية، وتقويضه لكل ما له صلة بالوحي، والغيب والإيمان.

*-تعامل القدماء مع مسألة الإعجاز: منهج الوجوه.

لعله من نافلة القول ،الإفصاح عن أول كتاب ألف في باب إعجاز القرآن ،وهو « كتاب إعجاز القرآن في نظمه وتأليفه » ،لأبي عبد الله محمد بن يزيد الواسطي المعتزلي، المتوفى سنة  306هجرية ،ثم تتوالى الأبحاث حول كلام الله عز وجل، متوخية كشف وجوه البيان ،ومواطن التحدي، والرصف، والنظم، والتأليف… مما أثمر علما قائم الذات ، وهو علم الإعجاز ،و علوما أساسية شرعية نفيسة حول القرآن، كعلم القراءات، وعلم التفسير  ،وعلوما أداتية  مساعدة ،عرفت بعلوم الآلة ،ونظريات في اللغة، والنقد ،كنظرية اللفظ ،ونظرية المعنى، ونظرية النظم … في مسعى يروم فهم الخطاب  القرآني ،وتفسيره، وإبراز تكويناته النصية ،والبلاغية ،وتحديد مسافات البعد عن اللسن العربي ،خاصة مع الشعر الجاهلي، وباقي مكونات المنجز الأدبي العربي القديم.

ولعل من كبار علماء الإعجاز ،حسب الباقلاني في إعجازه ص11 ،أبو عيسى  الرماني في كتابه « الجامع لعلم القرآن »، حيث بسط سبعة وجوه هذا ترتيبها :

1-ترك المعارضة، مع توفر الدواعي، وشدة الحاجة.

2-التحدي للكافة.

3-التحدي للصرفة: ( الذين صرف القرآن هممهم ،عن معارضته لإعجازه).

4-البلاغة.

5-الأخبار الصادقة عن الأمور المستقبلة.

6-نقض العادة.

7-قياسه بكل معجزة.

ودفع البحث في هذه الوجوه، الرماني إلى الاشتغال على مبحث البلاغة، وتقسيمه إلى ثلاث طبقات، وفق معيار الإعجاز، ثم حصر مفهومها في : »البلاغة إيصال المعنى إلى القلب، في أحسن صورة من اللفظ » وتحديد موضوعاتها ،في الإيجاز، والتشبيه ،والاستعارة ،والتلاؤم ،والفواصل، والتجانس ،والتصريف، والتضمين، والمبالغة ،وحسن البيان، ثم نفي السجع عن النص القرآني ،لأنه يتحكم في المعنى ،بينما الفواصل تكون تابعة له.

أما أبو سليمان  الخطابي في كتابه  » بيان إعجاز القرآن الكريم   » ،فقد اعتبرأن الإعجاز يشمل كل آية من آيات الذكر الحكيم ،وأن التحدي لا يشمل سورا قصارا، أو آيات بعينها .ولاحظ أن  كلام الله، يخضع لتقسيم ثلاثي :

1-لفظ حامل.

2-معنى قائم به.

3-رباط لهما ناظم.

وهذه نظرة لغوية جد متقدمة، ستتبلور بعد قرون في لسانيات العالم الأمريكي » بيرس ».

على أن أبا بكر محمد بن الطيب الباقلاني، هو أشهر علماء الإعجاز، الذين جندوا مواردهم الفكرية ،والنقدية لتجلية وجوه الإعجاز البياني ،في كتابه القيم « إعجاز القرآن »: »واعلم أن القرآن إنما صار معجزا، لأنه جاء بأفصح الألفاظ ،في أحسن نظوم التأليف، مضمنا أصح المعاني ،من توحيد له عزت قدرته ، وتنزيله له في صفاته ، ودعا إلى طاعته ،وبيان بمنهاج عبادته : من تحليل وتحريم ،وحظر وإباحة ،ومن ووعظ وتقويم ،وأمر بمعروف ونهي عن منكر ،وإرشاد إلى محاسن الأخلاق ، وزجرعن مساويها ،واضعا كل شيء منها موضعه الذي لايرى شيء أولى منه ،ولايرى في صورة العقل أمر أليق منه ،مودعا أخبار القرون الماضية ،وما نزل من مثلات الله بمن عصى وعاند منهم ، منبئا عن الكوائن المستقلة في الأعصار الباقية من الزمان ،جامعا في ذلك بين الحجة والمحتج له ،والدليل والمدلول عليه ، ليكون ذلك أوكد للزوم ما دعا إليه وإنباء عن وجوب ما أمر به ونهى عنه . ومعلوم أن الإتيان بمثل هذه الأمور، والجمع بين أشتاتها حين تنتظم وتتسق ، أمر يعجز عنه قوى البشر ، ولا تبلغه قدرهم ، فانقطع الخلق دونه ، عجزوا عن معارضته بمثله ،أو مناقضته في شكله. » ص17

ويبدو من خلال هذا العرض لوجوه الإعجاز المتعددة، أن الباقلاني يحتفي بالإعجاز البياني ،المؤسس على الأضرب البلاغية، والتأليفات البديعية…  يقول الباقلاني : »إن عجيب نظمه ،وبديع تأليفه، لايتفاوت ،ولايتابين ، على ما لاينصرف إليه ،من الوجوه التي ينصرف فيها . » مفردات الراغب ص400، دون إغفال الإخبار عن الغيب ،والتشريعات الحكيمة ،ودلائل النبوة ،وضرب الأمثال ،وسرد قصص الأولين…

 ويلخص شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى  ،جهود العلماء في البحث عن مظاهر التحدي الإلهي للفصاحة العربية ،في حصر الإعجاز في الوجه البياني وتخصيص أساليب القسم، والاستفهام ،والعطف مع المغاير بمستفيض الدراسات، وفي بلاغة ضرب الأمثال وبيان فائدتها، وسرد القصص، وتكرارها للاعتبار بها من زوايا مختلفة ،وفي الكشف عن مظاهرقوة اللفظ وعدم تكراره، أو ترادفه، وأثره في التعبير عن المعنى العظيم، وفي استجلاء ملامح بلاغية أخرى، كذكر الأصل دون الفرع ،والجزء وإرادة الكل ،وترك ذكر المقدمة الجلية، والخطاب بحسب الحاجة، والحجاج والاستدلال النقلي والعقلي ،وتفصيل كل شيء ،وإظهار معجزات الأنبياء ،والتدرج في التحدي…يقول ابن تيمية : »نفس نظم القرآن وأسلوبه عجيب بديع ،ليس من جنس أساليب الكلام المعروفة ، ولم يأت أحد بنظير هذا الأسلوب » إعجاز القرآن ص 254 .

على أن شيخ الإسلام سيمثل سبقا زمنيا ،عندما سيتعرض للإعجاز العلمي، وسيدفع الدراسات باتجاه أنواع جديدة من الإعجاز في القرآن، كالإعجاز العلمي والعددي والتشريعي…يقول ابن تيمية : » أما الطريق العياني، فهو أن يرى العباد من الآيات الأفقية ،والنفسية، ما يبين لهم أن الوحي، الذي بلغته الرسل عن الله حق . »مجموع الفتاوى جزء14 ص189 .(يتبع)

المراجع:

*-لسان العرب لابن منظور.

*-إعجاز القرآن للباقلاني تحقيق السيد صقردار المعارف بمصر

 *- مجموع الفتاوى لابن تيمية.

*-دلائل الإعجاز للجرجاني.

*-الرسالة الشافية للجرجاني.

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *