« التمثل المأساوي للهوية  » هو العنوان الذي اختاره الزميل سعيد هادف لتأطير الحلقة العلمية لهذا الشهر بمركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية بوجدة يوم الجمعة فاتح أبريل 2011.

تحدث سعيد هادف بنوع من الحسرة عن التجربة الجزائرية في التدبير المأساوي لمسألة الهوية. فالتعصب الأمازيغي كان رد فعل على تضخيم الأنا لدى الاتجاه العروبي والقومي. مما يفسر أن معظم الكتاب الفرانكفونيين كانوا من منطقة القبائل (كاتب ياسين، مولود معمري، آسيا جبار، مولود فرعون…) و ساهموا في تشكيل صورة سلبية للعربي في المخيال القبائلي.  و نتج عن هذا التعامل « الشوفيني » مع العروبة تضخيم الأنا الإسلامية عند التيار « الأصولي » حسب المحاضر وما تلا ذلك من اقتتال ومآسي.  وختم صاحب رائعة « جدار بغلين » مداخلته بالقول: إن العروبة والأمازيغية والإسلام هي إرث جماعي لكل الجزائريين وأن المعركة الحقيقية هي الدفاع عن الحقوق بمفهومها الإنساني. وأن المطلوب هو سياسات عقلانية لتدبير حاجيات المجتمع أي حكومات مدنية تحتضن كل الانتماءات على حد سواء.

تحدث سعيد هادف بنوع من الحسرة عن التجربة الجزائرية في التدبير المأساوي لمسألة الهوية. فالتعصب الأمازيغي كان رد فعل على تضخيم الأنا لدى الاتجاه العروبي والقومي. مما يفسر أن معظم الكتاب الفرانكفونيين كانوا من منطقة القبائل

 

و إن كنت أتفق مع الأستاذ سعيد في مجمل ما قاله، إلا أنني أستسمحه مع ذلك في بسط بعض الملاحظات من أجل تخصيب النقاش وتعميم الفائدة:
1

– واضح من خلال العرض أن الأستاذ يستعمل نفس الجهاز المفاهيمي للكاتب اللبناني أمين معلوف صاحب « الهويات القاتلة ». و يعني معلوف بهذا المفهوم، التعصب الطائفي والمذهبي الذي مزق لبنان وأدخله في حرب أهلية طاحنة أدت بالكاتب إلى الفرار والاستقرار بفرنسا 1976.

2- يعلن معلوف رفضه التصور التبسيطي والقبلي الذي يختزل مفهوم الهوية في مبدأ واحد وثابت، معتبرا أن الهوية، فردية كانت أم جماعية، ليست معطى فطريا استاتيكيا، يعطى دفعة واحدة وإلى الأبد، بل إنها في تشكل دائم على طول الوجود. وهو يتحدث عن تعدد الانتماءات عند كل شخص ولا يخفي إعجابه بتجربة الاتحاد الأوروبي التي تجاوزت مفهوم الهوية الوطنية. سأله صحافي من قناة « أورونيوز » الإخبارية: « أنت لبناني، مسيحي، وعربي، فرنسي، أوروبي. أي من هذه الهويات أحب إليك؟ فرد عليه معلوف، بالقول: كان يقال في الماضي أن أعرابية سئلت: من أحب أبنائك إليك؟ فقالت المريض حتى يشفى، والغائب حتى يعود. وأقول الشيء نفسه بالنسبة لهوياتي. عندما يكون هناك مشكلات في لبنان فأنا أتألم وأشعر بأني لبناني أكثر، وعندما يكون هناك مشكلات في أوروبا أتصرف كأوروبي ».
3

– من الإنصاف أن نؤكد أن أصل الأزمة في القطر الجزائري هو الانقلاب على الديمقراطية ودخول مافيا الجيش في حرب شاملة مع الشعب وتحريك الآلة الإعلامية لتشويه صورة الإسلام وتحميله كل الويلات التي وقعت

 

من الإنصاف أن نؤكد أن أصل الأزمة في القطر الجزائري هو الانقلاب على الديمقراطية ودخول مافيا الجيش في حرب شاملة مع الشعب وتحريك الآلة الإعلامية لتشويه صورة الإسلام وتحميله كل الويلات التي وقعت… و قبل ذلك عانى الشعب الجزائري من سياسة الحزب الوحيد وقمع الحريات السياسية و منع التعددية، أي أن المشكلة سياسية وليست ثقافية. و لا يخفى على الأستاذ هادف أن الاستعمار الفرنسي هو من أذكى النعرة الأمازيغية في بلدان شمال إفريقيا (سياسة فرق تسود) و حاول فرض الظهير البربري الذي انتفض ضده كل المغاربة.
4

– إن القول بالأخوة في الإنسانية عوض الأخوة في الإسلام يناقض مبدأ الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين الذي هو مقرر في عقيدة كل مسلم. و لو كان الأمر بهذه البساطة، لاكتفينا بدستور عالمي واحد تنبثق منه قوانين واحدة قابلة للتنزيل والتطبيق في كل أقطار الكرة الأرضية. و طبعا سيبقى اليهود وحدهم من يتشبثون بهويتهم العريقة وطقوسهم الخاصة التي يعتبرونها مصدر عبقريتهم التي تؤهلهم لقيادة كل شعوب العالم باعتبارهم شعب الله المختار حسب أساطيرهم !
5

– إن الحل في نظرنا لا يكون بالقطيعة مع التاريخ أو بالتنكر للدين و الاندماج الكلي في هوية عولمية، بل يجب أن نتحرر أولا من آثار الغزو الثقافي الاستعمارية ومن رواسب عصور الانحطاط و نعمق في المجتمع الشعور بالانتماء لهذه الأمة و لتاريخها ونجتهد داخل هذا الإطار في إيجاد الحلول لمشاكلنا من غير أدنى عقدة في التعاون مع الآخر، و بذلك تتصالح الدول مع الشعوب وتتحقق التعبئة المجتمعية  الغائبة حاليا في جل أوطاننا العربية. وللمفكر الجزائري مالك بن نبي رحمه الله كلام نفيس في هذا الاتجاه (انظر شروط النهضة).
6

– فإن تحطيم الولاء للوطن ولثوابته العليا كالدين واللغة الرسمية والوحدة الترابية واستبداله بالولاء للإنسانية و »للكرة الأرضية » هو في نظري تمييع لمفهوم الهوية و دعوة للذوبان في نظام قيمي عالمي لم نستشر فيه و لم نشارك في صياغته

 

و أخيرا، فإن تحطيم الولاء للوطن ولثوابته العليا كالدين واللغة الرسمية والوحدة الترابية واستبداله بالولاء للإنسانية و »للكرة الأرضية » هو في نظري تمييع لمفهوم الهوية و دعوة للذوبان في نظام قيمي عالمي لم نستشر فيه و لم نشارك في صياغته. و هو يعني القبول بسمو المرجعية الكونية لحقوق الإنسان ولكل التشريعات ورفع كل التحفظات على الخصوصيات الثقافية أو الدينية لكل بلد. فهل نحن مستعدون للاعتراف بحقوق الشواذ في التنظيم والتظاهر العلني والدعوة إلى شذوذهم؟ وهل نحن مستعدون لإباحة الزنى باعتباره حرية شخصية؟ وهل يجب التساهل مع الجهر بالإفطار في رمضان و السياحة الجنسية؟

إن طرح « الهوية الإنسانية » قد يبدو نبيلا ومثاليا في الظاهر إلا أنه في العمق يحمل بذور النموذج الاستئصالي التونسي الذي أفسد في الأرض باسم قيم الحداثة والحرية. فلا بد من تحديد: من نحن؟ وما ذا نريد؟ طبعا بعيدا عن أي تعصب أو شوفينية.
و إذا كانت المادة الأولى من الدستور الجزائري تقول: « الجزائر جمهورية ديمقراطية شعبية »، فإن الدستور المغربي كان صريحا منذ البداية: « المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة ».
أما الدستور المصري فيحدد هوية الدولة كما يلي:   » جمهورية مصر العربية دولة نظامها ديمقراطي يقوم على أساس المواطنة والشعب المصري جزء من الأمة العربية يعمل على تحقيق وحدتها الشاملة »
وقد رأينا كيف هب المصريون جميعا للتصويت على التعديلات الأخيرة التي تنص صراحة أن دين الدولة في مصر هو الإسلام ، وأن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع ، وأن اللغة العربية هي اللغة القومية لمصر ، وهذا كما يقول الدكتور محمد عمارة: » جزء أصيل وموروث من تاريخ مصر الإسلامية ، الذي مضى عليه أكثر من أربعة عشر قرناً. وهو تعبير عن هوية الدولة والمجتمع والأمة والحضارة، مثلما تعبر « العلمانية » عن هوية بعض المجتمعات ، وتعبر « الليبرالية » عن هوية مجتمعات أخرى.  »
محمد السباعي