Home»Débats»غلاء الأسعار: الأسباب والعلاج

غلاء الأسعار: الأسباب والعلاج

0
Shares
PinterestGoogle+

بسم الله الرحمن الرحيم

الحسن جرودي

غلاء الأسعار: الأسباب والعلاج

يقول عز من قائل في الآية 13 من سورة الحجرات « َيا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ » ويقول في الآية 32 من سورة الزخرف « نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ». ويُستفاد من تفسير الشيخ الشعراوي للآيتين أن التعارف الوارد في الآية الأولى يستلزم تبادل المصالح التي تختلف باختلاف قسمة كل واحد في الحياة الدنيا، مما يستلزم اختلاف الدرجات حتى يتسنى استفادة البعض من البعض الآخر، علما أن رفع درجات البعض فوق البعض الآخر لا تعني بأي حال من الأحوال أن درجة الغني أرفع من درجة الفقير على سبيل المثال، وإنما تعني فيما تعنيه أن درجة الحِرَفِيِّ الجاهل قد تكون أرفع من درجة العالم الغني عندما يحتاج العالم للحرفي، والعكس بالعكس لأن الآية لم تحدد البعض المرفوع درجتُه.

من هنا يتبين أن حياة الناس في مختلف المجالات لا تستقيم بدون التعارف والتسخير، وهو الأمر الذي يستلزم آليات عملية لتبادل الخدمات من قبيل التبادل الثقافي والتجاري بين الأمم، وداخل الأمة الواحدة على حد سواء، وبما أن الإحاطة بالموضوع في شموليته تستلزم الإلمام بمختلف المتغيرات paramètres المحلية والعالمية المتحكمة في عمليات التعارف والتسخير، فسأكتفي بآلية التبادل التجاري وبعض عناصرها الأساسية التي تتدخل في تحديد أسعار المواد والسلع المعروضة للبيع على المستوى الوطني.

 وبما أن نتيجة عملية التبادل التجاري تتحدد من خلال طبيعة التفاعل بين هذه العناصر، فقد ارتأيت أن أقيس عناصر العملية التجارية على عناصر العملية التواصلية، بسبب وجود نوع من التماثل على التوالي بين كل من المرسل والرسالة والمتلقي من جهة، والمنتج والمنتوج أو السلعة والمستهلك من جهة ثانية، مع العلم  أن الرسالة كما السلعة تحتاج إلى وسيلة لإيصالها، وإلى تغذية راجعة يتأكد من خلالها المرسِل بمدى نجاح عملية التواصل مع المتلقي بنفس القدر الذي يتأكد منه المنتج بمدى نجاح العملية التجارية من خلال استجابتها أو عدم  استجابتها لحاجة المستهلك، دون أن نغفل على أن العمليتان لا تخلوان من عناصر التشويش التي تختلف باختلاف البيئة التي تتم فيها كلتا العمليتان، فكما يمكن لعملية التواصل أن تبلغ الهدف المتوخى منها إذا توفرت لها بيئة خالية من المؤثرات الخارجية، من أصوات وغيرها من العوامل التي تؤثر في جودتها، يمكن للعملية التجارية أن تمر في بيئة تتوفر فيها المواصفات التي يتم من خلالها إنصاف كل من المنتج والمستهلك، كما يمكن أن تنعدم فيها بعض هذه المواصفات أوكلها، مما ينتُج عنه الإضرار بأحد طرفي العملية أوكلاهما، ويمكن على سبيل المثال لا الحصر الإشارة إلى مدى خلو الساحة من المحتكرين، وإلى مدى تقنين وضبط عملية الإيراد والتصدير، وإلى مدى ملاءمة طبيعة وسائل النقل المستعملة، والشبكة الطرقية المتوفرة، لطبيعة السلعة التي يتم جلبها من منطقة لأخرى، مما يؤثر على الحفاظ على جودة المنتوج من جهة، وعلى مدى الالتزام بمواعيد توصيل السلع إلى أصحابها، يضاف إلى ذلك مدى وجود ضوابط لتحديد هامش الربح والحد من تحكم الوسطاء في السوق إلخ…

وإذا كانت جودة العملية التواصلية المتمثلة في تمرير الخطاب من المرسل واستيعابه من المتلقي مرتبطة بمختلف العناصر المكونة لها، فجودة العملية التجارية مرتبطة أساسا بمدى رضا (satisfaction) طرفيها، وذلك من خلال حصول المنتج على هامش ربحي معقول من جهة، وعدم تجاوز القدرة الشرائية للمستهلك من جهة ثانية، مع ضرورة توفر الحد الأدنى من معايير الجودة في المنتوج، هذا إذا اعتبرنا وجود علاقة مباشرة بين المنتج والمستهلك، وهذا أمر أصبح غير متاح في أغلب الأحيان، إن لم يكن منعدما لأسباب متعددة ومتداخلة يصعب التطرق إليها في هذا المقال المقتضب، مما استلزم تدخل وسيط بين المنتج والمستهلك.

ونظرا للأهمية التي أصبح يكتسيها الوسيط في تيسير العملية التجارية، فإنه من الصعب الاستغناء عنه، ومن ثم فإن الأجر الذي يتلقاه مقابل عملية التوسط يضاف في آخر المطاف إلى المصاريف التي تحدد الثمن النهائي للمنتوج، ومع ذلك فليس ضروريا أن يرتفع ثمن المنتوج إلى مستويات قياسية لولا كثرة الوسطاء الذين يتصف عدد كبير منهم بالجشع الذي يجعل من الربح السهل والسريع هدفهم الأساسي في الحياة، الأمر الذي يُستباح معه استعمال مختلف الأساليب اللاأخلاقية، من مثل الاحتكار، أو إتلاف جزء من المحصول بهدف التحكم في الكمية المعروضة ومن ثم التحكم في الأسعار. ولا شك أن شيئا من هذا القبيل قد وقع ويقع بالنسبة لبعض المواد الاستهلاكية التي بلغت أسعارها أثمانا قياسية ما كان أحد يتصور أنها ستبلغها في بلد كالمغرب بنى سياسته الاقتصادية على الفلاحة.

ومما يؤكد الدور « الخبيث » واللاأخلاقي لبعض الوسطاء والمضاربين، ما جاء بمقال صَدَر بجريدة هسبريس، يشير فيه صاحبه إلى تهاوي سعر الحبوب بالسوق الوطنية في الأيام الأخيرة، مشيرا إلى أن ذلك راجع إلى تحكم المضاربين في السوق بخفض الأسعار ثم رفعها بعد استجماع المحاصيل.

وللحد من تحكم هؤلاء في السوق، كان لزاما على الجهات الحكومية المعنية التدخل بقوة وحزم، لتحديد الأسعار بما يضمن للمنتج فلاحا كان أو غيره من المنتجين على اختلاف مجالاتهم استرجاع تكلفة الإنتاج وهامش من الربح يشجع على مواصلة الاستثمار كل في مجال اختصاصه، علما أن إنتاج الحبوب والمواد الاستهلاكية الأساسية يكتسي الأولوية، مع العلم أنه من مسؤولية الدولة سن قوانين واعتماد كل الآليات التي تمكنها من التحكم في الأسعار خلال السنة كلها بما يتناسب مع القدرة الشرائية للمواطنين خاصة فيما يتعلق بالمواد الأساسية.

وعلى الرغم من الدور الذي يتعين على الدولة القيام به، فإن ذلك لا يعفي المواطنين من مسؤوليتهم في ارتفاع الأسعار، وذلك بسبب العقلية الاستهلاكية التي أصبحت سائدة لدى معظمهم، والتي دخلت بسببها مجموعة من المواد التي كانت إلى عهد قريب تعتبر من الكماليات حقل الضروريات، ذلك أنه في الوقت الذي نجد فيه وسائل التواصل الاجتماعي تغص بالشجب والاعتراض على غلاء الأسعار، يبرهن الواقع على مواصلة عموم المغاربة، وعلى رأسهم المنتمون للطبقة المتوسطة، الإقبال على استهلاك ما ليس  ضروريا للقوت اليومي بنفس الوتيرة التي سبقت مرحلة الغلاء، وإلا كيف نفسر الإقبال اليومي للناس على المقاهي دون سبب وجيه، وعلى اقتناء تذاكر المباريات الرياضية والحفلات الموسيقية، وكيف نفسر الاستمرار في الاستعمال الفردي للسيارة في الذهاب إلى المقهى أو غرض ثانوي، وكيف نفسر الإقبال على اقتناء ما جد من السيارات عن طريق السلف بالربا،… والمثير للاستغراب ما ورد في أحد مقالات هسبريس بحيث يستنكر نشطاء مغاربة ارتفاع الأثمان المتعلقة بحضور حفل لفنان لبناني كان يُفترض تنظيمه يوم 26 ماي الجاري في ”كابو نيگرو“ ضواحي تطوان، معتبرين أنها « باهظة جدا في ظل الأزمة التي تعيشها البلاد وموجة غلاء الأسعار »، مشيرين إلى أنها لا تتناسب مع قدرة المواطن المغربي الذي يبحث عن سبل للترفيه، مع الإشارة إلى أن ثمن حضور الحفل يتراوح بين 7500 و12000 درهم وأن بيعها شهد رواجا كبيرا حسب نفس المقال.

يبدو أن استئناس المغاربة بثقافة الاستهلاك على الطراز الغربي،A أصبحت من السمات التي تساهم بشكل كبير في غلاء الأسعار، مع العلم أن مرجعيتهم الإسلامية تستوجب منهم الحذر من التبذير والإفراط في الاستهلاك والتنعم لقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل » إياكَ والتنعُّمَ فإن عِبَادَ اللهِ ليسُوا بالمتنعِّمينَ » كما أن الترف قد يؤدي إلى الفسق الذي يؤدي بدوره إلى الهلاك والدمار مصداقا لقوله تعالى في الآية 16 من سورة الإسراء « وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ».

في الأخير أعترف أن الموضوع أعقد مما يُتصور، خاصة وأن النموذج الاقتصادي الغربي المبني على الربا والاحتكار أصبح هو السائد، في نفس الوقت الذي يبسط فيه النموذج الاستهلاكي والقيمي الغربي هيمنته حتى على بسطاء المغاربة، ومن ثم فالأمر لا يمكن إلا أن يزيد تعقيدا ما لم يتم القطع النهائي إن على المستوى الرسمي أو المستوى الشعبي مع كل الممارسات التي لا تستمد شرعيتها من دين المغاربة وعقيدتهم المبنية على نبذ كل مظاهر الاستغلال، التي يُعتبر الربا والاحتكار وتأليه الفردانية من أهم تمظهراتها، في نفس الوقت الذي تحث فيه على التعاون والإيثار والتكافل الاجتماعي الذي بدا واضحا خلال جائحة كورونا. ولعل شعيرة الزكاة في حالة تطليق النموذج الغربي من شأنها لوحدها أن تعالج مشكل الغلاء الذي يمكن أن ينتُج عن ظواهر طبيعية كالجفاف والفيضانات، والبَرَد، وضياع المحصول لأسباب متعددة كالجراد وبعض الحشرات المجهرية…لو تم اعتماد الآليات الشرعية لصرفها. ولعلي لا أجد لختم هذا المقال أبلغ من شعر أبي العلاء المعري رحم الله حيث قال:

يا قوتُ ما أَنتَ ياقــوتٌ وَلا ذَهَـــبٌ     فَكَيفَ تُعجِــــزُ أَقواماً مَساكيــنـا

وَأَحسَبُ الناسَ لَو أَعطَوا زَكاتَــــهُمُ     لَما رَأَيتُ بَني الإِعدامِ شاكيـــنـا

فَإِن تَعِش تُبصِرِ الباكينَ قَد ضَحِكوا     وَالضاحِكينَ لِفَرطِ الجَهلِ باكينا

الحسن جرودي

 

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *