Home»National»رحلة الشاعر في واقع موبوء: قراءة في ديوان – اول المنفى – للشاعر المغربي علي العلوي

رحلة الشاعر في واقع موبوء: قراءة في ديوان – اول المنفى – للشاعر المغربي علي العلوي

0
Shares
PinterestGoogle+

يشق الشاعر المغربي علي العلوي صدر الإبداع بديوانه " أول المنفى" ليترك بصمة قوية في المشهد الشعري إلى جانب الشعراء في هذا الجنس اللذيذ. شدتني المجموعة بقوة شكلا ومضمونا ، لِما يتوزع تحت رخامها من لآلئ ثمينة؛ فقررت أن أنبش صخرها لأبلغ زيتها.

1-الغلاف:
قبل اقتحام بوابة المجموعة، سأتناول الغلاف، فهو وحده تلزمه دراسة خاصة. وأول ما يسترعي القارئ هو اللون الأسود كرمز للظلام الدامس، ويُقصد به الوجود الملتبس، وما يكتنفه من إبهام مطلق .. تتوسط الغلاف كرة تحمل رسوم خرائط بنفس اللون ، وحولها هالة ضوئية، وتعني الأرض وما يهيمن عليها من إطناب معتم، أو ما يختزله الواقع من جور وظلم واستبداد، وغياب كل القيم النبيلة في حلكته من حب وتضامن وإنسانية.. وهالة الضوء المحيطة تحيل على الأمل ؛ فالشاعر مازال متشبثا بشروق الأمل في المستقبل، وتغيير الواقع الملوث إلى آخر نظيف.. من الكرة يتدلى إنسان أسود وقد شد وثاقه إليها بصورة بشعة وتعني بالمباشر ما يكابده الإنسان على وجه الكرة الأرضية من قسوة وتعذيب وظلم ووحشية.

2- المضمون:
ما يحمله الغلاف هو نفسه ما تجسده مجموعة الشاعر الشعرية؛ فالشاعر قد واكب أحداثا مأساوية في الغالب كانت سياسية، فشد عينيه إلى الواقع وأحلامه وأشواقه ومخاوفه، فجاء شعره يعبر عن الناهض من الحياة ، بدلالات هادفة ، ومعان مكتنزة ، وبوح مطرد، كرسالة حقيقية توقد النار في النفوس ، وتوقظ الإحساس الدفين ، من خلال رؤيا مركبة من نزوع عاطفي صادق، ومن تباشير وعي واقعي ، يبدو الحلم في ضوئه جامحا .. يكاد يتقمص الواقع بآلامه بجراحه بمآسيه، لكن هذا الواقع لا يلبث أن يكبح هذا الجموح، ويشد أجنحة الحلم إلى أوتاده شدا وثيقا، وتهيمن الرؤى ، فيتخذ الشاعر الواقع الموبوء إطارا لعمله الشعري ، ويكشف بين قصائده عن تمرده عليه بشدة.

*الشعر الإنساني:
يمكن تبويب المجموعة الشعرية في الشعر الإنساني؛ فالشاعر أسرج قلمه لكل الفئات العمرية دون شروء مُسْتوف لكل فئة حقها ، فبكى الصغار وأشاد بخصال الشباب، وافتخر بنضال الشيوخ ، وحتى المرأة خصها بقسط وفير من أشعاره. وتتنوع أشعاره ما بين البوح والافتخار والرثاء والبكاء انطبعت بعدة خاصيات : كالصمت والهجر والفراق والموت قلما نجدها لدى غيره .. ومن حافة ثانية تُبيّن مدى رهافة حس الشاعر وحبه للإنسانية.

1– الصمت والبوح:
الصمت المفروض يقُضّ مضجع الشاعر أحيانا ، فينعقد لسانه عن البوح، لإفراغ ما يتأجج في العمق من حكايات لن يطفئ لهيبها إلا التعبير عنها أساسا:

من صمتنا
تنمو الحكايا
مثل سنبلة
(ص:44)


وأحيانا أخرى يرى الشاعر أن الصمت ليس حلا إيجابيا،لأن الصمت معناه الجمود أو الموت وعدم الحراك ، والقضايا لا يفك مشبكها الصمت:

الصمت صار جنازة
لا تنتهي
(ص:53 )

ويتأمل الشاعر الصمت المطلق بمنظور آخر : أي موت الضمائر والنفوس، موت القيم والعلاقات الحميمية ، وبصوت جهير يعلن صرخته حتى تصل إلى الآذان الصاغية ، ليجلجل الأحاسيس ويحرك الأعماق:

كل شيء صار صمتا
كل شيء صار موتا
كل شيء صار موتا في المدينة
هل أتتكم صرختي بين السواقي
(ص:64 )


فيلتجئ الشاعر دون شعور إلى البوح لينسى مرارة العذاب:

ولتعيدوا
ما تبقى من حكايا
فلعل الحكي
ينسينا العذاب
: 18)

2- الرحيل والغياب:
الشاعر مفجوع برحيل الأصحاب و الأصدقاء الذين قضى معهم أحلى سنوات العمر في مرحلتي الطفولة والشباب .. والحرقة فاضت بالشاعر حد تعداد الأيام التي تبرق بذكراياتهم أثناء بعض اللقاءات، ويرجع السبب إلى تشتيتهم من جهة ، ومن جهة ثانية إلى البحث عن الرغيف:

ثم يشردنا الرغيف
من كان يدري أننا سنصير أطيافا
(ص:5)


ولمّا يصلى الشاعر نار الشوق ، وتمر عليه سنوات عجاف ، ولا يلتقي بصحبه، يأخذ في مناجاتهم واحدا واحدا ، موجها كلامه لأحد الغائبين بأن غيابه لن يطول:

فلا يا صديقي
غيابك
لا…لن يطول
(ص:11)


وتارة أخرى يتأجج الألم فلا يأمن لواقع غدا مجمع المآسي والآلام ، يقتل الأحلام ، ويغتال الآمال المنشودة. وحين يفشل الشاعر في تحقيق الأهداف المتوخاة يأمر أصحابه بالرحيل:

فخذ
فانوسك المتهالك المنهوك
وارحل
(ص:19)


ومع ذلك يبكي الشاعر فراق ورحيل الأعزاء الذين يتركونه وسط العذاب ، وهذا بكاء خاص لأنثى اختارها الشاعر ليبوح لها بسر أهواله الدفينة، قد تكون صديقة أو أختا أو زوجة:

أنت مسعى اختياري
أرى فيك
مرآة بوحي الدفين
(ص:21وص:22 )

والرحيل بكل أنواعه أخذ من الشاعر مأخذا سواء الرحيل المؤقت أو الأبدي ، حيث يتصلب فيه على جمر الفراق ملتاعا بذكريات أليمة في ظل وحدته الموحشة ،لا يعيش فيها إلا على أطيافها.

3- الموت والرثاء :
على غرار الشعراء القدامى ألبس الشاعر بعض قصائده مذهب الرثاء ، في حلة لازمة بنائية حداثية بالطبع .. متأملا فاجعة الموت الذي يخطف يني آدم من بين الأحضان ، كاويا أحبته بجمر الفراق بعد الألفة .. ففي قصيدة " صمت الرحيل" يرثي محمد الدرة رمز القضية الفلسطينية ، وعنوان المذبحة الصهيونية الهمجية ، متقمصا شخصية الأب والابن في نفس الوقت في مسرحية درامية مفجعة :


لا أريد
أن أموت
قلتها
ثم رحلت
كالملاك
يا محمد
(ص:27)


يشيد الشاعر في هذا الباب بخصال صديقه التي كان يتحلى بها تاركة في نفسه وقعا أليما:

وكانت صلاتك
بعد غياب الصحاب
دويا يهز شقاوتنا
(ص:39)


يخاطبه أن موته سيزيد من الحماس، ويشعل فتيل اليقظة من جديد ، ويتذكره الأصدقاء مهما طال الزمن:

سيصبح قبرك
جسرا جديدا


ويقول أيضا:
ويذكرك الأصدقاء
طول المساء
(ص:40)


ونلاحظ بالملموس أن الشاعر في رثائه جاب الفئات من مختلف الأعمار أيضا: الرجال ، والشباب، والأطفال ذكورا كانوا أو إناثا، وهذه مرثية فاطمة التي قد تكون ابنة الجيران، أو أخته أو رمز لطفلة ما ، يبكي بشدة رحيلها وأشياءها الصغيرة، التي خلفتها كذكرى مؤلمة:

وسريرك المكلوم
صار سحابة لا تمطر
ودفاتر التاريخ والجغرافيا
(ص: 53 )

4- المنفى:
وينعطف الشاعر إلى الفراق من نوع آخر: المنفى حيث الوحدة والعزلة والصمت .. هذه الأشياء مجتمعة لم تنسه ما مضى ، بل هي باعث حقيقي لحقبة زمنية ممتلئة ، اندفنت في ذاكرته ، ويعيشها بتأجج أكثر ، وبألم أكبر: على مراياها تتفرد القضايا الإنسانية ، من موت الأصدقاء ورحيلهم، وهجرة الآخرين، وكل التفاصيل الناجمة عن الانكسار:

غيمة سوداء
تحملني إلى المداشر
(ص:33 )


ويقول أيضا:
أحتمي بالصمت
هل للصمت ذاكرة
تنسيني تفاصيل انكساري
(ص:33 )

5- الأمل والحياة:
فكما تحدث الشاعر عن فراق الأحبة الغائبين: الأموات منهم والأحياء المُهجّرين أو المغتربين أو المنفيين فهو لم ينس الحاضرين ، ففي قصيدة "لوعة الروح" يعبر الشاعر عن الأفكار النيرة التي تنتفض بالرفض لواقع مزر، وسرعان ما تنطفئ شرارتها من طرف الطغاة الذين يخافونها ، حتى لا تفضح سياساتهم الغاشمة:

وهو شرارة الجرح
يخشاه الطغاة
(ص: 47 )

أيضا:
واحترقت قصائده
بألوان الشتات
: 48 )


ويشغف الشاعر بالمناضلين، الذين لهم غيرة عل تغيير الواقع المنبوذ بنضالهم حتى آخر رمق في حياتهم .. وهذه إشادة بتضحية أحد الشيوخ المتواصلة وهو يحترق من أجل إسعاد الآخرين:

كل عام يموت
وفي يده
شعلة من دماء
كي يطل علينا بمشيته
حاملا
يوم مولدنا
(ص:59 )


ويدعو الشاعر بكل أمل الكل لجعل اليد في اليد وتكثيف المواعد ، والنضال من أجل غد مشرق ليكمل ما ابتدأه الأولون، ويترك بصمة للآخرين في الزمن المقبل:

وهيا بنا
نتمدد في البعد
من أول اليد
(ص:76 )


والأمل يتلألأ في فضاء الشاعر عازما بروح نضالية عالية وتحد كبير على تغيير الوضع، وله ثقة كبرى في أن يصل إلى ما خطه:

عما قريب
سوف أشعل ما تبقى
من رماد
(ص:77)


يبقى شيء واحد لم يهتد إليه الشاعر ، وهو البحث عن نقطة البدء ليتابع سيره نحو المرفأ الوضيء:

من أين أبدأ
خطوتي الأولى
(ص:78 )

*اللغة :

الشاعر خلخل بنية الشعر المباشر بالتعبير غير العادي متخطيا القوالب الجاهزة بلغة لا تعاسره نقحها من الشوائب التي تقتل الشعر .. متحررا من أية قيود، باحثا عن صوته الفردي، وشخصيته الفنية الخاصة ، موغلا في مناطق بكر تجانس بنية القصيدة ، فارضا رؤيته الخاصة ، فغدت قصائده عذبة كالسلسبيل ، محتفظة بموسيقاها الجميلة ، ومستواها الرمزي المدهش ، راكضا نحو تأدية وظيفته.
قد خص الشاعر جل قصائده بضمير المخاطب ، وهذه ميزة قلما نجدها لدى غيره من الشعراء، فهو يخاطب أشخاصه موجها رسالته ، ليفض أحجبة الصمت المجتاحة من جهة، ومن حافة ثانية يبوح بما يفور تحت الضلوع، ليستنهض الضمائر ، ويوقظ النوام الخاملين في نعاسهم الطويل، داعيا إياهم بشهامة وروح التفاني في النضال، لتغيير الواقع العقيم.
من خلال ما تقدم يعتبر شاعرنا علي العلوي من رواد قصيدة التفعيلة المرموقين ومن الشعراء الذين يختزلون الهموم الإنسانية في إبداعاتهم بمشاعر صادقة وحس مرهف.

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

3 Comments

  1. س
    25/09/2007 at 17:51

    تحية إبداعية لزميلي في المهنة وفي محنة القلم علي العلوي، وتحية أخرى للأستاذة الجليلة مالكة عسال،
    لقد أعادتني هذه القراءة إلى اجواء الديوان الثري والمتنوع والقوي بناءا ومضمونا.
    أحييك أخي المبدع الواعد لجمعك بين العمق، والقوة والجمالية.
    لقد امتعتنا دو شك.
    تحياتي الإبداعية.

  2. saadia slaili
    25/09/2007 at 17:51

    لقد أعادتني هذه القراءة في ديوان زميلي في العمل وفي محنة القلم علي علوي إلى أجواء قصائده الخصبة والغنية،
    أشكرك لأنك حققت لقرائك متعة وعمقا وفائدة بنصوصك المتنوعة والرائعة.
    متمنياتي بالتوفيق.

  3. علي العلوي
    26/09/2007 at 22:33

    الأخت المبدعة سعدية اسلايلي
    رمضان مبارك سعيد
    مررت من هنا، فوجدت تعليقك الكريم الذي ورد في غاية اللطف والكرم.
    أنا بدوري أحييك وأتمنى لك المزيد من التألق في عالم الكتابة الروائية.
    ولعل باكورتك « الجبال لا تسقط » تنم عن كاتبة خبرت خصوصيات الكتابة الروائية بعدما استشعرت بعمق آلام الآخرين وآمالهم.
    ………………………………………….
    دمت للإبداع يا أيتها الأخت الطيبة

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *