Home»National»فراغ بين الدعامتين

فراغ بين الدعامتين

0
Shares
PinterestGoogle+

شحلال محمد
كان لمادة الصوف بالبادية دور كبير في حياة الأسر،حيث ظلت تصنع منه أهم المفروشات والملابس التي تحقق بعض الاكتفاء الذاتي ،ذلك أن الجلباب والبرنس الصوفيين،كانا يغنيان عما سواهما،بل إن كثيرا من الأسر كانت تصنع كذلك الجوارب وأغطية الرأس ،من هذه المادة التي تجعل من تربية الغنم شرطا أساسيا لإثبات الوجود ،في ظل التنافس المحموم بين ربات البيوت في توسيع فوائد الصوف والتباهاي بإتقان منتوجاتها.
كانت الخيمة مقرا أساسيا للعوائل على مر العصور ببلدتنا، إلى درجة أن بناء أولى البيوت، لم يفلح في إلغاء الخيمة التي كانت مكوناتها وهندستها مؤشرات على مقام ساكنيها بين الساكنة.
توزعت الخيمة بين ،،أجنحة،،مختلفة لكل منها محتوياتها وأدوارها،لكني أقتصر اليوم على ركن خاص ،أعني وسطها حيث تنتصب دعامتان خشبيتان تسمحان بعلو الخيمة وضمان توازنها.
كانت الأسر تثبت بين الدعامتين عمودا خشبيا يرفع فوقه الفراش والأغطية،وكان هذا العمود الخشبي قد اصطلح على تسميته باللغة المحلية ب: (أعموذ نتمراروث) أو،، خشبة الفراش،،بالتقريب.
كان الفراش والغطاء المتناوبين على هذه الخشبة،يكادان أن يكونا نسخا متقاربة في كل الخيام،ذلك أن الحصير يغطي التراب،ثم يليه فراش مصنوع من بقايا القماش أو ما يعرف ب: ،، بوشراوط،، ،وفي أحسن الأحوال فهو عبارة عن زربية من درجة ثانوية يطلقون عليه: ،،الطاك،،( بتشديد الطاء والكاف معجمة).
يعرف المكان الواقع بمحاذاة الدعامتين ب،،ثيسي،، ومن رمزيته،أنه يخصص لنوم الضيوف،بينما يتوزع أفراد الأسرة بين أجنحة الخيمة،حيث يتدبر كل شخص أموره في تصريف الليل.
لم يكن الأهالي ليظلوا سجناء التقاليد المتوارثة في متاع الخيمة،لذلك عمدت بعض الأسر إلى الإعلان عن رقيها الطبقي من خلال اقتناء أو صنع الزربية المزركشة أو ما يعرف ب:ثراشنا،،أو،،الكطيفة،،باللسان الدارج.
كان اقتناء الزربية وامتلاك ،،الدواب الكبيرة،،من بغال وخيل، من مظاهر خروج الأسرة من دائرة الكادحين، والانتقال إلى مصاف الأسر التي تخلت عن الشعير لصالح الدواب، ليصبح استهلاك خبز القمح دليلا على النقلة النوعية للأسرة !
لقد كان لحلول الزربية وقع خاص،حيث أرغمت،،بوشراوط والطاك وأخواتهما،على الترجل والتحول نحو وجهة أخرى،ليصبح العمود الخشبي بين الدعامتين،مقرا خاصا للوافد الجديد.
ما لبثت،،ثراشنا،،أن تحولت إلى أحد أهم مقاييس رقي الأسر،حيث كان مالكوها يتباهون بتخصيصها لمجلس الضيوف الكبار ،الذين لا ينسون هذه الالتفاتة المعبرة عن مظاهر الحفاوة والرفع من الشأن.
في أواسط الستينات من القرن الماضي،حصل إقبال منقطع النظير على اقتناء الزربية، بل إن أشخاصا متخصصين في ديكورها ،قد تحولوا فجأة إلى عملة نادرة،ذلك أن التنافس الشديد،قد جعل هؤلاء يبرمجون أنشطتهم على مدار السنة، بما في ذلك قبول شروط العمل من أكل متميز وأتعاب لا تقبل التفاوض.
استطاعت الزربية بمواصفاتها التي برع فيها المزركشون، فرض وجودها كتحفة ضمن متاع الخيمة،وظل العديد من الناس يستعيرونها بعد التوسل والتزلف أحيانا، لإحياء الأفراح أو إرضاء الضيوف الغالين،مما جعل جل الأهالي يحلمون بامتلاك هذا المتاع الذي بخس المطارف والحشايا المتوارثة،ليصبح عنصرا لا بد منه لطي مرحلة عمرت طويلا.
وبقدر ما حملت الزربية من قيمة مضافة في أوساط الأسر ببلدتنا على الخصوص،فإنها ما لبثت أن تحولت إلى مصدر إزعاج مجاني.
لقد أصبح مالكو الزرابي من الطراز الرفيع، مضطرين لوضعها رهن إشارة الشيخ والمقدم في بعض المناسبات الوطنية ،لينتزع منها كبرياؤها وتدوسها الأقدام أياما طويلة،قبل أن تعود إلى أهلها وقد فقدت رونقها وبهاءها.
ليت الأمر توقف هنا،فقد كان على مالكي هذه الزرابي أن يتعرضوا لابتزاز أعوان السلطة ومساوماتهم في حالة إبداء التردد أو مظاهر الرفض والامتناع،مما يجعل الضحية يرغم على نقلها ثم استرجاعها مكرها في تلك السنوات التي وصل فيها التعسف ذروته.
عندما فقد مالكو الزربية استقلالية التصرف فيها، وتسخيرها في الغايات والمرامي التي صنعت من أجلها،فإنهم سرعان ما شرعوا في التخلص منها وبأبخس الأثمان ،لسد الذرائع أمام المخزن الذي كان يهين متاعا ثمينا، حيث يجرده من هالته وقدسيته ليتعرض لكل أشكال التدنيس.
مازلت أذكر كيف أن أحد مشايخ دوارنا، قد عاد ذات يوم من سوق تاوريرت وهو يكاد يذرف دموع المرارة بعدما تخلص من زربيته،،العزيزة،،بثمن بخس لأن،،السكارى،، قد دنسوها بروائح الخمور في إحدى المناسبات الوطنية الشهيرة يومئذ !
مضى عهد الزربية والصوف عموما بسبب تحولات عديدة،وفي مقدمتها تطور صناعة الأغطية التي غزت الأسواق بمنتوجاتها العصرية وأثمنتها المغرية،مما بخس المصنوعات الصوفية التقليدية،قبل أن يتعرض الصوف لإدانة قاسية ودون سابق إنذار، لكونه مصدرا للأمراض،حتى خلت منه البيوت،وغاب العهن المنفوش وربما إلى غير رجعة !…

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *