Home»Régional»مفهوم المواطنة وحقوق المواطن -الجرء الثاني ـ

مفهوم المواطنة وحقوق المواطن -الجرء الثاني ـ

3
Shares
PinterestGoogle+

. المستوى الإجرائي:

في هذا المستوى يمكن أن نعرف المواطنة بأنها: انتماء الفرد إلى وطن معين بالمولد أو بالجنسية ضمن إطار مجتمع سياسي مؤسساتي؛ بما يمكّنه من حقوق ويكلفه بواجبات بموجب ذلك الانتماء، في مساواة مع الآخرين دون ميز أو حيف. وبما يحقق علاقة سليمة مع الدولة في إطار من الشفافية والديمقراطية.
من هذا التعريف الإجرائي نستشف الأساسيات التالية:

ـ المواطنة: انتماء إلى الوطن إما عبر المولد وهذا انتماء أصلي، وهو يربط الفرد بالأرض برباط الجغرافية والهوية، وإما انتماء بالجنسية عبر منح الجنسية للفرد الذي لم يولد في الوطن، وإنما طرأ عليه لسبب معين، قد يكون زواج أو تجارة أو لجوء سياسي … والجنسية تمنح للمجنس نفس حقوق الأفراد الأصليين، وتعتبره عنصرا مندمجا عضويا في المجتمع رغم أنه قد يحتفظ بخصوصياته الأصلية. وهنا تتجلى أهمية المواطنة في رفع تلك الخصوصيات عن التعاطي مع المجنس.

ـ المواطنة: تقوم مع مجتمع سياسي مؤسساتي يحترم الحقوق والواجبات في إطار القانون، الذي هو فوق أي اعتبار مهما كان. وبالتالي المواطنة لا تمارس في مجتمع غير مؤسساتي أو إثني أو شمولي … وبذلك ممارسة المواطنة لها أساسيات ومداخل لابد منها أهمها الفكر المؤسساتي. ( فالمواطنة بالحقيقة مبدأ الدولة الحديثة ومرتكزها بل عمودها الفقري في النشوء والاستمرارية، في التكوين والبقاء. ولا وجود لمواطنة حقيقية ضمن النظام الشمولي الاستبدادي -الأوتوقراطي- مهما حاول النظام أن يصبغ نفسه بصبغة ديمقراطية. فمفهوم المواطنة تبلور جنبا إلى جنب مع مفهوم الدولة الدستورية ملكية كانت أم ديمقراطية. وهذا بالتحديد ما ركّز عليه جان جاك روسو في أدبياته الديمقراطية وما حاول هيجل التركيز عليه في تقديمه العقلي للملكية الدستورية في كتابه (فلسفة اليمين). ومع غياب الدستور، تنتفي كل المقومات الحديثة للدولة بما فيها المواطنة ) .

ـ المواطنة: حقوق وواجبات؛ تقوم على ثقافة المواطنة التي تدفع المواطن بالقيام بواجبات مقابل استيفاء حقوقه دون ميز أو تحيز بما فيها المشاركة السياسية وتقلد الوظائف العامة. ومن ثم لا يمكن للفرد المواطن أن يتواطأ على حجب حقوق الدولة لأنها في الأصل حقوقا عامة تهمه والآخر. وفي المقابل لا يمكن للدولة أن تحجب عليه حقوقه لأنها حقوقا عينية، أصلها حقوقا للدولة لأنها تشكل مدخلا لها إلى حقوقها. فمثلا: الموظف " المواطن " الذي يدفع الضرائب المستحقة للدولة، يعي بأن تلك الضرائب تشكل دخلا للدولة بواسطته يمكنها أن تسدد راتبه الشهري، وأن تشيد الطرق والمرافق العامة وغيرها، وكلها تعتبر حقوقا له. فالطريق المعبد جيدا من حقه، والمستشفى الذي يقدم الاستشفاء من حقه. كما أن الدفاع عن الوطن والدولة من واجب المواطن … وجعل الوطن والدولة فوق أي وطن آخر فـ ( الواجب الأساس في المواطنة في الدول الحديثة هو الإخلاص والولاء للأمة فالمنتظر من كل مواطن أن يضع مصالح أمته وسعادتها فوق مصالح أية أمة أخرى وسعادتها وأن أهم واجبات المواطن التي تنبعث من هذا الواجب الأساس تتمثل في عدة أمور منها : إطاعة قوانين الأمة ودفع الضرائب والخدمة في القوات المسلحة عندما يدعى لذلك . وللمواطن امتيازان أساسيان أولهما أهليته إذا ما وصل إلى سن الرشد الذي تحدده الدولة للمساهمة في عمليات اتخاذ القرارات التي تحدد سياسة الدولة وذلك عن طريق بعض الوسائل مثل حق التصويت وحق تولي الوظائف وثانيهما : حقه في أن تقوم الدولة في الداخل والخارج في حماية نفسه وملكه).

ـ المواطنة: مساواة الأفراد أمام القانون والدستور، بما يعني ممارسة المواطن حقوقه كاملة وأداء واجباته كاملة دون ميز أو مضايقة أو إلغاء أو تهميش. والحقوق تضمن له حق المشاركة في المجتمع السياسي أو المدني كما تضمن له ممارسة حقوقه المتنوعة الأخرى. فالمواطنة إذن ( تتعلق بالمساواة بين جميع المواطنين والفرص المتساوية لجميع المواطنين للمشاركة في الحياة السياسية والعامة، أي أن ركني المواطنة هما المساواة والمشاركة ). وبذلك فـ ( في دولة المواطنة جميع المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات، لا تمييز بينهم بسبب الاختلاف في الدين أو النوع أو اللون أو العرق أو الموقع الاجتماعي … إلخ )

ـ المواطنة: لا تتحقق على الوجه الأكمل إلا في إطار من الشفافية والديمقراطية وضمن علاقة سليمة بين المواطن والدولة واضحة بحكم وضوح القوانين وشفافيتها. فالدولة التي لا تقنن مرافقها ولا تمارس الشفافية مع مواطنيها ولا تتسم بالديمقراطية في نظامها السياسي، فإنها لا تحقق المواطنة ولا تضمن ممارستها؛ حيث ( لا يمكن تفعيل مفهوم المواطنة إلّا تحت مظلة نظام سياسي دستوري ديمقراطي يشمل جميع شرائح المجتمع، قائم على حفظ حقوق الإنسان وصون كرامته والعمل على توفير متطلبات الحياة الكريمة إليه. ولا يمكن تبنيها إلا إذا استطاع الإنسان في المجتمع أن يختار من يمّثله ويطرح حقّه ويذّب عنه التدافع الاجتماعي المشروع والممارس تحت مظلة كل الأنظمة. ولا يمكن تفعيلها إلا تحت ظلّ نظام حقيقي معروف ومكتوب ولا مجال للاجتهاد فيه. فينبغي على المواطن ضمن مفهوم المواطنة الحقيقي أن يعي حقوقه كاملة والمنطلقة من أن الحكومة وجدت لخدمة الشعب، وان الشعب لم يخلق لخدمة الحكومة، وهذا يعني أن الناس مواطنو الدولة الدستورية الديمقراطية ورعاياها، وهم أسباب وجودها. وفي الوقت الذي تصون فيه الحكومة حقوق مواطنيها وتحميها، فبالمقابل يظهر المواطنون ولاءهم لحكومتهم، وتستطيع الدولة أن تطالب المواطن بواجباته تجاه دولته ومجتمعه. أما أن تكون الدولة فاشستية لها كيان منفصل عن المجتمع جاعلة إياه خادما لها بدون أي التزام حقيقي تجاه، فلا يوّلد إلا دولة مزرعة يعيش الناس فيها كالحيوانات خانعة لراعيها مطيعة لأوامره ونواهيه ) .
وأجد المواطنة إجرائيا في المعاني التي حددها الأستاذ سامح فوزي، ومنها: (
1

ـ وضع قانوني: أبسط معاني المواطنة هو أن تكون عضوا في مجتمع سياسي معين أو دولة بعينها. القانون يؤسس الدولة، ويخلق المساواة بين مواطنيها، ويرسي نظاما عاما من الحقوق وواجبات تسري على الجميع دون تفرقة. وعادة ما تكون رابطة الجنسية معيارا أساسيا في تحديد من هو المواطن؟ …
2

ـ مشاركة في الحياة العامة: ثاني معاني المواطنة يتمثل في المشاركة في الحياة العامة. وعادة ما يشار إلى ذلك ب " المواطنة الفعالة "، وتشمل مجالات كثيرة يمكن تصنيفها كالآتي:

* انخفاض القيود القانونية على دخول الفاعلين السياسيين ـ الأحزاب السياسية مثلا ـ مجال المنافسة السياسية.

* حرية حركة " ذات اعتبار " لكل الفاعلين السياسيين، حزبيين كانوا أو غير حزبيين، لإطلاق حملاتهم الانتخابية، والترويج لبرامجهم وآرائهم.
* انتفاء وجود أية قيود أو تهديد من أي نوع للناخبين في ممارسة حق التصويت.

* أن يكون العائد النهائي من الانتخابات ذا " معنى "، والمقصود هنا أن يمتلك الأفراد المنتخبون القدرة على ممارسة سلطتي البرلمان في التشريع والرقابة. إذا افتقروا إلى ذلك تصبح الانتخابات ذاتها بلا معنى، رغم أنها قد تكون جرت بشكل ديمقراطي …
3

ـ العضوية السياسية: ثالث معاني المواطنة هو " العضوية في مجتمع سياسي معين " وهو ما يعادل الانتماء الوطني إلى دولة أو كيان سياسي بعينه. يمس ذلك قضية " سيكولوجية " مهمة هي الشعور بالانتماء للوطن وليس مجرد الإقامة فيه…
4

ـ الرفاهة الاجتماعية: يشمل رابع معاني المواطنة حق كل مواطن في الحصول على فرص متساوية لتطوير جودة الحياة التي يعيشها. ويتطلب ذلك توفير الخدمات العامة للمواطنين، وبخاصة الفقراء والمهمشين، وإيجاد شبكة أمان اجتماعي لحماية الفئات المستضعفة في المجتمع، وأن يظل لها صوت في التأثير على السياسة العامة …
5

ـ سلوك تعليمي: يشير خامس معاني المواطنة إلى " الأنشطة التعليمية " التي تساعد المواطنين على أن يكونوا مواطنين فاعلين، مشاركين، يتصرفون بمسئولية تجاه مجتمعهم وشركائهم في المواطنة. وهو أمر تحتاج إليه الدول الديمقراطية التي لا يستطيع النظام أن يعمل بها بكفاءة دون مشاركة مواطنيها على نطاق واسع. ولكن هذا النمط من الفعالية والمشاركة من جانب المواطنين لا ينشأ تلقائيا أو مصادفة، بل يحتاج إلى جهد تعليمي ممتد يشمل كل الأفراد … ) . وتبقى في المستوى الإجرائي المواطنة ممارسة ميدانية للحقوق والواجبات في مجتمع ديمقراطي، يؤمن بالمؤسسات والقانون. كما تبقى المواطنة تؤمن بالآخر بكل تفاصيل خصوصياته، ولا تلغيه باسم تلك الخصوصيات بل تستثمرها لصالح الفرد والمجتمع على حد سواء.
2 ـ من تاريخ المواطنة:

إذا أخذنا المواطنة في ارتباطها بالوطن، فهي تمتد في أعماق التاريخ، لارتباطها بالمجتمع الإنساني، عندما شكل نواته الاصطلاحية عبر الانتقال من التوحش إلى الاستقرار على ضفاف الأنهر ومواطن الزراعة والصيد. فحينها كان المواطن هو من انتمى إلى تلك المجتمعات البدائية. فكانت له حقوق كما عليه واجبات نحو المجتمع الذي يعيش فيه. وبالتالي يمكن القول أن المواطنة ارتبطت باستقرار الإنسان في المدينة ـ بعيدا عن توصيف المدينة بمواصفاتها الحاضرة ـ فيكفي عمقها الاجتماعي الذي يفيد تكون مجتمع صغير له هوية وقيادة وتقاليد ينتظم إليها في تدبير المعيش اليومي. وبذلك ( إن تاريخ المدينة هو تاريخ المواطنة، في عمقها الفلسفي والسياسي ) . و ( يمتد مفهوم المواطنة إلى المدن الإغريقية القديمة. وما كانت تعني أكثر من مرادف للغريب الذي لا ينتمي إلى نفس المدينة. وظل مفهوم المواطنة مفهوما بدائيا حتى عصر التنوير، فقام رموز عصر التنوير "هوبز، ولوك، وروسو، ومونتسكيو، وغيرهم" بطرح مفهوم آخر يقوم على العقد الاجتماعي ما بين أفراد المجتمع والدولة أو الحكم، وعلى آلية ديمقراطية تحكم العلاقة بين الأفراد أنفسهم بالاستناد إلى القانون الذي يتساوى عنده الجميع. وبعدها تغير مفهوم المواطنة من أداة تمييزية ضد الآخرين تربط الناس عضويا ضمن مفهوم القوة والسلطة إلى الإشارة إلى أن المواطن ذو ذات مستقلة كينونة وحقوقا. ومن اجل منع استبداد الدولة وسـلطاتها نشأت فكرة المواطن الذي يمتلك الحقوق غير القابلة للأخذ أو الاعتداء عليها من قبل الدولة. فهذه الحقوق هي حقوق مدنية تتعلق بالمساواة مع الآخرين وحقوق سـياسية تتعلق بالمشاركة في اتخاذ القرار السياسي، وحقوق جماعية ترتبط بالشئون الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية ) . كما ( يعد الحفر في الأصول اللغوية والاصطلاحية للمواطنة في الفكر العربي والغربي أمراً لا يقتضيه اختلاف النظم المرجعية التي استمدت منها المفاهيم فحسب، بل يضاف إليه اختلاف حقول المعرفة التي كانت محضناً مباشراً لكل مصطلح وموجهاً لدلالته في الثقافتين العربية والغربية ومن ثم تتضح أهمية تأصيل المفهوم وبحثه في إطار المحاضن الفكرية بمنطلقاتها المرجعية والتي توجب على الباحث القراءة التاريخية لهذا المصطلح. لقد اقترن مبدأ المواطنة بحركة نضال التاريخ الإنساني من أجل العدل والمساواة والإنصاف. وكان ذلك قبل أن يستقر مصطلح المواطنة وما يقاربه من مصطلحات في الأدبيات السياسية والفكرية والتربوية، وتصاعد النضال وأخذ شكل الحركات الاجتماعية منذ قيام الحكومات الزراعية في وادي الرافدين مروراً بحضارة سومر وآشور وبابل وحضارات الصين والهند وفارس وحضارات الفينيقيين والكنعانيين .وأسهمت تلك الحضارات وما انبثق عنها من أيديولوجيات سياسية في وضع أسس للحرية والمساواة تجاوزت إرادة الحكام فاتحة بذلك آفاقاً رحبة لسعي الإنسان لتأكيد فطرته وإثبات ذاته وحق المشاركة الفعالة في اتخاذ القرارات وتحديد الخيارات الأمر الذي فتح المجال للفكر السياسي الإغريقي ومن بعده الروماني ليضع كل منهما أسس مفهومه للمواطنة والحكم الجمهوري " الذي كان يعني حتى قيام الثورة الأمريكية في أواخر القرن الثامن عشر، الحكم المقيد في مقابلة الحكم المطلق وليس الحكم الجمهوري كما نفهمه اليوم " وقد أكد كل من الفكر السياسي الإغريقي والروماني في بعض مراحلهما على ضرورة المنافسة من أجل تقلد المناصب العليا و أهمية إرساء أسس مناقشة السياسة العامة باعتبار ذلك شيئاً مطلوباً في حد ذاته. وأفرزت تلك التجارب التاريخية معانٍي مختلفة للمواطنة فكراً وممارسة تفاوتت قرباً وبعداً من المفهوم المعاصر للمواطنة حسب آراء المؤرخين. وحتى في التاريخ المعاصر تنوعت إفرازات مفهوم المواطنة بحسب التيارات الفكرية السياسية والاجتماعية التي لا يمكن قراءتها وفهمها ونقدها بمعزل عن الظروف المحيطة بها أو بعيداً عن الزمان والمكان بكل أبعادهما الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأيديولوجية والتربوية، ومن ثم لا يمكن التأصيل السليم لمفهوم المواطنة باعتباره نتاجاً لفكر واحد مبسط وإنما باعتبار أنه نشأ ونما في ظل محاضن فكرية متعددة تنوعت نظرياتها وعقائدها بل وظروف تشكلها على المستوى المحلي والقومي والدولي . ولأن قضية المواطنة محوراً رئيساً في النظرية والممارسة الديمقراطية الحديثة، فإن تحديد أبعادها وكيفية ممارستها ينبع من الطريقة التي يمنح بها هذا النظام أو ذاك حقوق المواطنة للجميع ومدى وعي المواطنين وحرصهم على أداء هذه الحقوق والواجبات ) . ومنه ( ففكرة المواطنة ذات تاريخ طويل في أوربا يبدأ من أثينا في اليونان القديمة حتى يصل إلى الثورة الفرنسية عام 1789 وما تبع ذلك من ثورات وإصلاحات عملت على تعميق وتكريس حق وفكرة المواطنة والوطنية ) .

ويرى الأستاذ هيثم مناع أن مفهوم المواطنة نشأ ( ضمن السيرورة التاريخية للتطور السلبي للحقوق. وهو كالأبوية أعطى حقوقا للبعض وحرم البعض الآخر من هذه الحقوق.

ورغم كون المواطنين في أثينا وقرطاجة مازالوا أقلية بالنسبة لمجموع السكان في دول المدينة، فقد أتاح مفهوم المواطنة لهؤلاء الرجال الأحرار فرصة المشاركة الواسعة في العمل العام المدني والسياسي لكون العبيد يقومون بالأساسي في حقول الإنتاج المادي. الأمر الذي منح كلمة المواطن صورتها الإيجابية في منظومة القيم باعتباره الشخص المهتم بالشؤون العامة والمخلِص لهموم المدينة. لا نستغرب في وضع كهذا هزالة كلمة مثل الاجتماعي مقابل كلمة كاملة الحضور هي السياسي. فالثقافة اليونانية "لم تكن نتاج البرابرة والعبيد"، بل المواطنين الأحرار الذين يملكون القدرة على الفعل السياسي. شهدت روما ولادة دينامية جديدة باتساع مفهوم المواطنة ليشمل العامة Plebeians وبعد ذلك الشعوب الأخرى في الإمبراطورية الرومانية، الأمر الذي رافقه منطقيا تكامل أكبر للسياسي مع الاجتماعي. ومع الزمن أصبح مفهوم المواطنة يتجه أكثر إلى الحماية في ظل القانون منه إلى المشاركة الفعالة في تشريع وتطبيق هذا القانون. ومع صيرورة الاندماج السياسي كسمة ولاء في الإمبراطورية وليس فقط المشاركة في الحياة السياسية والعامة، أعطى الإمبراطور كاراكلا في عام 212 وضعا قانونيا للمواطنة يشمل عددا كبيرا من السكان وإن استمر استثناء الطبقات الأفقر والعبيد والنساء.
ارتبط مفهوم المواطنة في التاريخ العربي الإسلامي نظريا بالاعتقاد وعمليا بعدة عوامل منها تكوين السلطة والجيش. وقد بقي المفهوم التاريخي للمواطنة بهذا المعنى تفاوتيا سواء بين الأفراد الأحرار الذكور أو بين الأحرار والعبيد، المؤمنين وغير المؤمنين، النساء والرجال. إضافة لأشكال العصبية المتكونة حول الخلافة. وبهذا المعنى كان هذا المفهوم في واقع الأمر حصيلة اجتهادات دنيوية في ثوب ديني، وقد ارتبط في الذاكرة التاريخية بجملة حقوق وامتيازات. بعد سنوات كادت الكلمة فيها تنقرض من الأدبيات الأوروبية، بدأت عملية إعادة التفاعل مع التراثين اليوناني والروماني في إيطاليا مع ماكيافلي (1469-1527) وفي إنجلترا مع جيمس هارينغتون وجون ميلتون في منتصف القرن السابع عشر وقد تركا أثرهما في الثورة الأميركية وبشكل خاص ما عرف بالهارينغتونية الجديدة. وفي القرن الثامن عشر شكلت المواطنة موضوع نقاش في غاية الثراء في فرنسا، وفي حين تعّرف موسوعة ديدرو في 1753 المواطن بكونه "عضو في المجتمع" يحدد قاموس تريفو في 1771 الكلمة بالقول "تعبير ذو علاقة بالمجتمع السياسي". وفي العقد الاجتماعي (1762) يربط جان جاك روسو المفهوم بمعنى السيادة والطاعة للنفس أولا، التحرر من دور الرعية وتمتع الأفراد بالحكم الذاتي. هذا التعريف وأطروحات روسو سيفتحان المجال إلى محاولة ربط التقاليد الجمهورية بالتعاقدية الحديثة وهو يشير بالبنان إلى المشكلة الرئيسية التي تطرحها ثنائية الحرية والمساواة. بتعبير آخر، حالة التناقض بين الموارد العامة والمصالح الخاصة. ويمكن القول بوجود اتجاه عام عند العديد من المفكرين والسياسيين في القرن الثامن عشر إلى عدم اعتبار المواطنة حقا طبيعيا، ولكن بنفس الوقت عدم اعتبارها ضد الطبيعة. فيما يختصره البعض باعتبارها طبيعة ثانية. ومع الثورة الفرنسية جرى تحميل المفهوم شحنة مثالية أساسية تنطلق من اعتبار حامل الحقوق المدنية والسياسية العنصر النووي المكون للأمة: ارتبط المفهوم بالجمهورية باعتبار أن الهوية الجماعية التي تتشكل من مجموع المواطنين وحدها تملك السيادة داخل الدولة. لم يميز إعلان حقوق الإنسان والمواطن بين الإنسان والمواطن، ولكن الفكر السائد في 1789 استمر يصنف التصويت وظيفة أكثر منه حقا، وعلينا انتظار 1793 لإقرار فكرة أن المواطن هو كل رجل بلغ 21 سنة وهو بالضرورة ناخب. مع تعزيز لتعريف للمواطن عند دستوريي 1793 باعتباره الوطني والسياسي في الممارسة، أي التأكيد على المواطنة كفعل أكثر منها صفة. الأمر الذي أصّل لفارق أساسي بين الكتابات الأنجلو ساكسونية حيث تتوافق المواطنة مع الجنسية إلى حد كبير، والكتابات الفرانكوفونية التي تؤكد على ارتباط المواطنة بالمشاركة الفعلية في الحياة العامة ومشكلات المجتمع.

في 1793 أيضا، حدد "عمانوئيل كانت" المواطنة بامتلاك الحقوق المدنية التي يضمنها وضع البرجوازية، فقط سيد القرار وغير التابع اقتصاديا يمكن اعتباره مواطنا حرا، فالاستقلال الاقتصادي يمنح المواطنة ويستثنى من هذه القاعدة النساء والأطفال. كان كوندورسيه من قلائل الفلاسفة السياسيين الذين تبنوا حق المرأة في المواطنة الكاملة، إلا أنه جبن عن طرح ذلك في المعارك السياسية التي خاضها. في حين أصدرت أولمب دوغوج "إعلان حقوق المرأة والمواطنة" في 1791 الذي يؤكد على حق المرأة الكامل في المواطنة. دو غوج ستدفع ثمن مواقفها أمام المقصلة في 3 نوفمبر 1793. لم يتوقف الفكر السياسي الهيغلي عند تعارض ممكن بين "المواطنة" و"الجنسية"، بل أكد من جهة على القبول الإيجابي والفاعل للمدينة كإطار للحياة الأخلاقية الفعلية ومن جهة ثانية حذر من انكفاء الفكر على نفسه، هذا الانكفاء الذي يشكل خطرا مدمرا للمدينة عبر التقييم الإيجابي لداخلية التفكير.
المواطن عند كارل ماركس (1818-1883) هو الموضوع "المجرد" – غير الواقعي في تاريخ غير طبيعي. إن التقاطع بين المواطن والحرية (الحقوق السياسية والمدنية) كان يعيد النقاش حول المساواة (الطبيعية عند البعض، الثقافية عند البعض الآخر) وبقدر ما نال المواطن حقه الكامل في التصرف "بشخصه وملكياته" حسب تعبير Sieyès، كلما ابتعد عن تلك الصورة التي رسمها رواد الاشتراكية من السان كيلوت إلى ماركس. من هنا نجد عند أوين وسان سيمون أيضا نقدا "للوهم السياسي ولأفكار حقوق الإنسان" يقوم على ضرورة تحقيق برنامج اجتماعي كشرط للانعتاق الإنساني مع نقد صارم لإطلاق حق الملكية. كلما تعمق المرء في دراسة التجربتين الفرنسية والأميركية، كلما شارك جاك زيلبربرج قولته "الممر من الحقيقة إلى النسبية يؤدي بنا، في نظم المعرفة الحرة والعقلانية إلى مبدأ الشك الذي يستجوب باسم الحكمة البناء الاجتماعي لحقل المواطنة, إن كانت المواطنة، بالنسبة للإنسان الممارس هي مساعد دولة القانون والديمقراطية التعددية ونقطة ارتكاز في انتظام الحقل الوطني، فهي بالنسبة للباحث، مصطلح تعسفي، متفرد، مثالي النمء يهدف تحديدا إلى وضع ديكور لطيف لمشاريع سياسية مختلفة ولأنظمة سياسية متعددة".

سجلت الحقبة الاستعمارية عصر انحدار مفهوم المواطنة. فقد حلّ المحتل محل المواطن، وراكم الامتيازات على حساب الشعوب المحتلة التي لا يتمتع أفرادها بأي وضع قانوني حقوقي. خلال عقود من الزمن كانت الجزائر مثلا فرنسية، دون أن يكون للجزائري صفة المواطن. وتمت الفرنسة بشكل طائفي وعنصري من قبل دولة علمانية (جرى إعطاء الجنسية لكل اليهود الجزائريين في 1889 في حين كان يطلب من الجزائري أن يعلن انسلاخه عن الإسلام ليحصل على الجنسية). لم تستطع التجربة السوفياتية أنسنة حقوق المواطنين ودمقرطتها. كذلك أفقدت دكتاتوريات بلدان الجنوب المفهوم معانيه السياسية والمدنية. وفي حين يتسع نقاش المواطنة ليشمل توفير الشروط الأساسية للمجتمع المدني والديمقراطية لا يتورع العديد من طرح سؤال هام: إن كان المواطن هو دافع الضرائب في نشأة المجتمع الرأسمالي، فهل هو المستهلك في عصر العولمة؟ صحيح أنه في الدول المستبدة وداخل الكنائس، لا نعثر على المصطلح الحر "المواطن" كما لا يوجد المصطلح المثير للجدل "المثقف"، وصحيح أيضا أن الثورة الفرنسية قد وضعت في لحظة تاريخية حاسمة وجها لوجه الحق الإلهي والحق المواطني، وصحيح أن خبرة الثورة الفرنسية قد طرحت المواطن ككائن حقوقي. ولكن حقه هذا المعلن طبيعيا يتميز بمرونة ذات حدين وغلبة للسياسي بالمعنى التنفيذي على الحقوقي بالمعنى القضائي، ففي تعبيره الحر لم يصبح الإنسان بعد نقطة الانطلاق ونقطة الوصول في مجمل تعبيرات المواطنة الغربية محافظة كانت أو ثورية بل يبقى تعبيرا وسيطا. وقد تقاسمت أميركا مع فرنسا عملية تجديد معركة المواطنة بدون البعد الرمزي للتجربة الفرنسية: فهي لم تواجه عسف الكنيسة الكاثوليكية ولم تعرف الملكية المطلقة ولم تجعل من العلمانية برنامجا سياسيا. وفي الحالتين، تهز الوقائع التفاؤل الأيديولوجي للآباء المؤسسين في القرن الثامن عشر في فرنسا حيث تأخر فصل الدين عن الدولة قرنا آخر تأرجحت فيه فرنسا بين حقب الرعب والبونابرتية والملكية، وفي أميركا حيث أسست العبودية والحرب الأهلية والتمييز العنصري مع الدستور أمبراطورية الورقة الخضراء (الدولار) التي كتب عليها بكل فظاعة: بالله نؤمن ) .

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

1 Comment

  1. ابراهيم
    21/09/2012 at 14:22

    لا تعليق

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *