Home»Femme»معركة الحق والباطل

معركة الحق والباطل

0
Shares
PinterestGoogle+

ردّد الحلاّج حين بلغ بعشقه لله تخوم الصوفية عبارته الشهيرة:  « أنقذوني من الله فقد أخذني منّي ولم يردّني إلي. » وفي مقولة أخرى صرخ مستنجداً:  » يا  أهل الله أغيثوني  ! فإنه ليس يتركني ونفسي فآنس بها، وليس يأخذني من نفسي فأستريح منها، وهذا دلالٌ لا أطيقه. »

في هذا الجانب تتراءى لنا كمية التعب المحيط بروح الرجل الذي أبى إلاّ أن يتوضّأ بالدم المتدفق من يديه وقدميه بعد قطعهما في ساحة الإعدام، مقتنعاً بأن ما يفعله هو : « ركعتان في العشق لا يصحّ وضوءهما إلاّ بالدم.  »

أما في الجانب الآخر فهناك الأب الذي يحاول مُحاكاة أحاديث الحلاج بما يناسبه، ليردّد متحدثاً بلسان بني آدم : « أنقذوني من الشيطان فقد أخذني مني ولم يردّني إليّ. »

لقد كانَ هو الشيطان نفسه الذي أنشدَ آيات البراءة منهم جميعاً حين أتمّ مهمته الأولى والأخيرة منذ فجر التاريخ: « فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ » (الحشر، 16)

وبالرغم من فضيحته التاريخية التي لا تزال الصّحف والشّرائع تحفظ تفاصيلها وتروي أحداثها إلاّ أنه لم يتوقف لحظة عن نصح الآثمين والمغتربين عن ملكوت الله محاولاً مزج السّم بالعسل وإشعال الشموع الخافتة في عمق الظلمات حتى أن ابن آدم بات لا يفرّق بين النور والعتمة التي تخطف القلوب والأبصار.

إنه الصراع الدائم إذاً، صراع الحق والباطل، صراع تطوّرت أساليبه عبر التاريخ حتى انتقل من البساطة الأولى، من خطيئة آدم وحواء، إلى تعقيدات اللحظة التاريخية الأخيرة، إلى تزييف الحق وإلباس الباطل به، وكأننا هنا نستحضر رمزية المعركة الدنيوية التي أضفت على صيرورة البشرية نوعاً من الأهمية، لأنه لا حياة من دون صراع، ولا معركة من دون رابح، ولهذا كان يتوجب على الإنسان من البداية أن يتخذ موقفاً صارماً تجاه كينونته، إما أن يكون إلى جانب الملاك أو إلى جانب الشيطان، وأن يستطيع، بعد كلّ اختيار، أن يتحمل مسؤوليته الكاملة دون نقصان. غير أن رحلة السمو نحو أخلاق الملائكة، وبالتالي الدفاع عن الحق، باتت طوباوية جداً وتبعث على القلق والشّك أكثر من أي وقت مضى. لم يعد بالإمكان الصراع كما في الماضي البعيد لأجل إقرار الحق وإزهاق الباطل، أوّلاً بسبب ضعف القدرة على التمييز بينهما من الناحية التعريفية المحضة، وثانياً بسبب عدم القدرة على إثبات جدوى معركة كهذه في مجتمعات قتلت روح المدينة الفاضلة.

تضعنا اللغة في مأزق جديد حين تحرمنا الحق في تجاوزها، ولذلك نستعين بأساليب ماكرة أحياناً كي نراوغ المعاني ونمتطي صهوة الحصان الذي يفقد توازنه عند أول حركة غير اعتيادية. هكذا تمّ استعمال اللغة التقليدية كسلاح في معركة الحق والباطل، حتى أن الدخول في متاهاتها اللامنتهية أصبح يصنع أتباعاً للباطل ويجعل الناس تنفر من الحق.

اللغة التي يكلّموننا بها في الغالب لغة خشبية، أو لغة بلاستيكية بلا معنى، لا يمكننا إن قمنا بإفراغها من الحشو والاستغباء أن نجد شيئاً آخر سوى الفراغ. لغة التواصل الفكري والاجتماعي والسياسي في معركة الملاك والشيطان باتت مهترئة، لا يمكنك أن تفهم أين الحق حتى تدافع عنه ولا أن تجد الباطل حتى تلوذ بالفرار منه. في هذا الزمن انتهت كلّ المعارك الشريفة، وأصبحنا أمام حالة ضياع كبير للعمق، للمعنى، وللحقيقة. كلّ ما أصبح بإمكاننا فعله هو المراقبة من بعيد، ومحاولة عقد معاهدات صلح مع الشياطين، لعلهم يكفون عن الغوص في أعماقنا وتحويل نقاط ضعفنا إلى رموز خالدة للخطيئة البشرية.

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *