Home»International»أيام ذي الحجة العشرة: سبيل وبصيرة

أيام ذي الحجة العشرة: سبيل وبصيرة

0
Shares
PinterestGoogle+

كمال الدين رحموني

رأسمال الإنسان عمره ،والعمر أيام وشهور وأعوام، والأيام والشهور والأعوام زمن ،، وزمن المؤمن في الإسلام له قيمة واعتبار ،أما زمن الكافر فهي أوقات يحياها ظاهرا ويموت فيها باطنا ، يحياها حياة لعب ولهو وعبث ثم بعد ذلك النار مأواه ،وجهنم مثواه ،قال تعالى : » والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم « محمد 12 .أما عمر المؤمن ،وأوقات المؤمن فهي تنبض بالحياة ،ومصدر هذه الحياة ،الطاعات والقربات ، ولذلك حث الله تبارك وتعالى على اغتنام الأعمار في الطاعات وإعمار الأوقات بالقربات والأعمال الصالحات  ، لأن ملء الوقت بالعمل الصالح   ملء له بالحياة ،   قال تعالى : » من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة  » النور53. فالحياة الطيبة نتيجة للعمل الصالح .ومن فضل الله على أمة الإسلام أن أكثر أوقاتها في الحياة أوقات حية مادامت عامرة بالطاعات. ولأن الله عزوجل يعلم ضعف العباد وفقر العباد، وحاجة العباد إلى سند يقويهم على الطاعات، ووكيل يدفعهم نحو القربات ،فقد أعلى الله سبحانه من قدر بعض الأوقات حتى تزكوَ فيها النفوس، وتصفوَ الروح فتشهدَ هذه الأوقاتُ المباركات يوم القيامة بفعل الخيرات ،فرمضان يشهد للصائمين بالصيام، والليل يشهد للقائمين بالقيام .  كان العباد يقفون بباب ربهم يتذللون ،ويبكون ويتضرعون ،ينتظرون ليلة القدر فأحيوها بما تيسر ونالوا منها ما شاء الله من أجر  ، وفي شوال عاودوا الصيام ليفوزا بأجر صيام الست التي هي كصيام الدهر ، وبعد شهر شوال أقبلت الأيام العشرة من ذي الحجة التي أقسم الله تبارك وتعالى بها فقال : » والفجر وليل عشر والشفع والوتر « قال ابن عباس: »الوتر في الآية يوم عرفة، والشفع هو يوم الحج الأكبر يوم النحر ، والليالي العشر هي ليالي ذي الحجة .وهذه العشر الأوائل من ذي الحجة هي أفضل أيام العام كله ، أما الليالي فليالي العشر الأواخر من رمضان .لكن أفضل الأيام بلا نزاع ولا خلاف هو يوم عرفة. ولفضل هذه العشر من ذي الحجة أخبر النبي  في الحديث الذي رواه مسلم والترمذي عن ابن عباس  قال : »ما من أيام العمل ُ الصالح فيها أحبُّ إلى الله تعالى من هذه الأيام .قالوا : ولا الجهادُ في سبيل الله .قال : » ولا الجهادُ في سبيل الله إلا رجل خرج بماله ونفسه فلم يرجع من ذلك بشيء ». ما أعظم هذا الدين ، وما أجل قدر رب العالمين ،وما أشفق أحد على أمته أكثر مما أشفق عليها الصادق الأمين عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليم …ومن أعظم مظاهر شفقته الحبيب ص على أمته أنه يخشى على أمته أن تنسى ، أن تغفل ، عن أوقات يضاعف فيه الأجر ، ويبسط بها في العمر.  فلماذا ترتفع قيمة الأيام العشر ؟؟

1ـ لإقسام الله بها وإذا أقسم العظيم بشيء دل على أنه عظيم

2ـ لأنها في الأشهر الحرم التي عظمها الله تعالى قال تعالى : » إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم  »  والأشهر الحرم :ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب

3ـ هي أيام الحج  الذي شرعه الله  العباد مرة في العمر : » ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا  » فعن أبي هريرة قال خطبنا رسول الله  فقال   » أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا فقال رجل أكل عام يا رسول الله فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله Jلو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه » مسلم  .والحج ركن من أركان الإسلام الخمسة لا يصح إلا في هذه الأيام من ذي الحجة. والحج رحلة مباركة يقصد فيها الحجاج بيت الله الحرام مثقلين بالذنوب والأوزار، يحملون الخطايا والرزايا ،فيضعونها بين يدي ربهم ، يَذرفون دموع الندم على ما فات،يعرضون سجل السيئات والخطيئات في سائر السنوات ، يريدون التخلص منها ليولدوا من جديد ، يريدون أن يعودوا كما ولدتهم أمهاتهم فـ « الحج يهدم » ما قبله كما أخبر بذلك رسول الله  ، وانظر إلى بلاغة التعبير النبوي فكأن عمر العبد من الذنوب بنيان صمد طويلا فلما أثقلته المعاصي وأوشك أن يسقط ،جاء الحج فاقتلع أركانه التي أسست على جرف هار قبل أن ينهار صاحبه في جهنم، ولذلك يقول النبي: » من حج فلم يرفث ولم يصخب رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه  » مسلم . فتتحقق البشرى، ويجد الحاج الأبواب مشرعة ، ويُلفي الطرق سالكة ،فيا سعادة من حاز شرف المغفرة من الذنوب، ويا بشرى حجاج بيت الله الحرام حين يبدل الله تعبهم هناء، وشقاءهم صفاء، ويمنحهم جزاء وعطاء، حينها تستعيد العشر الأوائل الحياة من جديد فيحيا الحاج حياة لم يحيها من قبل ،وأياما كانت النفس تتوق إليها منذ أجل .في هذه الأيام المباركات يعيش الحجاج سواسي ،تختلف ألسنتهم وأعراقهم، لكن قداسة المكان بيتِ الله الحرام، وجلال الزمان أيامِ ذي الحجة يؤلفان ما اختلف، ويوحدان ما   تفرق، ويقربان ما تباعد ،فإذا بالقلوب خاشعة ، وإذا بالأهداف واحدة ، فتذوب الحواجز بين البلدان، وتنمحي عصبية الأعراق ،ويتجدد الإحساس بالانتماء للإسلام، وتزداد الحاجة إلى رحمة الله، فإذا بالقلوب تفيض خشوعا، وإذا بالأعين تَـذرف دموعا ،وبالأصوات تزداد خشوعا، وبالأكفِ  ترتفع تضرعا وبالألسنة تلهج دعاء، تجأر إلى الله تعالى  ترجو رحمته وتخشى عذابه ، وهم الذين كانوا قبل أيام عبيدا للشهوات، فإذا بهم في الأيام العشرة وفي رحاب البيت الحرام عبيدٌ متذللون منكسرون، يجسدون أسمى درجات العبودية يتطلعون إلى الخبر السعيد، من الله العزيز الحميد ، وذلك في يوم عرفة أفضلِ أيام العام :تتجلى  قمة الجود الإلهي والعطاء الرباني ، يوم التاسع من ذي الحجة ، يومٌ مشهود ، فيه يختصر الله فيه عمر الإنسان الطويل .في يوم عرفة يقْلب الله عزوجل حياة الحاج رأسا على عقب ،فيمحو عنه رذائل الماضي ومعاصيَ الحاضر . في يوم عرفة يمنح الله لحجاج بيته فرصة قد لا تتكررـ فمن رحمته بهم أنه يدنو منهم دنوا يليق بمقامه العظيم ويقترب من خلائقه ، فينظر إلى أحوال عباده وهم شعث غبر ،ينظر إليهم بعين الرحمة الواسعة فإذا بالبشرى تعم الآفاق وتملأ الأرض والسماء :

إنها بشرى العتق من النار يقول النبي  : » ما من يوم أفضلَ عند الله من يوم عرفة ينزل الله تبارك وتعالى إالسماء فيباهي بأهل الأرض أهل َ السماء فيقول :انظروا إلى عبادي شعثا غبرا جاءوا من كل فج عميق يرجون رحمتي ولم يروا عذابي  فلم يُر يومٌ أكثر عتقا من النار من يومئذ » ابن خزيمة ، وفي رواية : » أتوني شعثا غبرا من كل فج عميق أشهدكم أي قد غفرت لهم » وفي رواية: » أتوني شعثا غبرا من كل فج عميق أشهدكم أني قد غفرت لهم ».فأي فضل هذا ؟ كيف يباهي الله ملائكته؟ وبمن؟ بعباد يعلم أنهم أذنبوا وقصروا وظلموا وأخطأوا ، لكنهم حين جاءوه مثقلين بحصاد السنين إذا به   يخفف  ثقلهم ، ويبدد  خوفهم  فيمحو سيئاتهم ، ويضعهم في مصاف الملائكة الكرام: محلّ مباهاة ومفاخرة.
وفي يوم عرفة تكسُد بضاعة الشيطان ويندحر ويخيب سعيه ويضعف كيده وتخبو ناره، كان الشيطان يزين ويخطط وينجح في معاركه مع العباد ، لكنه يومَ عرفة يتضاءل كيده ويصغر شره  ويندحر أثره حين يرى تنزّل الرحمات على العباد، فيغتم اللعين من فرط حقده على المسلم وهو يرى كيف يتجاوز الله عن عباده، فقد روى الإمام مالك في موطئه أن النبي: » ما رئي الشيطان يوما هو فيه أصغرُ ولا أدحرُ ولا أحقرُ ولا أغيظ ُمنه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رُئي يوم بدر » وروى البيهقي وابن المبارك عن أنس قال : وقف النبي  بعرفة حتى كادت الشمس أن تؤوب [تغرب] فقال لبلال : أنصت ليَ الناسَ ،فقال : أنصتوا لرسول الله  ،فأنصت الناس ،فقال رسول الله  وهو يدفع من عرفة إلى مزدلفة:  » السكينة السكينة ، فنزلت السكينة ،فقال  : » يا معشر الناس ،أتاني جبريل فأقرأني السلام من ربي  وأخبرني أن الله تعالى غفر لأهل عرفات وضمن عنهم التبعات » فقام عمر فقال يا رسول الله ،أهذا لنا خاصة ؟ فقال : »هذه لكم ولمن أتى من بعدكم إلى يوم القيامة ،فقال عمر :كثر خير الله وطاب ؟ وهذا عبد الله بن المبارك يقول :جئت إلى سفيان الثوري يوم عرفة فقلت: من أسوأ هذا الجمع (الحجاج بعرفة) من أسوأ هذا الجمع . فقال سفيان الثوري : الذي يظن أن الله لا يغفر له.                                        هذا الفضل للحجاج : فما نصيب غيرهم من الفضل ؟ إن عنوان يوم عرفة الكبير هو المغفرة ، ولما حاز الحجاج هذا الفضل العظيم  ،فإن من رحمة الله بغير الحجاج أن ينالَهم بالفضل نفسه: مغفرةِ الذنوب ، فيكون صيام يوم عرفة كفارة لذنوب سنتين : ماضيةٍ ولاحقة ، فقد أخرج مسلم عن أبي قتادة أنه سئل عن صيام يوم عرفة ،فقال : » يكفر الذنوب : السنة الماضية والباقية  » فمن أعظم العمل الصالح في هذه العشر صيام يوم عرفة ،وكل عمل في هذه العشر من ذي الحجة  يُبتغى به وجه الله تعالى فهو من العمل الصالح : من صلاة وصيام وصدقة وزكاة وصلة للأرحام وبر للوالدين  وزيارة للمرضى، وإذا لم يجد عملا صالحا ، فليمسك أذاه عن الناس  فهو من أعظم الأعمال الصالحة.

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *