Home»National»مذكرات استاذ متقاعد : 1 الفيزا

مذكرات استاذ متقاعد : 1 الفيزا

0
Shares
PinterestGoogle+

تعود أول رحلة لي إلى خارج الوطن إلى أربعين سنة خلت باستثناء زيارات متكررة الى الجزائر التي توقفت مع إغلاق الحدود، حيث كنت يومئذ ضيفا على الأخ ج قاسم عندما كان قنصلا للملكة بمدينة وهران.
ما إن عدت من هناك حتى هوجم فندق،، أسني،، الذي كان حدثا كافيا جعل سلطات بلادنا تفرض التأشيرة على السياح الجزائريين الذين رد حكامهم بشكل أكثر صرامة، حيث أغلقوا الحدود في وجه حركة انسياب متزايدة من كلا البلدين.
ألقيت بجواز السفر جانبا، ولم أتفقده إلا قبل شهرين حينما حل موعد مناسبة سعيدة لقريب عزيز.
لم تكن مستلزمات السفر هي التي تؤرقني، وإنما ذلك الكم الهائل من الوثائق الذي يتطلبه الحصول على التأشيرة.
لقد دأبت على التجول في ربوع بلادي التي اختارها دون عراقيل حقيقية ما خلا بعض المشاهد والظواهر الاجتماعية التي اجبرنا على قبولها، ولكنني سأجد نفسي أمام مستجدات يلزم التعامل معها.
لقد تحول مقر تسليم التأشيرة الفرنسية الى مجسم لهذه الدولة التي تطبق قوانيها هناك بمنتهى الدقة والصرامة خاصة من حيث النظام والمواعيد مما يجعل المواطن المغربي ينضبط مؤقتا -رغم أنفه- لأن أدنى إخلال بالترسانة القانونية يعني الرفض القاطع والبداية من الصفر.
عايشت حالات من العقوبة التي فرضت على أشخاص تأخروا عن الموعد بدقائق معدود ولم يكن بوسعهم إلا قبول ،، شروط فيرساي،،في صورة أخرى أو إعادة الكرة مرة أخرى بما يستدعي ذلك من نفقات إضافية ومتاهات إدارية.
ليس لأحد أن يلوم فرنسا على ما يسببه طلب التأشيرة من معاناة، لأنها في غير حاجة لاستضافتنا ولا لما نحمله معنا من طبائع وسلوكات، ولكننا نقبل كل أشكال المضايقات وحتى الإهانة لنقتحم على الناس عوالمهم التي لا يريدون لأمثالنا أن يكونوا طرفا فيها ، لكننا لا نبالي!
بعد تسليم كل الوثائق لغربلتها، جاء وقت انتزاع البيانات التي تسمح بجعل،، الزائر،، في متناول السلطات الفرنسية حيثما حل وارتحل.. يكفي أننا بصمنا بكل أصابعنا وأخذت لنا صور بطرق تسمح بالكشف عنا ولو دخلنا جحر الضب الذي تحدث عنه النبي الكريم قبل قرون!
اخيرا، صدر الحكم: قبل طلبنا وصار بإمكاننا أن نعبر البحر.
كنت قد ركبت البحر قبل اربعة عقود من مدينة طنجة التي لم أغادر ميناءها إلا بعد عنت مجاني كان بطله احد موظفي شرطة الحدود الذي مارس في حقي ظلما لن أنساه أبدا، أما اليوم فقد اخترت ميناء الناظور/ بني نصار لأسافر على متن باخرة اسبانية عملاقة.
كانت الرحلة ليلا وعدد المسافرين قليلا مما جعلني أحلم بنوم شاعري فوق الماء، لكن رجائي خاب مرة أخرى.
كانت السفينة مجهزة بكل وسائل السفر المريح بما فيها المقصف وأماكن الجلوس المتنوعة، لكن مظاهر التخلف تأبى إلا أن تظل علامة فارقة فينا.
انطلقت السفينة تمخر عباب بحر هادئ كان من المفروض أن يخلد معه المسافرون لنوم عميق أو للتأمل في ملكوت الله إن غاب النوم، لكن أهلنا لا تستقيم أحوالهم إلا بالتشويش على الاخرين.
كان بين المسافرين عائلات برفقة أطفال صغار ورضع بحاجة ماسة الى النوم، لكن حركة فتح الأبواب وإغلاقها لا تتوقف ثانية واحدة ناهيك عن المكالمات الهاتفية المقرفة التي تقتحم كل الأذان بصوت جهوري يوقظ في الإنسان كل نوازع الغضب وردود الأفعال غير المنضبطة !
لم أستطع النوم في هذه الأجواء، فلما دخلت مرافق النظافة التي انبهرت بها أول الأمر، فوجئت بالفوضى المتعمدة التي أحدثها المستعملون ، حيث أفرغوا سوائل التنظيف عن اخرها في الأرض ثم قاموا بتمزيق كل الورق المخصص للنظافة وألقوا به في كل مكان بشكل يوضح رغبة وحشية وسادية في التخريب المجاني الذي يزيد ،، في أسعار بورصة اخلاقنا،، الرخيصة أصلا!
عدت إلى مكاني لتختلط في ذهني صور الأمس البعيد مع صور الحاضر، حيث لا شيء تغير في سلوك جل أهالينا رغم احتكاكهم اليومي بإنسان الشمال الذي يقدم نموذجا فريدا في الأخلاق تجعل منه قدوة رائدة في مجال المعاملات ، غير أن نوازع الشر ما زالت منتصرة فينا!
وصلنا ميناء ،، ألميرية،، في الصباح الباكر ليستقبلنا ضباب سميك لم تنفع معه إلا جودة الطرق وتجهيزاتها التي تتيح السفر بسلام إلا من ظلم.
عندما أشرقت الشمس وانقشع الضباب،بدأت أكتشف بشائر التغييرات التي عرفها هذا البلد خلال العقود الأربعة التي خلت.
لم ار أثرا للرعاة والفلاحين الذين كانوا يستعينون بالدواب يومئذ، بل وجدت الأرض قد خضعت لترويض منهجي حتى أجبر الإسبان ترابا ابيض لا يكاد يصلح لشيء على تقديم جنان فاتنة من كل أشجار الفواكه والخضر جعلت كل بقعة تنافس نظيرتها في إنتاج الأجود لساكنة أصبحت في غنى عن غيرها، بل تزودها بحاجياتها وبالشروط التي تروقها.
كنت أتأمل الحقول الخضراء التي أنسنتي في طول الرحلة لأجد نفسي فجاة في أحضان ،، مرسية،،التي أصبحت اليوم مدينة عملاقة تتوفر فيها كل المنتجات والمرافق والخدمات ووسائل الترفيه لتتحول الى قطب سياحي إلى جانب كونها قطبا فلاحيا متكاملا.
حللت ضيفا على أقارب ببلدة،، أرتشينا،،ذات الطابع الفلاحي، وتزامن وصولنا إلى هناك مع مناسبة دينية يوليها السكان عناية خاصة.
وهكذا، وفي صباح اليوم الموالي، لاحظت أن السكان قد وضعوا سلسلة من الكراسي أمام مساكنهم ليتمكنوا من متابعة وقائع الحفل البهيج الذي يتقدمه هودج محمول على الاكتاف يتولى رفعه شباب يرتدون لباسا معدا للمناسبة، وفوق الهودج مجسمات بحمولات ورموز دينية يرفل تحت أنغام فرقة نحاسية ترسل أنغاما شجية، وفي المقدمة والمؤخرة مسؤولون من مختلف المراكز الإدارية والدينية يمشون الهوينا وعلى سحناتهم علامات انضباط وروحانية لا تخطئها العين.
للإسبان طريقتهم في التعبير عن فرحتهم بالمناسبة الدينية، حيث يسارع الناس من كل الأعمار إلى تناول كميات هائلة من الخمور جعلت فتيات حسناوات لا يترددن في انتزاع ثيابهن لإفراغ مثانتهن مما تراكم فيها من جعة أمام أنظار الجميع وفي الشارع العام!
كنا نستعد لصلاة المغرب عندما تقدمت معظمهن الى مدخل المسجد يلتمسن السماح لهن بالتبول في مراحيضه، ولم أدر بما انتهى التفاوض بعدما دخلت!
أوضح لي مرافقي بان تبول الفتيات بهذه الطريقة، أمر مألوف في هذه المناسبة مما يجعل البلديات لا تتدخل حتى يمارس الناس حريتهم كاملة لتعود الأمور إلى نصابها بعدما تنقضي أيام الاحتفال.
وبالفعل، فقد غابت،، المتبولات،، في الشارع العام وعادت الحياة الى طبيعتها.
اصطحبني مضيفي إلى منطقتين يعمل فيهما بالتناوب، وهكذا، وبمجرد اقترابنا من الضيعة البعيدة ببضعة كلم عن البلدة ، إذ فوجئت بقطيع كامل من الارانب البرية يمارس شغبه على جنبات الطريق ولا أحد يجرؤ عل المساس به حتى تكاثر بشكل مهول، فتذكرت بلدتنا التي يغتال فيها كل شيء: الطبيعة بما ضمت!
انتقلنا إلى الجهة الأخرى حيث التكامل الاقتصادي الحقيقي الذي درسنا عنه في الجامعة قبل عقود خلت ،وكان حلما لم يكتب له التطبيق ببلدنا- رغم توفر كل الشروط- لأراه اليوم عند هؤلاء الذين كأني بهم سباقون الى تجسيد قوله تعالى:( فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه).
لقد مشوا في مناكب الأرض وجعلوا عاليها سافلها!
مررنا وسط حقول من اشجار الفواكه التي تستعد لعرض خيراتها لندخل وحدة صناعية تستقبل كل ما تنتجه الحقول لتجعله سلعة جاهزة للاستهلاك والتصدير بطريقة تجعلك تصاب بالدهشة لما تقوم به هذه الالات العجيبة من استقبال وفرز وتنظيف وتجميع في انسيابية لا حدود لها.
لقد أبدع المهندسون والفنيون ، بحيث لم تغب عن اذهانهم أدق التفاصيل، إلى درجة أنهم أعدوا مواقف للشاحنات بشكل يسمح لها بان تدخلها الرافعات الصغيرة لتصفف الصناديق بنظام بديع لتنطلق نحو وجهاتها في الوقت المحدد.
كان أستاذ الاقتصاد بالجامعة يستعرض علينا أشكال تبادل التاثير بين الصناعة والزراعة،حيث توفر الاخيرة المادة الاولية لتحولها الاولى الى مادة صناعية فتسهم في الرفع من الانتاج( المخصبات مثلا)مما يجعل كل واحدة منهما بحاجة الى الاخرى، بل مرتبطة بها، مما يسمح بالتشغيل ويحقق الاكتفاء الذاتي.
هذه نظريات عرفناها وأثارت إعجابنا، لكننا لا نراها إلا عند غيرنا!
حجزت تذكرة السفر عبرالحافلة في اتجاه العاصمة مدريد.
وفي الصباح دخلت المحطة الانيقة التي يسود فيها نظام بديع، وقبل أن استقل الحافلة، عرجت على مرافق النظافة حيث كانت امراة عجوز لا تكف عن الحركة وتنظيف دورات المياه لأصدم مرة اخرى بأفعال أهالينا التي لا يقف في طريقها شيء.
وجدت أبواب المراحيض محفورة بالخط العربي الدارج حيث سجل المستعملون حضورهم بشكل همجي( ولد لازاري، تحيا تاوريرت…)ناهيك عن الكلام النابي
غادرت المكان وأنا اقول في نفسي : كم يلزمنا من الوقت كي نتعلم احترام ممتلكات الغير على الأقل إذ كنا لا نستطيع ذلك في عقر دارنا؟
انطلقت الحافلة الرائقة تجوب حقولا لا نهاية لها، حيث استطاع الإسبانيون أن يجبروا أشجارا مختلفة على التعايش: الخوخ والتفاح والكرز والزيتون بجوار شجر البلوط؟ ولكنهم لم يستطيعوا التاثير في الإنسان المغربي حتى يستفيد من حضارتهم دون أن يخدش جماليتها!
كان السائق قد سمع توضيحات من مرافقي لأنني لا اعرف لغتهم، لذلك أشار علي بالنزول بمجرد أن توقفت الحافلة في محطة سوريالية لم أتجول بمرافقها لأتأكد مما إن كان أهلنا قد بصموها بدورها، وهو الأمر الذي لا استبعده!
ربما يتبع؟
تحياتي.

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *