Home»National»من سيرة ولد الجبال

من سيرة ولد الجبال

0
Shares
PinterestGoogle+

رمضان مصباح الادريسي

 » كم أضعنا أنفسنا في متاهة الحياة..ولكننا التقينا بها مصادفة ،ونحن ننبش ذكرياتنا..نحن ما ننسى فنغفوا في ذواتنا،أو ما نتذكر فنصحوا على فجائعنا وخيباتنا .
لم يكن الانسان يوما ما يأكل ويشرب؛فذلك تفعله الحيوانات والدواب.
اننا هنا نحاول أن نتذكر ،فنعيش من جديد ؛ولأن الذكريات استعادة للإنسانية ،حين تغيب في ممر السنين اللولبي ،خرجت من ذاتي العميقة ،لأروي لكم فصلا من حياتي بعد غياب طوعي طويل. »
أيمن العتوم:ياصاحِبَيِ السجن.

وجبة طعام هبة للدجاج:

في حضرته لم أكن أنعم إلا بالفتات من طعامي؛بهجتي الكبرى أن أطعمه ،ولو جائعا،للدجاج يطوف حولي،ويباغت صحني بنقرات متتالية،ومتلهفة.
تقبل الوالدة مسرعة،لتحول دون ما يقع: « آربي قاع تْشِناسث » : ياالهي لم يتركوا له شيئا. قد يكون ما أجود به فرِحا خبزا مغموسا،شربة،أو سُوَيقَ شعير بحليب،أو ماء.
الوالدة موزعة ،بجوار شجرة « ثاقة »، بين شغلها الريفي وحمايتي ،وقت الأكل، من دجاجها.
المهم ،بالنسبة لي ، ألا يعود الدجاج –وقد وقف ببابي – خائبا. أحيانا يتعلق الأمر بدجاجة تحرض صغارها على الفتك بطعامي؛فأسارع انا الى الانهزام بالنقرة الأولى.
وهل هي هزيمة أن تتحقق لك السعادة بمجرد غارات دجاجية؟
ذات يوم أقبل علينا ،في أزغوغ، الحاج رابح ،وهو عم للوالد والوالدة معا. عُرِفت عن الرجل ضحكاته المجلجلة،وحبه الكبير للوظائف المخزنية ،ذات الزي الرسمي؛وهذا ما يفسر توزع أبنائه ،في ما بعد ،على هذه الوظائف ؛وكم كان فخره كبيرا ،وهو يستقبلهم في عطلهم ،بكامل زيهم ؛كما كان يطلب منهم دائما. توزعت أبناؤه وظائف الجيش،الدرك،المياه والغابات،البريد..
أقبل الحاج رابح علينا ذات صباح ،حسب ما روته الوالدة، ليجد الطفل رمضان في استقباله ،وهو يعتمر قبعته « الرسمية « : صحن طعام فارغا مقلوبا على الرأس.
لقد أغار الدجاج صبحا ،واستقبله الكرم ،ورحبت به السعادة الطفولية – كالعادة – ولم يبق الآن غير استقبال عمي الحاج.
قهقه الرجل بملء فيه ،وهو يراني وسط الركح « المدشش » ؛ثم أردف مخاطبا والدي ووالدتي:
هذا الطفل سيكون له شأن كبير في المستقبل . لعل عمي رابح استفتى الصحن فوق رأسي ،ليكشف له عن نوع القبعة الرسمية التي تنتظرني.
طبعا لم يكن ليُخمن، وقتها ، حرفة الأدب الشاقة التي تنتظرني.
كانت اللحظة ،بالنسبة لي ،سعيدة ؛ليس لهذا أو ذالك ،ولكن لكوني وزعت كل « دشيشتي » على الدجاج.
بهجة نحل وعسل لم تكتمل:
كنا وقتها قد رحلنا من أزغوغ ،لنسكن « حوش القائد بلعيد » بدوار أولاد بوريمة؛بعد استقرار قصير الأمد ب »حوش النمل » بوجدة؛حيث حاول الوالد أن يتعاطى لتجارة الملابس البالية،لكنه أخفق، حسب ما يبدو، فعاد أدراجه الى مستفركي؛مثقلا بدين بنكي فرنسي،ظل يطارده لسنين؛حتى بعد الاستقلال.
كل ما غنمناه أنا وأخواي ،من هذا السكن المؤقت بوجدة،جوار « جامع الخيرية »هو استبدال لغتنا الأمازيغية بالعربية الدارجة. عَرَّبتنا وجدة،وغربتنا عن أمازيغية الزكارة،ونحن نعاود الاستقرار بها.
وفي الواقع لا أتذكرني ،ولا أخوي،وقتها ،وكل اخوتي في ما بعد،إلا ناطقين بالعربية الدارجة،دون أن يحول هذا من فهمنا التام للأمازيغية. ولعلنا كنا من طلائع الأطفال المُعَربين في هذه القبيلة،التي تكاد تُجمع اليوم على حمل أطفالها على التحدث بالعربية الدارجة،لتيسير تعلمهم،واندماجهم المدرسي.
لم تنقطع صلتنا بأزغوغ ،حيث يحتفظ الوالد،والى اليوم ،بنصيبه من الأرض المغروسة لوزا وزيتونا.
غاب عن ذاكرتي الآن ،ما الذي طلب منا الوالد أن نقوله ،أو نسلمه،أنا وأخي محمد ، لمحمدين ،حارس الأغراس بأزغوغ،من قبل ادارة المياه والغابات؛وقد كان يقيم بمنزلنا هناك.
وأنا أنتشل هذه الذكرى اليوم،من سواقي النسيان، أشعر وكأن حروف كلماتي تحولت الى أزهار وورود ،وهي الآن تسابقني،فتسبقني، الى منابتها البرية الأولى ، بأحراش وسهوب أزغوغ.
كان يوما ربيعيا مشمسا ،ان نسيت أغلب تفاصيله فلن أنس اقبالنا ،سعيدين كخروفي ربيع، على اقتلاع « التافغا » ،واقتطاع قبضات يد من نبات « تالما » اللذيذ،و الحفر الغائر عن بصيلات « تابقوقث ». حقا لقد رتعنا يومها -ذهابا وايابا- من « المرس يريماين » الى أزغوغ، كما كانت ترتع من حولنا ،قطعان الأغنام والماعز؛وسعدنا كما لم تسعد حتى القُبرات والحَسُّون،واليمام. كيف لا تفر مني حروفي الآن ،لتعاود سيرتها الربيعية ،ذات زمن طفولي موغل في الماضي؟
أتذكرنا عائدين ،نكاد نثغوا من شدة البهجة،لأننا أنجزنا المهمة؛ولأننا ،وهذا هو المهم، نتواجد طليقين كغزلان برية تكاد حوافرها لا تلمس الارض،خفة ورشاقة.
فجأة توقفنا ؛معا وفي وقت واحد: شيء ما غير عادي أمامنا.
ماذا ؟ سواد متحرك،منتشر على صخور بحافة الطريق.نقترب ثم نقترب؛هاهو الآن يزداد تذبذبا ،وينفصل بعضه عن بعض ؛وكأنه يستعد لصد هجوم وشيك الوقوع.
يصيح أخي محمد: قف مكانك ،لا تتحرك، انه النحل . تَسَمَّرنا واقفين ننتظر ما سيحصل،أما قلبانا فركبا جناحي طائر،من شدة الخفقان والخوف.
عاد الهدوء من جديد الى النحل ،وبدا أنه غير آبه بنا ،ولا بما عقدنا عليه العزم.
نقترب رويدا رويدا ،لنتلصص بحذر على ما يفضي اليه التجويف الصخري ؛الذي تأكدنا بأن النحل الوافد يلجه مسرعا. فارق السن جعل القرار بيد أخي،وان لم تكن له أي دراية بالنحل. يقترب أكثر ،وأنا امسك بتلابيبه ،رهبة وشوقا وشهية،في نفس الوقت.
أخيرا نطق: انظر الى أقراص العسل ،انظر اليه يكاد يفيض على الحواشي.
شعرنا وقتها أننا عثرنا على شيء مهم ،لا يقدر على جنيه غير الكبار؛لكن ما العمل؟
ما أن ندني أصابعنا من القرص القريب حتى تدب في النحل حركة مخيفة،ونسمع له طنينا متصاعدا ،وكأنه يحذرنا من الاقتراب أكثر. وما دامت الشهية الى العسل أقوى من الخوف ،فقد كانت لها الغلبة.
اقتطعنا سيقان نبات ،طويلة و مجوفة ،ثم هممنا بالشروع في سرقة العسل ،رغم كل التحذيرات،ورغم طيران بعض النحل – لعله المحارب – وطوافه حول رؤوسنا. اقتَرِبُ ،اقترب أكثر .أغمس ممصتي النباتية في العسل وأرشف.لا شيء يصل الى الحلق،لكثافة العسل. لما يئسنا من الرشف الفاشل قلبنا ممصتينا وشرعنا في لعق ما علق بهما .
توقف الزمن بالنسبة لنا ،وانعدم المكان،ولم يعد يهمنا منهما إلا هذا الشهي المتمنع .
لم ننتبه إلا والحارس محمدين يقترب منا ،وهو يبتسم مخاطبا:
ماذا وجدتما ،حتى أطلتما المكوث هنا؟ اني اراقبكما من بعيد. لما تيقن من لُقيانا ،وبدت عليه السعادة وهو يعاين قرص العسل الظاهر؛خاطبنا زاعما أنه في ملكيته،وحراسته ،منذ عثر عليه قبلنا بكثير.
« زَعْما لعَمْرُ أبيك ليس بِمزعم « كما قال الفارس عنترة.
في طفولتنا الجبلية،كنا نعتقد أن الكبار لا يكذبون ،وأن كلامهم أشد رسوخا من الجبال التي حولنا. صدقنا الحارس ،وأكملنا طريقنا الى المنزل ،ونحن نتحسر على بهجة لم تكتمل.
أخبرنا الوالد طبعا بمغامرتنا ،وغارتنا ، وغارة الحارس علينا وعلى النحل ؛ولم تحفظ ذاكرتي شيئا مما كان بين الوالد والحارس ،بخصوص عسلنا .
هل أهمل الوالد الأمر ،مكتفيا بسلامتنا؟ هل مكنه الحارس من نصيب ما؟ الله أعلم؟
كنز في حراسة شبح وثعبان: في حلقة لاحقة
www.mestferkiculture.com

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *